
النورسي والبعد الجمالي في أسلوبيات القرآن الكريم
Nursi and the Aesthetic Dimensions of the Qur'an's Literary Styles
–ABSTRACT–
Prof. Dr. 'Imaduddin Khalil
Types of miraculousness found in the Qur'an such as its eloquence, rhetoric, linguistic and artistic style; contain their own unique aesthetic style. Many scholars and researchers have dedicated a lot of studies around them. Nevertheless, they still need more attention because they address a book that is not in similitude to other books. Namely, it is the book of God that is inexhaustible and its wonders do not come to an end. It is the book that has always remained young, vital and new just like the first time it was revealed. It is the book which the Quraish infidels could not counter with any chapter or verse of its kind. Moreover, neither humans nor jinn have ever been able to come up with its similitude even if they gathered for that aim because it is the miraculous book revealed from God Almighty.
The rhetoric miracle of the Qura'n includes multiple and diverse elements, including meaning. The Holy Scripture of Qur'an possesses deep meanings on which prudent and clever minds would bewildered. In addition to deep meanings, the Qur'an possesses a distinguished style. Its style is unique and brilliant as well as marvelous and persuasive. No one has ever been able to imitate it neither will anyone ever be able to. The Quran is also superior in its wording as it is exceptional in terms of style and account. Its wording is eloquent and smooth. Its reader would never feel bored or unsatisfied. Many linguistics and scholars of eloquence testify to this fact. Moreover, it is distinguished by its pure declaration as the highest state of oratory. Nursi refers to the fact that man made laws and legislation get old, shift and change. On the contrary, the provisions of the Qur'an and its laws gain more fortitude and firmness so that they become more durable as time passes by.
Nursi believes that such profound methods in the Qur'an constitute two types of discourse. The first type targets polytheists in Mecca. They were illiterate and did not have a book. Thus, the verses revealed in Mecca dealt with the issue of faith and unity of God. The style which is used to address these important issues is supreme, brief and miraculous. The second type of rhetoric in the Qur'an addressed Jews and Christians who were the people of the book. They believed in God and revered His books. Thus, the verses and their style came in accordance with their state of faith. The style was easy, smooth and clear. That is why verses revealed in Medinah are usually adopting this easy and direct manner.
Key words: Risale-i Nur, Quran, Aesthetics, Rhetoric, Eloquence
* * *
– ملخص البحث –
أ.د. عماد الدين خليل1
تنطوي أصناف الإعجاز في القرآن الكريم ومنها البلاغي أو البياني أو الأدبي أو اللغوي أو الفني على جمالياته الخاصة، وقد تناولها علماء أجلة وكَتب فيها الباحثون الكثير من الدراسات، ومع ذلك فهي لازالت في حاجة إلى المزيد لأنها تتطرق لكتاب يختلف عن سائر الكتب، ألا وهو كتاب الله الذي لا ينضب ولا تنقضي عجائبه، والذي حافظ وما يزال يحافـظ على طراوته وشبابيته وغرابته مثلما نزل أول مرة، ورغم ذلك لم يستطع كفار قريش أن يأتوا بمثله ولا بسورة مثله ولا بآية مثله، بل يعجز الجن والإنس على الإتيان بمثله ولو اجتمعوا له، ولن يستطيعوا أن يأتوا بأقل من ذلك، لأنه الكتاب المعجز الذي أنزل من عند الله عز وجل.
ويتضمن الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم عناصر متعددة ومتنوعة، منها المعنى، فالكتاب الكريم يتحلى بمعاني عميقة ودقيقة يحار فيها العقل المتدبر والمتفكر، وكذلك نجد عنصر الأسلوب الذي يتميز به كتاب الله عز وجل، إنه غريب وبديع، كما هو عجيب ومقنع، لم يقلد أحدا قط ولا يستطيع أحد أن يقلده. وكذلك عنصر اللفظ، فالقرآن كما هو بليغ خارق من حيث أسلوبه وبيان معناه، فهو فصيح في غاية السلاسة في لفظه، والدليل علىى ذلك هو عدم إيراثه السأم والملل، كما يشهد علماء البيان والمعاني على ذلك، بالإضافة إلى عنصر البيان من حيث كونه أعلى مرتبة من مراتب الخطاب... ويشير الأستاذ إلى أن آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم، وتتغير وتتبدل، إلا أن أحكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر كلما مرت العصور.
يرى النورسي أن هذه الأساليب العميقة في القرآن الكريم تشكل نوعين من الخطاب يستهدف المعارضين في مكة وهم مشركو قريش وهم أميون لا كتاب لهم، فاقتضت البلاغة أسلوبا عاليا قويا، لذا بحثت أغلب السور المكية أركان الإيمان ومراتب التوحيد بأسلوب في غاية القوة والعلو وبإيجاز في غاية الإعجاز، فأثبتت أركان الإيمان إثباتا جعل علماء البلاغة يقفون حيارى مبهوتين أمام هذا الأسلوب المعجز. والنوع الثاني كان من اليهود والنصارى وهم أهل كتاب مؤمنون بالله، فاقتضت قواعد البلاغة وأساليب الإرشاد وأسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لهم مطابقا لواقع حالهم، فجاء بأسلوب سهل واضح سلس، لذا فغالبا ما نجد الآيات المدنية واضحة سلسة بأسلوب بياني معجز خاص بالقرآن الكريم.
* * *
تمهيد
الإعجاز البلاغي أو البياني أو الأدبي أو اللغوي أو الفني في القرآن الكريم ينطوي -كما هو معلوم- على جمالياته الخاصة. وقد كتب في ذلك الكثير، منذ فجر الدراسات القرآنية وحتى اللحظات الراهنة. وهو -مع ذلك- يتطلب المزيد بالنسبة لكتاب ليس كالكتب وظاهرة جمالية فريدة لا تنقضي عجائبها.
النورسي أدلى بدلوه هو الآخر، وكان هذا منطقي تماما بالنسبة لرجل تدفقت رسائله المائة والثلاثون من نبع كتاب الله المترع عذوبة وسخاء، ونسجت كلماتها على هديه.
وهو منطقي -مرة أخرى- لأن خلفيات الفكر النورسي تنبض بعشق الجمال، وتراه انعكاسا مدهشا للإبداع الإلهي في الكون.
وهو -أي النورسي- في وقفيته إزاء كتابي الكون المنظور والمقروء كان يولي اهتماما ملحوظا ومؤكدا لمتابعة الملامع والتشكيلات والقيم والمفردات الفنية والجمالية هنا وهناك. إنه مهندس معماري من طراز أول وإن المرء ليلمس وهو يجتاز رسائله كافة كيف أن رؤيته للعالم والأشياء والكلمات هو رؤية مهندس يلمح ببصيرة ثاقبة وخبرة عميقة عناصر التوازن والتناظر في معمار الكون الكبير والكلمة المعبرة.
وإذا كنا في بحوث أخرى قد تابعنا مرئيات النورسي الجمالية وهو يتعامل مع الكلمات، والكون والعالم،2 فإننا سنحاول هنا أن نؤشر على بعض ما أراد الرجل أن يقوله بخصوص كتاب الله.
ابتداءاً، نلحظ كيف أن النورسي تحرك وهو يتعامل مع النص القرآني ومعطياته الجمالية على خطين متوازيين، أو طبقتين تقوم إحداهما على الأخرى. فأما في أولاهما فقد عرض لجملة من الاستنتاجات "التنظيرية" -إذا صح التعبير- بخصوص ما سماه قدماؤنا "البلاغة القرآنية"، وما يسميه المعاصرون القيم الفنية أو الجمالية.
وأما في الثانية فقد نفذ محاولة تطبيقية من خلال تفسيره لعدد من صور القرآن أو مقاطعه أو آياته.
وبمقدور المرء ان يتابع السياق الثاني في كتابات النورسي كلها، وفي كتابي "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز"3 و"المثنوي العربي النوري"4 بوجه الخصوص.
والذي يهمنا هنا هو ما أسميناه بالتنظيرات، والتي تنتشر هو الأخرى في رسائله كافة ولكنها تتمركز بالدرجة الأولى في "الكلمات"5 حيث يخصص 120 صفحة لتقديم مرئياته عن الموضوع.
عالج النورسي جل المسائل والقيم الفنية والجمالية التي عني بها القدماء والمحدثون في دراساتهم البلاغية والأدبية والفنية واللغوية لكتاب الله، بدءاً من الجاحظ والزمخشري والسكاكي والجرجاني وصولا إلى الخولي وسيد قطب وبنت الشاطئ وعشرات بل مئات غير هؤلاء وهؤلاء... وهو لم يكد يترك واحدة من هذه القيم الفنية دون أن يقف عندها متأملا، مدققا، مستدعيا الشاهد الذي يؤكدها.
ومتابعة للموضوع يمكن أن يضع المرء يديه على المسائل التالية التي عالجها النورسي مستعينا بحساسيته المرهفة التي كانت تعينه على وضع يده على مظان الجمال في كتاب الله:
1- القيم أو المعطيات البلاغية.
2- ظاهرة التكرار.
3- عناصر الخطاب القرآني وطبقات المخاطبين.
1. القيم أو المعطيات البلاغية
ينطلق النورسي في تعامله مع "البلاغة" القرآنية، وإعجازها، من الخصائص التي أكدها القدماء والمحدثون: جزالة النظم وحسن متانته، وبداعة الأسلوب وغرابته وجودته، وبراعة البيان وتفوقه وصفوته، وقوة المعاني وصدقها، وفصاحة الألفاظ وسلاستها.6 مؤكدا أن "البيئة" التي تنـزل فيها القرآن كانت في أشد حالات فصاحتها الفطرية وبلاغتها المطبوعة تألقا وتمكنا.
لقد عوض العرب بغياب التدوين ذاكرة حادة، وسلامة في الأداء الشفاهي جعلتها يتعاملون مع "الكلمة" في سويتها التي لا يشوبها دخل. ولقد عبر شعرهم، ومعلقاتهم السبع التي وضعت على جدار الكعبة، عن المستوى "البلاغي" العالي الذي بلغوه. فلما تحداهم القرآن "لن يأتوا بمثله"، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة، وعجزوا عن الاستجابة، كان هذا بحد ذاته تأكيدا لمعجزة القرآن.7
كان هناك -كما يقول النورسي- دافعان في غاية القوة لمعارضة القرآن والإتيان بمثله. أولهما حرص الأعداء على معارضة كهذه، وثانيهما شغف الأصدقاء بتقليده. والنتيجة: لا شيء. وأصبحت محاولة كمحاولة مسيلمة الكذاب، رغم أنه من أصحاب البلاغة، مثلا يتندر به المتندرون وصورة من صور الهذيان الذي لا يستحق الالتفات.
بعدها يبدأ النورسي بتحليل عناصر الإعجاز البلاغي الخمسة فيبدأ بالنظم هذا الذي وقف عنده طويلا في كتابه المعروف "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز". ويضرب لذلك مثلا: عقارب الساعة العادة للثواني والدقائق والسعات والتي يكمل كل منها نظام الآخر "كذلك النظم في هيئات كل جملة من جمل القرآن، والنظام الذي في كلماته والانتظام الذي في مناسبة الجمال كل تجاه الآخر".8
إن النورسي يوظف هنا بعض معطيات ما يسميه المحدثون بنظرية النظم التي بلغت على يد عبد القاهر الجرجاني أقصى حالات اكتمالها في كتابيه المعروفين "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"... متابعة الارتباط أو العالقات الداخلية -إذا صح التعبير- في نسيج النص القرآني بين الكلمات والجمل والتعابير والأنساق، فيما عده البعض جهدا بنيويا بشكل من الأشكال.
وفي تفسيره لسورة البقرة في "إشارات الإعجاز" نفذ النورسي محاولة تطبيقية لنظرية النظم هذه في بعض جوانبها، ولكنه في "الكلمات"9 يكتفي بشواهد محددة فحسب حيث لا يتسع المجال للاستفاضة. ومن هذه الشواهد تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾الأنبياء:46 حيث يقول: "هذه الجملة مسوقة لإظهار هول العذاب، ولكن بإظهار التأثير الشديد لأقله، ولهذا فإن جميع هيئات الجملة التي تفيد التقليل تنظر إلى هذا التقليل وتمده بالقوة كي يظهر الهول: فلفظ 'لئن' هو للتشكيك، والشك يوحي القلة. ولفظ 'مس' هو إصابة قليلة يفيد القلة أيضا. ولفظ 'نفحة' مادته رائحة قليلة، فيفيد القلة، كما أن صيغته تدل على واحدة، أي واحدة صغيرة، كما في التعبير الصرفي -مصدر المرة- فيفيد القلة. وتنوين التنكير في 'نفحة' هي لتقليلها، بمعنى أنها شيء صغير إلى حد لا يعلم فينكر. ولفظ "من" هو للتبعيض، بمعنى جزء، فيفيد القلة. ولفظ 'عذاب' هو نوع خفيف من الجزاء بالنسبة إلى النكال والعقاب، فيشير إلى القلة. ولفظ 'ربك' بدلا من: القهار، الجبار، المنتقم، فيفيد القلة أيضاً وذلك بإحساسه الشفقة والرحمة. وهكذا تفيد الجملة أنه: إذا كان العذاب شديدا ومؤثرا مع هذه القلة، فكيف يكون هول العقاب الإلهي؟ فتأمل في الجملة لترى كيف تتجاوب الهيئات الصغيرة، فيعين كل الآخر، فكل يمد المقصد لجهته الخاصة".10
ولا ينسى النورسي أن يشير إلى الأسباب التي قد تخل في الحالات الاعتيادية بقدرة الخطاب على الاحتفاظ بسلامة "نظـمه" من الخلل والاضطراب. أما في كتاب الله فإن الإعجاز القرآني يعرف كيف يتمثلها ويطويها.
فهناك ما يقارب تسعة أسباب "إذ إن القرآن المبين نزل في ثلاث وعشرين سنة نجما نجما لمواقع الحاجات نزولا متفرقا متقطعا، مع أنه يظهر من التلاؤم الكامل كأنه نزل دفعة واحدة. وأيضا أنه نزل في ثلاث وعشرين سنة لأسباب نزول مختلفة متباينة، مع أنه يظهر من التساند التام كأنه نزل لسبب واحد. وأيضا أنه جاء جوابا لأسئلة مكررة متفاوتة، مع أنه يظهر من الامتزاج التام والاتحاد الكامل كأنه جواب عن سؤال واحد. وأيضا أنه جاء بيانا لأحكام حوادث متعددة متغايرة، مع أنه يبين من الانتظام الكامل كأنه بيان لحادثة واحدة. وأيضا أنه نزل متضمنا لتنـزلات كلامية إلهية في أساليب تناسب أفهام مخاطبين لا يحصرون، ومن حالات من التلقي متخالفة متنوعة، مع أنه يبين من السلاسة اللطيفة والتماثل الجميل كأن الحالة واحدة والفهم واحد، حتى تجري السلاسة كالماء السلسبيل، وأيضا أنه جاء مكلما متوجها إلى أصناف متعددة متباعدة من المخاطبين، مع أنه يظهر من سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الأفهام كأن المخاطبين صنف واحد بحيث يظن كل صنف أنه المخاطب وحده بالأصالة. وأيضا أنه نزل هاديا وموصلا إلى غايات إرشادية متدرجة متفاوتة، مع أنه يبين من الاستقامة الكاملة والموازنة الدقيقة والانتظام الجميل كان المقصد واحد. فهذه الأسباب مع أنها أسباب للتشويش واختلال المعنى والمبنى إلا أنه استخدمت في إظهار إعجاز بيان القرآن وسلاسته وتناسبه..."11
المعنى هو العنصر الآخر في الإعجاز البلاغي للقرآن..
تصور نفسك -يقول النورسي- "قبل مجيء نور القرآن، في ذلك العصر الجاهلي، وفي صحراء البداوة والجهل، فبينما تجد كل شيء قد أسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولف بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد بصدى قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلّٰهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ﴾الحديد:1 أو ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾الإسراء:44 قد دبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة بصدى 'سبح' و'تسبح' في أذهان السامعين فتنهض مسبحة ذاكرة لله. وأن وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجوم جامدة، والأرض التي تدب فيها مخلوقات عاجزة، تتحول في نظر السامعين بصدى 'تسبح' وبنوره إلى فم ذاكر لله، كل نجم يشع نور الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بالغة. ويتحول وجه الأرض بذلك الصدى السماوي ونوره إلى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبحة حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة".12
إن معاني القرآن كلها، بفضاءاتها الفسيحة، يقدمها الخطاب القرآني للناس في كل زمان ومكان بأسلوبياته المتميزة التي هي وحدها كفاء لمضامين هذا الخطاب.
وهذا ينقلنا إلى العنصر الثالث في الإعجاز البلاغي لكتاب الله: الأسلوب.. إنه غريب وبديع، كما هو عجيب ومقنع "لم يقلد أحدا قط ولا يستطيع أحد أن يقلده. ولقد حافظ وما يزال يحافـظ على طراوته وشبابيته وغرابته مثلما نزل أول مرة".13
وكعادته يضرب النورسي على ذلك الأمثال: "إن سورة النبأ: 'عم يتساءلون...' إذا أنعم النظر فيها فإنه تصف وتثبت أحوال الإرادة والحشر والجنة وجهنم بأسلوب بديع يطمئن القلب ويقنعه، حيث تبين أن ما في هذه الدنيا من أفعال إلهية وآثار ربانية متوجهة إلى كل من تلك الأحوال الأخروية. ولما كان إيضاح أسلوب السورة كلها يطول علينا، فسنشير إلى نقطة أو نقطتين منه:
"تقول السورة في مستهلها إثباتا ليوم القيامة: لقد جعلنا الأرض لكم مهدا قد بسط بسطا جميلا زاهيا، والجبال أعمدة وأوتادا مليئة بالخزائن لمساكنكم وحياتكم، وخلقناكم أزواجا تتحابون فيما بينكم ويأنس بعضكم ببعض. وجعلنا الليل ساترا لكم لتخلدوا إلى الراحة، والنهار ميدانا لمعيشتكم، والشمس مصباحا مضيئا ومدفئا لكم. وأنزلنا من السحب لكم ماء باعثا على الحياة يجري مجرى العيون. وننشئ بسهولة من ماء بسيط أشياء شتى من مزهر ومثمر يحمل أرزاقكم. فإذا يوم الفصل -وهو يوم القيامة- ينتظركم. وإن إتيانه ليس بعسير علينا.
"وبعد ذلك يشير إشارة خفية إلى إثبات ما يحدث في يوم القيامة من سير الجبال وتناثرها، وتشقق السماوات وتهيؤ جهنم، ومنح الجنة أهلها الرياض الجميلة. وكأنه يقول: إن الذي يفعل هذه الأفعال في الجبال والأرض بمرأى منكم سيفعل مثلها في الآخرة. أي إن ما في بداية السورة من جبال تشير إلى أحوال الجبال يوم القيامة وإن الحدائق التي في صدر السورة تشير إلى رياض الجنة في الآخرة. فقس سائر النقاط على هذا لتشاهد علو الأسلوب ومدى لطافته".14
وفي مكان آخر يقف النورسي طويلا عند إحدى الخصائص الأسلوبية للقرآن، تلك هي "جامعيته" المثيرة للدهشة "حتى إن سورة واحدة تتضمن بحر القرآن العظيم الذي ضم الكون بين جوانحه وإن آية واحدة تضم خزينة تلك السورة. وإن أكثر الآيات - كل منها- كسورة صغيرة، وأكثر السور -كل منها- كقرآن صغير. فمن هذا الإيجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للإرشاد وتسهيل واسع جميل. لأن كل إنسان على الرغم من حاجته إلى تلاوة القرآن كل وقت فإنه قد لا يتاح له تلاوته.. فلكي لا يحرم أحد من القرآن فإن كل سورة في حكم قرآن صغير. بل كل آية طويلة في مقام سورة قصيرة، حتى إن أهل الكشف متفقون أن القرآن في الفاتحة والفاتحة في البسملة. أما البرهان على هذا فهو إجماع اهل التحقيق العلماء".15
أما العنصر الرابع فهو "اللفظ": "نعم، إن القرآن كما هو بليغ خارق من حيث أسلوبه وبيان معناه، فهو فصيح في غاية السلاسة في لفظه، والدليل القاطع على فصاحته هو عدم إيراثه السأم والملل، كما أن شهادة علماء البيان والمعاني برهان باهر على حكمة فصاحته".
ويمضي النورسي إلى القول بأنه "لو كرر ألوف المرات فإنه لا يورث سأما ولا مللاً. بل يزيد لذة وحلاوة. ثم إنه لا يثقل على ذهن صبي بسيط فيستطيع حفظه، ولا تسأم منه أُذن المصاب بداء عضال الذي يتأذى بأدنى كلام بل يتلذذ به وكأنه الشراب العذب".16
ويبحث النورسي عن الأسباب وراء تألق اللفظ القرآني ويقول: "إن القرآن قوت وغذاء للقلوب، وقوة وغذاء للعقول، وماء وضياء للأرواح، ودواء وشفاء للنفوس، لذا لا يمل.. إنه حق وحقيقة وصدق وهدى".17 ويضرب على ذلك مثلا آية واحدة من سورة آل عمران: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.آل عمران:154
"لقد جمعت هذه الآية جميع حروف الهجاء وأجناس الحروف الثقيلة، ومع ذلك لم يفقدها هذا الجمع سلاستها بل زادها بهاءً إلى جمالها، ومزج نغمة من الفصاحة نبعت من أوتار متناسبة متنوعة".
"فأنعم النظر في هذه اللمعة ذات الإعجاز وهي: أن الألف والياء لأنهما أخف حروف الهجاء، وتنقلب احداهما بالأخرى كأنهما اختان تكرر كل منهما احدى وعشرين مرة، وان الميم والنون -والتنوين أيضاً نون- لأنهما أختان، ويمكن أن تحل إحداهما محل الأخرى، فقد ذكر كل منهما ثلاثا وثلاثين مرة. وأن الصاد والسين والشين، متآخية حسب المخرج والصفة والصوت فذكر كل واحد منها ثلاث مرات. وأن العين والغين متآخيتان فذكر العين ست مرات لخفتها بينما الغين لثقلها ذكرت ثلاث مرات أي نصفه. وأن الطاء والظاء والذال والزاي متآخية حسب المخرج والصفة والصوت، فذكر كل واحد منها مرتين. وأن اللام والألف متحدتان في صورة 'لا' وأن حصة الألف نصف في صورة 'لا' فذكرت اللام اثنتين وأربعين مرة وذكرت الألف -نصفه- إحدى وعشرين مرة... وهكذا فإن هذه الحروف بهذا الوضع المنتظم الخارق، مع تلك المناسبات الخفية، والانتظام الجميل، والنظام الدقيق، والانسجام اللطيف، تثبت بيقين جازم كحاصل ضرب إثنين في إثنين يساوى أربعا: إنه ليس من شأن البشر ولا يمكن أن يفعله. أما المصادفة فمحال أن تلعب به..."18
وما دام النورسي يتعامل ها هنا مع "الألفاظ" فإنه يجد نفسه ملزما بالرجوع كرة أخرى إلى "النظم" القرآني الفريد: "نعم، إن الالفاظ القرآنية قد وضعت وضعا بحيث إن لكل كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى السكون أحيانا وجوها كثيرة جدا، تمنح كل مخاطب حظه ونصيبه من أبواب مختلفة. فمثلا: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾.النبأ:7 فحظ عامي من هذا الكلام أنه: يرى الجبال كالأوتاد المغروزة في الأرض كما هو ظاهر أمام عينه، فيتأمل ما فيها من نعم وفوائد ويشكر خالقه. وحصة شاعر من هذا الكلام أنه: يتخيل أن الأرض سهل منبسط، وقبة السماء عبارة عن خيمة عظيمة خضراء ضربت عليه، وزينت الخيمة بمصابيح، وأن الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الأفق، تمس قممها أذيال السماء، وكأنها أوتاد تلك الخيمة العظيمة، فتعمره الحيرة والإعجاب ويقدس الصانع الجليل.
"اما البدوي البليغ فحصته من هذا الكلام أنه: يتصور سطح الأرض كصحراء واسعة، وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيم كثيرة بأنواع شتى لمخلوقات متنوعة، حتى إن طبقة التراب عبارة عن غطاء أُلقي على تلك الأوتاد المرتفعة فرفعتها برؤوسها الحادة، جاعلة منها مساكن مختلفة لأنواع شتى من المخلوقات. وكذا يفهم فيسجد للفاطر الجليل سجدة حيرة وإعجاب بجعله تلك المخلوقات العظيمة كأنها خيام ضربت على الأرض.
"اما الجغرافي الأديب فحصته من هذا الكلام أن: كرة الأرض عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر المحيط الهوائي أو الأثيري. وأن الجبال أوتاد دقت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة. هكذا يفكر الجغرافي ويقول أمام عظمة القدير ذي الكمال الذي جعل الكرة الأرضية الضخمة سفينة منتظمة وأركبنا فيها، لتجري بنا في آفاق العالم: 'سبحانك ما أعظم شأنك' ".
"اما المتخصص في أمور المجتمع والملم بمتطلبات الحضارة الحديثة فحصته من هذا الكلام أنه: يفهم الأرض عبارة عن مسكن، وأن عماد حياة هذا المسكن هو حياة ذوي الحياة، وان عماد تلك الحياة هو الماء والهواء والتراب التي هي شرائط الحياة. وأن عماد هذه الثلاثة هو الجبال، لأن الجبل مخازن الماء، مشاطة الهواء ومصفاته -إذ ترسب الغازات المضرة- وحامية التراب -إذ تحميه من استيلاء البحر والتوحل- وخزينة لسائر ما تقتضيه حياة الإنسان. هكذا يفهم فيحمد ويقدس ذلكم الصانع ذا الجلال والإكرام الذي جعل هذه الجبال العملاقة أوتادا ومخازن معايشنا على الأرض التي هي مسكن حياتنا.
"وحصة فيلسوف طبيعي من هذا الكلام: إنه يدرك أن الامتزاجات والانقلابات والزلازل التي تحصل في باطن الأرض تجد استقرارها وسكونها بظهور الجبال، فتكون الجبال سببا لهدوء الأرض واستقرارها حول محورها ومدارها وعدم عدولها عن مدارها السنوي وكأن الأرض تتنفس بمنافذ الجبال فيخف غضبها وتسكن حدتها. هكذا يفهم ويطمئن ويلج في الإيمان قائلا: الحكمة لله".19
اما العنصر الخامس وهو البيان فيقف عندها طويلا باعتباره جماع العناصر كافة.
إنه أعلى مرتبة من مراتب طبقات الخطاب وأقسام الكلام: كالترغيب والترهيب، والمدح والذم، والإثبات والإرشاد، والإفهام والإفحام.20
وهو يضرب لكل غرض من هذه الاغراض مثلا أو اثنين لتأكيد تفرد البيان القرآني: "فمن بين آلاف أمثلة مقام 'الترغيب والتشويق' سورة 'الإنسان' إذ بيان القرآن في هذه السورة سلس ينساب كالسلسبيل، ولذيذ كثمار الجنة، وجميل كحلل الحور العين. ومن بين الأمثلة التي لا تحد لمقام 'الترهيب والتهديد' مقدمة سورة 'الغاشية' إذ بيان القرآن في هذه السورة يؤثر تأثير غليان الرصاص في صماخ الضالين، ولهيب النار في عقولهم، وكالزقوم في حلوقهم، وكلفح جهنم في وجوههم، وكالضريع الشائك في بطونهم. نعم، إن كانت مأمورة العذاب جهنم ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾الملك:8 فكيف يكون تهديد وترهيب آمرها بالعذاب؟
"ومن بين آلاف أمثلة مقام 'المدح' السور الخمس المستهلة بـ 'الحمد لله' إذ بيان القرآن في هذه السورة ساطع كالشمس، مزين كالنجوم، مهيب كالسماوات والأرض، محبوب مأنوس كالملائكة، لطيف رؤوف كالرحمة على الصغار في الدنيا، وجميل بهية كالجنة اللطيفة في الآخرة.
"ومن بين آلاف أمثلة مقام 'الذم والزجر' الآية الكريمة: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.الحجرات:12
"تنهى هذه الآية الكريمة عن الغيبة بست مرات وتزجر عنها بشدة وعنف، وحيث إن خطاب الآية موجه إلى المغتابين فيكون المعنى كالآتي: إن الهمزة الموجودة في البداية، للاستفهام الإنكاري حيث يسري حكمه ويسيل كالماء إلى جميع كلمات الآية، فكل كلمة منها تتضمن حكما. ففي الكلمة الأولى تخاطب الآية الكريمة بالهمزة: أليس لكم عقل -وهو محل السؤال والجواب- ليعي هذا الأمر القبيح؟ وفي الكلمة الثانية: 'أيحب' تخاطب الآية بالهمزة. هل فسد قلبكم -وهو محل الحب والبغض- حتى أصبح يحب أكره الأشياء وأشدها تنفيرا. وفي الكلمة الثالثة: 'أحدكم' تخاطب بالهمزة: ماذا جرى لحياتكم الاجتماعية -التي تستمد حيويتها من حيوية الجماعة- وما بال مدنيتكم وحضارتكم حتى أصبحت ترضى بما يسمم حياتكم ويعكر صفوكم. وفي الكلمة الرابعة 'أن يأكل لحم' تخاطب بالهمزة: ماذا أصابت إنسانيتكم؟ حتى أصبحتم تفترسون صديقكم الحميم. وفي الكلمة الخامسة: 'أخيه' تخاطب بالهمزة: أليس بكم رأفة ببني جنسكم، أليس لكم صلة رحم تربطكم معهم، حتى أصبحتم تفتكون بمن هو أخوكم من عدة جهات، وتنهشون شخصه المعنوي المظلوم نهشا قاسيا، أيملك عقلا من يعض عضوا من جسمه؟ أوَ ليس هو بمجنون؟ وفي الكلمة السادسة: 'ميتا' تخاطب بالهمزة: أين وجدانكم؟ أفسدت فطرتكم حتى أصبحتم تجترحون أبغض الأشياء وأفسدها -وهو أكل لحم أخيكم- في الوقت الذي هو جدير بكل احترام وتوقير".21
ثم يخلص النورسي إلى القول بأن هذه الآية يفهم منها "وبما ذكرناه من دلائل مختلفة في كلماتها، أن الغيبة مذمومة عقلا وقلبا وإنسانية ووجدانا وفطرة وملة. فتدبر هذه الآية الكريمة، وانظر كيف أنها تزجر عن جريمة الغيبة بإعجاز بالغ وبإيجاز شديد".22
(2) التكرار
ليس القرآن الكريم عملا "بحثيا" يسعى للتعامل مع مشكلة ما أو قضية محددة، فيحاول استقصاء مفرداتها ودراستها وتحليلها والوصول إلى النتائج بأكبر قدر من التركيز والاقتصاد في اللغة، كما هو شأن الدراسات المعروفة في دائرة ما يصطلح عليه بالعلوم الإنسانية، ولكنه خطاب عقدي وتشريعي ودعوي ينطوي على التأسيسات العقدية، والمعطيات التشريعية، وأساليب النشاط الدعوي. وهو من أجل تأكيد مطالبه وإضاءتها يتعامل مع المنظور الكوني أو الطبيعي حينا، ومع الخبرة التاريخية حينا آخر، ومع المؤثرات العقلية أو الحسية أو الوجدانية حينا ثالثا. ويتجاوز هذا كله في حالات أخرى إلى ما وراء الزمن والمكان والمنظـور باتجاه يوم الحساب، بمتغيراته وأهواله، بنعيمه وعذابه، وبجنته وناره…
ومن ثم يغدو التكرار ليس "زيادات" في التعبير، وتبذيرا في اللغة لا مبرر لها، وحاشا لكتاب الله، وإنما ضرورة منهجية وأسلوبية في الوقت نفسه... ويعاد عرض "اللقطة" أو "الحالة" أو الخبرة" أو "التجربة" مرة ومرتين وثلاثا لتحقيق غرض مقصود هو تأكيد القيمة المطلوبة، بكسر جدران الغفلة والنسيان، وحواجز الألفة والاعتياد وأكداس الرين والصدأ.
إنها -إذا جاز التشبيه- أشبه بعملية غسيل عقلي وروحي ووجداني وحسي، حيث يسكب الماء المطهر مرتين وثلاثا من أجل إعادة الخبرة البشرية إلى نبضها وألقها ودهشتها وانفعالها قبالة العالم والوجود والطبيعة والكون والتاريخ والأبدية.
هذا إلى أن التكرار القرآني، وفق المنطوق الفني الصرف، ليس في حقيقته تكرارا نمطيا يعيد المفردات والوقائع والمرئيات نفسها المرة تلو المرة، ولكنه تحويل لزاوية الرؤية من مكان إلى مكان، وتقديم معطيات جديدة -أو في الأقل- إتاحة الفرصة لمشاهدة جوانب مضافة من "الحالة" التي تتعامل معها كلمات الله.
إنها -إذا جازت التسمية- نوع من السيناريو ذي اللقطات المتنوعة التي يمكن ترتيبها وفق منظور زمني، أو موضوعي، أو مكاني، أن تعطي القارئ عرضا متكاملا مترعا بالتفاصيل والمتغيرات.
فإذا انتقلنا إلى الدائرة الثالثة، وهي الدائرة الأدبية أو البلاغية الصرفة، وجدنا التكرار صيغة جمالية أو أسلوبا بلاغيا يتفق النقاد على ضرورته في الخطاب الأدبي لتحقيق جملة مقاصد تستهدف خدمة هذا الخطاب.
ولقد كتب في ظاهرة التكرار القرآني هذه، الكثير، وكان النورسي أحد الذين أدلوا بدلوهم في الموضع على طريقته المتميزة.
إنه يلحظ -ابتداء- كيف أن الخطاب القرآني يتوجه إلى طبقات شتى من المخاطبين، وبما أنه كتاب دعوة وعقيدة، فإن التكرار يغدو ضروريا لتحقيق مقاصده وتأكيدها، ليس هذا فحسب، بل إنه يصير جزء من النسيج البلاغي للقرآن، لكونه الأسلوب الملائم للخطاب.
إن القرآن الكريم، يقول النورسي: "يظهر نوعا من إعجازه البديع في تكراره البليغ لجملة واحدة، أو لقصة واحدة، وذلك عند إرشاده طبقات متباينة من المخاطبين إلى معان عدة وعبر كثيرة في تلك الآية أو القصة، فاقتضى التكرار حيث إنه كتاب دعاء ودعوة، كما أنه كتاب ذكر وتوحيد. وكل من هذا يقتضي التكرار. فكل ما كرر في القرآن الكريم -إذاً- من آية أو قصة إنما يشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة".23
ثم إن تكرار الحاجة يستلزم التكرار "هذه قاعدة ثابتة -كما يؤكد النورسي- لذا فقد أجاب القرآن الكريم عن أسئلة مكررة كثيرة خلال عشرين سنة فأرشد بإجاباته المكررة طبقات كثيرة متباينة من المخاطبين. فهو يكرر جملا تملك ألوف النتائج، ويكرر إرشادات هي نتيجة لأدلة لا حد لها، وذلك عند ترسيخه في الأذهان وتقريره في القلوب ما سيجده من انقلاب عظيم وتبدل رهيب في العالم وما سيصيبه من دمار وتفتت الأجزاء، وما سيعقبه من بناء الآخرة الخالدة بدلا من هذا العالم الفاني".24
وقد تقتضي بعض المعاني والقيم والحقائق تكرارا لكشفها وتأكيدها من مثل حاكمية الله سبحانه وتحريمه الظلم، فهو "يكرر الجمل والآيات -مثلا- عند إثباته أن جميع الجزئيات والكليات ابتداء من الذرات إلى النجوم إنما هي في قبضة واحد أحد سبحانه وضمن تصرفه جل شأنه" وهو يكررها "عند بيان الغضب الإلهي والسخط الرباني على الإنسان المرتكب للمظالم عند خرقه الغاية من الخلق، تلك المظالم التي تثير هيجان الكائنات والأرض والسماء والعناصر وتؤجج غضبها على مقترفيها".25
هنالك -أيضا- حقائق وظواهر لا تقل خطورة تقتضي الكشف بالتأكيد والتكرار، وتظل تتطلب المزيد. ومن هذه الحقائق الانقلاب الكوني العظيم الذي تطوي به صفحة الحياة الدنيا: "فلو قام القرآن الكريم بتوجيه الأنظار إلى الانقلابات المدهشة في ذلك اليوم، وحمل الآخرين على تصديق تلك المسألة العظيمة... الآف المرات فكرر تلك المسائل ملايين المرات، لا يعد ذلك منه إسرافا في البلاغة قط، كما أنه لا يولد سأما ولا مللا البتة، بل لا تنقطع الحاجة إلى تكرار تلاوتها في القرآن الكريم حيث ليس هناك أهم ولا أعظم مسألة في الوجود من التوحيد والآخرة".26
إنه سعي موصول لإقناع المخاطبين بهذه الحقائق الكبرى وذلك بإقامة الحجج الدامغة، الأمر الذي يعمق في الأذهان والقلوب تلك التحولات العظيمة والتبدلات الضخمة في الكون، ويجعلها أمامهم سهلة واضحة كتبدل المنـزل وتغير شكله. فلا بد أن لفت الأنظار إلى هذه المسائل -صراحة وضمنا وإشارة- بألوف المرات ضروري جدا كضرورة الإنسان إلى نعمة الخبز والهواء والضياء التي تتكرر حاجته إليها دائما".27
لذا، مرة أخرى، كان "تكرار تلك الجمل والآيات عند بيان أمثال هذه الأمور العظيمة الهائلة، لا يعد نقصا في البلاغة قط، بل هو إعجاز في غاية الروعة والإبداع، وبلاغة في غاية العلو والرفعة، وجزالة، بل فصاحة مطابقة تطابقا تاما لمقتضى الحال".28
وهو يضرب على ذلك جملة أمثلة كشواهد فحسب مما يحفل به النص القرآني: "إن جملة "بسم الله الرحمن الرحيم" هي آية واحدة تتكرر مائة وأربع عشر مرة في القرآن الكريم ذلك لأنها حقيقة كبرى تملأ الكون نورا وضياءً ونشد الفرش بالعرش برباط وثيق.. فما من أحد إلا هو بحاجة مسيسة إلى هذه الحقيقة في كل حين، فلو تكررت هذه الحقيقة العظمي ملايين المرات، فالحاجة ما زالت قائمة باقية لا ترتوي. إذ ليست هي حاجة يومية كالخبز، بل هي أيضاً كالهواء والضياء الذي يضطر اليه ويشتاق كل دقيقة.
"وإن الآية الكريمة ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾الشعراء:9 تتكرر ثماني مرات في سورة "الشعراء" فتكرار هذه الآية العظيمة التي تنطوي على ألوف الحقائق في سورة تذكر نجاة الأنبياء عليهم السلام وعذاب أقوامهم، إنما هو لبيان: أن مظالم أقوامهم تمس الغاية من الخلق، وتتعرض إلى عظمة الربوبية المطلقة، فتقضي العزة الربانية عذاب تلك الأقوام الظالمة مثلما تقتضي الرحمة الإلهية نجاة الأنبياء عليهم السلام. فلو تكررت هذه الآية ألوف المرات لما انقضت الحاجة والشوق إليها، فالتكرار هنا بلاغة راقية ذات إعجاز وإيجاز.
"وكذلك الآية الكريمة ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ المكررة في سورة "الرحمن" والآية الكريمة ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ المكررة في سورة المرسلات، تصرخ كل منهما في وجه العصور قاطبة وتعلن إعلانا صريحا في أقطار السماوات والأرض أن كفر الجن والإنس وجحودهم بالنعم الإلهية، ومظالمهم الشنيعة، يثير غضب الكائنات ويجعل الأرض والسماوات في حنق وغيظ عليهم.. ويخل بحكمة خلق العالم والقصد منه، ويتجاوز حقوق المخلوقات كافة ويتعدى عليها، ويستخف بعظمة الألوهية وينكرها، لذا فهاتان الآيتان ترتبطان بألوف من امثال هذه الحقائق، ولهما من الاهمية ما لألوف المسائل وقوتها، لو تكررتا ألوف المرات في خطاب عام موجه إلى الجن والإنس لكانت الضرورة قائمة بعد، والحاجة إليها ما زالت موجودة باقية، فالتكرار هنا بلاغة موجزة جليلة ومعجزة جميلة".29
ويخلص النورسي إلى القول "بأننا نرى أمثال هذه الأسس فيما تشتمل عليه أنواع التكرار في القرآن الكريم، حتى نرى أنه يعبر أكثر من عشرين مرة عن حقيقة التوحيد -صراحة أو ضمنا- في صحيفة واحدة من المصحف، وذلك حسب اقتضاء المقام ولزوم الحاجة إلى الإفهام، وبلاغة البيان، فيهيج بالتكرار الشوق إلى تكرار التلاوة ويمد به البلاغة قوة وسموا، من دون أن يورث سأما أو مللا".30
وليس المعطى القرآني طبقة واحدة وإنما هو طبقات يعلو بعضها بعضا، ويخفي بعضها بعضا. والمعنى الواحد فيه ينطوي على منظومة من القيم والمعاني.. إن دلالاته المركزة لا تمنح معانيها -أحيانا- للوهلة الأولى، ولكن بتكرار القول فيها، هذا التكرار الذي لا يجيئ تأكيدا فحسب، ولكن إضاءة وكشفا في الوقت نفسه: "إن كل وقت وكل يوم إنما هو عالم يمضي وباب ينفتح لعالم جديد، لذا فإن تكرار "لا إله إلا الله" بشوق الحاجة إليها ألوف المرات لأجل إضاءة تلك العوالم السيارة كلها وإنارتها بنور الايمان، يجعل تلك الجملة التوحيدية كأنها سراج منير في سماء تلك العوالم والأيام. فكما أن الأمر هكذا في "لا إله إلا لله" كذلك تلاوة القرآن الكريم فهي تبدد الظلام المخيم على تلك الكثرة الكاثرة من المشاهد السارية، وعلي تلك العوالم السيارة المتجددة، وتزيل التشوه والقبح عن صورها المنعكسة في مرآة الحياة، وتجعل تلك الأوضاع المقبلة شهوداً له يوم القيامة لا شهودا عليه، وترقيه إلى مرتبة معرفة عظم جزاء الجنايات، وتجعله يدرك قيمة النذر المخيفة لسلطان الأزل والأبد التي تشتت عناد الظالمين الطغاة، وتشوقه إلى الخلاص من طغيان النفس الأمارة بالسوء... فلأجل هذه الحكم كلها يكرر القرآن الكريم ما يكرر في غاية الحكمة، مظهرا أن النذر القرآنية الكثيرة إلى هذا القدر، وبهذه القوة والشدة والتكرار حقيقة عظمى، ينهزم الشيطان من توهمها باطلا ويهرب من تخليلها عبثا. نعم إن عذاب جهنم لهو عين العدالة لأولئك الكفار الذين لا يعيرون للنذر سمعاً".31
ولا ينسى النورسي أن يقف عند قصص الأنبياء (عليهم السلام) وما تتضمنه من التكرار فيرى أن الحكمة - مثلا في "تكرار قصة موسى التي لها من الحكم والفوائد ما لعصا موسى، وكذا الحكمة في تكرار قصص الأنبياء انما هي لإثبات الرسالة الاحمدية وذلك بإظهار نبوة الأنبياء جميعهم حجة على أحقية الرسالة الأحمدية وصدقها، حيث لا يمكن أن ينكرها إلا من ينكر نبوتهم جميعا. فذكرها إذن دليل على الرسالة. ثم إن كثيرا من الناس لا يستطيعون كل حين ولا يوفقون إلى تلاوة القرآن الكريم كله، بل يكتفون بما تيسر لهم منه. ومن هنا تبدو الحكمة واضحة في جعل كل سورة مطولة ومتوسطة بمثابة قرآن مصغر، ومن ثم تكرار القصص فيها بمثل تكرار أركان الإيمان الضرورية. أي أن تكرار هذه القصص هو مقتضى البلاغة وليس فيه إسراف قط. زد على ذلك فإن فيه تعليما بأن حادثة ظهور محمد صلى الله عليه وسلم أعظم حادثة للبشرية، وأجل مسالة من مسائل الكون".32
خلاصة القول في المنظور النورسي للتكرار في كتاب الله سبحانه، أنه -فضلا عن ضرورته في التعامل مع المضامين القرآنية- فإنه يحمل في الوقت نفسه قيمة جمالية أو بلاغية تجئ متممة لجماليات السياقات المختلفة. ويكفي تدليلا على دوره المزدوج هذا أن تكرار تلاوة النص القرآني، على ما في مقاطع النص نفسه من تكرار، لم يورث القارئين يوما، على مدار الأماكن والأزمان، سأما أو مللاً، وحاشا لكتاب الله!.
إنها خبرة شخصية نعرفها جميعها، ومذاقا عذبا ارتوينا منه عبر رحلة الليل والنهار... فما كانت تلاوتنا لكتاب الله، وتعاملنا مع تكراره المدهش، لتزيدنا إلاّ عطشاً وتوقاً لتلاوته مرات ومرات أخرى. ويكفي -كما يقول النورسي- "أننا نرى كيف أن مئات الملايين من الناس منذ ألف ومئات من السنين يتلون القرآن الكريم بلهفة وشوق، وبحاجة ماسة إليه دون ملل أو سأم".33 وهو يؤكد هذا المعنى في مكان آخر بقوله: "إن القرآن الكريم قد اظهر عذوبة وحلاوة ذات أصالة وحقيقة بحيث إن التكرار الكثير -المسبب للسآمة حتى من أطيب الأشياء- لا يورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته. وهذا أمر مسلم به عند الجميع منذ ذلك العصر، حتى غدا مضرب الأمثال".34
(3) عناصر الخطاب القرآني وطبقات المخاطبين
يتميز الخطاب القرآني بأنه ذو مستويات شتى سواء بالنسبة لوضع المتلقى الذهني أو النفسي أو الوجداني، أو ثقافته، أو العصر الذي يضطرب فيه.
ويستطيع المرء -أيضا- أن يلحظ -بشكل عام- خطين متوازيين في هذا الخطاب: أحدهما بيني مرحلي، والآخر شمولي مستقبلي. وتلك واحدة من أشد معطيات القرآن إثارة للدهشة والإعجاب، لأنها في جوهرها، واحدة من أكثر حلقاته الإعجازية فرادة وتألقا!
إن أسباب النـزول -مثلا- كانت تتعامل مع العديد من الآيات والمقاطع والسور القرآنية في ضوء الوضع التاريخي الراهن الذي تنـزلت فيه والبيئة التي غذت مطالبها ومتغيراتها.
ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، ذلك إن كلمات الله، وهي تتعامل مع التاريخ والجغرافيا، تملك في الوقت نفسه قدرة معجزة على التحرر من اثقالهما والمضي للتعامل مع العالم كله، والمستقبل البشري حتى حافاته القصوى المطلة على يوم الحساب.
إنه علم الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو يعرف كيف يتعامل مع الآني والأبدي... مع المحدود والمطلق... عبر الكلمات والمفردات نفسها التي تشكل خطابا مزدوجاً يتجاوز احاديته لكي يصير عاملا مؤثرا في كل زمن أو مكان، وعبر كل مرحلة تاريخية أو بيئة جغرافية على الإطلاق.
وعلى سبيل المثال، فإنه على المستوى المعرفي قدم القرآن الكريم معطيات وكشوفا كان العقل العربي يومها قديرا على استيعابها، لكن هذه المعطيات كانت تنطوي في الوقت نفسه، على جملة كشوف وطبقات، تركت رهن تنامي الخبرة البشرية وتزايد النشاط المعرفي عبر تعامله مع الظواهر والنواميس والموجودات والأشياء.
ويكفي أن نرجع إلى محاولة واحدة من بين عشرات المحاولات ومئاتها، تلك المحاولة التي نفذها العالم الفرنسي "موريس بوكاي" بخصوص المقارنة بين المعطيات المعرفية للتوراة والإنجيل والقرآن، وبين المعرفة الحديثة، على مدى ما يزيد عن العشرين عاما لكي يخلص إلى القول بأنه إذا كانت التوراة والإنجيل تعكس بأمانة الكثير من الخرافات التي كانت منتشرة زمن تدوين هذين النصين، فإنه "لا مكان مطلقا في نص القرآن لأي خرافة من الخرافات التي كانت منتشرة في عصر تنـزيل القرآن".35
ويشير بوكاي إلى منهج العمل "في البداية لم يكن لي أي إيمان بالإسلام. وقد طرقت دراسة هذه النصوص -ويعني الكتب الدينية الثلاثة- بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة...36 والنتيجة؟ أن الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن" أثارت دهشتي العميقة. فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ومطابقة تماما للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نص كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا"37 والحق -كما يستنتج الرجل- "أن مفسري القرآن "بما في ذلك مفسرو عصر الحضارة الاسلامية العظيم" قد أخطأوا حتما وطيلة قرون في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم ان يفطنوا إلى معناها الدقيق. إن ترجمة هذه الآيات وتفسيرها بشكل صحيح لم يكن ممكنا الا بعد ذلك العصر بكثير، أي في عصر قريب منا. ذلك يتضمن أن المعارف اللغوية المتبحرة لا تكفي وحدها لفهم هذه الآيات القرآنية، بل يجب بالإضافة اليها امتلاك معارف علمية شديدة التنوع. ان دراسة كهذه هي دراسة انسكلوبيدية تقع على عاتق تخصصات عدة. وسندرك كلما تقدمنا في عرض المسائل المثارة تنوع المعارف العلمية اللازمة لفهم معنى بعض آيات القرآن.38
من أجل ذلك يقول القرآن الكريم مؤكدا هذه الثنائية المدهشة في الخطاب القرآني: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾.يونس:39
ويقول متحدثا عن المستقبل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.فصلت:53
والنورسي وهو يتعامل مع جماليات القرآن ويتحدث عن خطابه، ويحلل عناصر هذا الخطاب ومستوياته، يقول أشياء كثيرة تؤكد هذا الاستنتاج وتضيئه في الوقت نفسه.
بالنسبة لعناصر الخطاب، أو أطرافه، يؤكد النورسي على أن القرآن الكريم لا يمكن أن يقاس بأي كلام آخر، إذ إن منابع علو طبقة الكلام، وقوته، وحسنه، وجماله، أربعة: الأول: المتكلم، الثاني: المخاطب، الثالث: المقصد، الرابع: المقام. وليس المقام وحده كما ضل فيه الأدباء. فلا بد من أن تنظر في الكلام إلى: من قال؟ ولمن قال؟ ولم قال؟ وفيم قال؟ ولا تقف عند الكلام وحده وتنظر إليه.
ولما كان الكلام يستمد قوته وجماله من هذه المنابع الأربعة، فبإنعام النظر في منابع القرآن تدرك درجة بلاغته وحسنها وسموها وعلوها.39
إن النورسي يتحرك ها هنا باتجاه مضاد للبنيوية التي تتمركز عند النص، وتسعى إلى فك الارتباط بينه وبين طرفيه الآخرين: المبدع والمتلقي. وبقدر ما قدمت البنيوية من خدمة للجهد النقدي في مقاربة النص والحكم عليه من خلال بنيته الداخلية، بقدر ما ضيعت على نفسها فرصة التقويم الاكثر موضوعية ودقة من خلال متابعة الأطراف الأخرى للمعطي الأدبي.
ومن يدري، فعل هذا، فضلا عن عوامل كثيرة أخرى، تتعلق بالدور التقني الصرف للبنيوية، أو بخلفياتها الابستمولوجية، ما جعل بعض روادها أنفسهم "من مثل رولان بارت وتودوروف" ينفضون أيديهم منها ويتحولون إلى مسارات جديدة.
مهما يكن من أمر فإن النورسي، وهو يتعامل مع النص القرآني، يردنا إلى الحق، ويقف بعض الوقت عند الحد الأساسي للمعادلة الإبداعية كلها: المنشئ، أو المبدع، أو المتكلم. ويرى أن الكلام "يستمد القوة من المتكلم، فإذا كان الكلام أمراً ونهياً يتضمن إرادة المتكلم وقدرته حسب درجته، وعند ذاك يكون الكلام مؤثرا نافذا يسري سريان الكهرباء من دون إعاقة ومقاومة، وتتضاعف قوة الكلام وعلوه حسب تلك النسبة.
ويضرب لنا -كعادته- جملة من الاستشهادات، فمثلا: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾هود:44 و﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾فصلت:11 "فانظر إلى قوة وعلو هذه الأوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والإرادة. ثم انظر إلى كلام إنسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم: اسكني يا أرضي وانشقي يا سماء وقومي أيتها القيامة فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين؟ ثم أين الأوامر الناشئة من فضول الإنسان والنابعة من رغباته والمتولدة من امانيه، وأين الأوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله؟
"نعم! أين أمر أمير عظيم مطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ: تقدم. وأين هذا الأمر إذا صدر من جندي بسيط لا يبالى به؟ فهذان الأمران وإن كانا صورة واحدة إلا أن بينهما معنى بونا شاسعا، كما بين القائد العام والجندي".40
ومثلا: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾يس:82 و﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ﴾البقرة:34 "انظر إلى قوة وعلو الأمرين في هاتين الآيتين. ثم انظر إلى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة؟ نعم! أين تصوير عامل يمارس عمله، وبيان صانع وهو يصنع، وكلام محسن في آن إحسانه، كل يصور أفاعيله، ويطابق فعل قوله، أي يقول: انظروا فقد فعلت كذا وكذا، أفعل هذا لذلك، وهذا يكون كذا وذاك كذا... وهكذا يبين فعله للعين والأذن معاً.
"فمثلاً: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ. وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ق:6-11
أين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن كأنه ثمار الجنة؟ وقد ذكر كثيرا من الدلائل ضمن هذه الفعال مع انتظام البلاغة وأثبت الحشر الذي هو نتيجتها بتعبير "كذلك الخروج" ليلزم به الذين ينكرون الحشر في مستهل السورة. فاين هذا واين كلام الناس على وجه الفضول عن أفعال لا تمسهم إلا قليلا؟ أفلا تكون نسبته إليه إلا كنسبة صورة الزهرة إلى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة..."41
وهكذا، وكما يؤكد النورسي في مكان آخر، اكتسب الخطاب القرآني "الصفة الكلية والسعة المطلقة والرفعة السامية والإحاطة الشاملة للمتكلم الأزلي سبحانه".42
ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك أطراف أخرى في الظاهرة القرآنية، يقف في قمتها، بعد المتكلم الأزلي الذي هو الله سبحانه، النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا الكتاب، والممثل للنوع البشري والمخاطب باسم الانسانية قاطبة، بل باسم الكائنات جميعا. أما المخاطب فهو ذو فضاء "أو مقام كما يسميه النورسي" واسع فسيح يمضي إلى طبقات البشرية كافة والى سائر العصور. هذا إلى ما ينطوي عليه الخطاب القرآني من بيان شاف لقوانين الله سبحانه المتعلقة بالدنيا والآخرة، بالأرض والسماء، بالأزل والابد، وهي تشمل أمور المخلوقات كافة".43 "إن الأزمنة الغابرة والعصور المندثرة التي هي في نظر الغافلين الضالين واد من عدم سحيق موحش رهيب، ومقبرة مندرسة أليمة كئيبة، يعرضها صحيفة حية تطفح عبرا ودروسا، وعالما عجيباً ينبض بالحياة ويتدفق بالحيوية من أقصاه إلى أقصاه، ومملكة ربانية ترتبط معنا بوشائج وأواصر، فيبينها -بإعجازه البديع- واضحة جليلة كأنها مشهودة تعرض أمامنا على شاشة، فتارة يأتي بتلك العصور ماثلة شاخصة أمامنا، وتارة يأخذنا إلى تلك العصور. ويبين الإعجاز نفسه "الكون" الذي يراه الغافلون فضاءً موحشا بلا نهاية، وجمادات مضطربة بلا روح تتدحرج في دوامة الفراق والآلام، يبينه القرآن: كتابا بليغا كتبه الأحد الصمد، ومدينة منسقة عمرها الرحمن الرحيم، ومعرضا بديعا اقامه الرب الكريم لإشهاد مصنوعاته. فيبعث بهذا البيان حياة في تلك الجمادات، ويجعل بعضها يسعى لإمداد الآخر، وكل جزء يغيث الآخر ويعينه، كأنه يحاوره محاورة ودية صميمة، فكل شيء مسخر وكل شيء أنيط به وظيفة وواجب. وهكذا يلقي القرآن دروس الحكمة الحقيقية والعلم المنور إلى الإنس والجن والملائكة كافة. فلا ريب أن هذا القرآن العظيم- الذي له هذا الإعجاز في البيان قمين بأن يحوز خواص راقية عالية وميزات مقدسة سامية.44
وهذا ينقلنا إلى مستويات الخطاب القرآني التي وقف النورسي عندها طويلاً: "فما دام القرآن الكريم خطابا أزليا يخاطب به الله سبحانه مختلف طبقات البشرية المصطفة خلف العصور، ويرشدهم جميعا، فلا بد أنه يدرج معاني عدة لتلائم مختلف الأفهام"45 إنه "يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجه توجها خاصا إلى تلك الطبقة بالذات. إذ لما كان القرآن يدعو جميع بني آدم بطوائفهم كافة إلى الإيمان الذي هو أسمى العلوم وأدقها، وإلى معرفة الله التي هي أوسع العلوم وانورها، والى الاحكام الإسلامية التي هي اهم المعارف واكثرها تنوعا، فمن الألزم إذن أن يكون الدرس الذي يلقيه على تلك الطوائف من الناس، درسا يوائم فهم كل منها. والحال أن الدرس واحد، وليس مختلفا، فلا بد اذن من وجود طبقات من الفهم في الدرس نفسه، فكل طائفة من الناس -حسب درجاتها- تأخذ حظها من الدرس من مشهد من مشاهد القرآن".46
وهو يضرب لذلك عددا من الأمثلة نكتفي بالإحالة إليها.47 ولا ينس أن يشير إلى "الألفاظ" التي صاغت الخطاب القرآني ذا الطبقات والأدوار: "لقد وضعت وضعا بحيث إن لكل كلام، بل لكل كلمة، بل لكل حرف، بل حتى لسكون أحيانا، وجوها كثيرة جدا، تمنح كل مخاطب حظه ونصيبه من أبواب مختلفة.. فلكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع، ولكل شجون وغصون وفنون".48 ويضرب لذلك عددا من الأمثلة نكتفي بالإحالة إليها .49
ولكن الخطاب القرآني أزليا يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطابا مباشرا فإنه "حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينـزل في كل عصر نضرا فتيا.. إن آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم مثله، وتتغير وتتبدل، إلا أن أحكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر كلما مرت العصور".50
صحيح أن الحديث ينصب هنا على "الموضوع" القرآني، ولكن هذا ما كان بمقدوره أن يتجاوز تحديات الزمان والمكان، ويتعامل مع متغيرات البيئات والجماعات والثقافات، ولا تساند "الأسلوب" معه، وتمكينه من أداء مهمته المدهشة هذه: "لقد أظهر القرآن الكريم من الطراوة والفتوة والنضارة والجدة بحيث يحتفظ بها وكأنه قد نزل الآن، رغم مرور أربعة عشر قرنا من الزمان عليه، ورغم تيسر الحصول عليه للجميع. فكل عصر قد تلقاه شابا نضرا وكأنه يخاطبه. وكل طائفة علمية مع أنهم يجدونه في متناول أيديهم وينهلون منه كل حين ويقتفون أثر أسلوب بيانه، يرونه محافظا دائما على الجدة نفسها في أسلوبه، والفتوة عينها في طرز بيانه".51
وما دمنا بصدد مستويات أو طبقات الخطاب القرآني، فلا بد من الإشارة إلى تعليل النورسي لاختلاف السور المكية عن المدنية من حيث البلاغة، فهو يرى "أن الصف الأول من المخاطبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش وهم أميون لا كتاب لهم، فاقتضت البلاغة أسلوبا عاليا قويا، وإجمالا معجزا مقنعا، وتكرارا يستلزمه التثبيت في الأفهام، لذا بحثت أغلب السور المكية أركان الإيمان ومراتب التوحيد بأسلوب في غاية القوة والعلو وبإيجاز في غاية الإعجاز، وكررت الإيمان بالله والمبدأ والمعاد والآخرة كثيرا، بل قد عبرت عن تلك الأركان الإيمانية في كل صحيفة أو آية، أو في جملة واحدة، أو كلمة واحدة، بل ربما عبرت عنها في حرف واحد، في تقديم وتأخير، في تعريف وتنكير، في حذف وذكر هنا فأثبتت أركان الإيمان في أمثال تلك الحالات والهيئات البلاغية إثباتا جعل علماء البلاغة وأئمتها يقفون حيارى مبهوتين أمام هذا الأسلوب المعجز.
"أما الآيات المدنية وسورها فالصف الأول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى وهم أهل كتاب مؤمنون بالله، فاقتضت قواعد البلاغة وأساليب الإرشاد وأسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقا لواقع حالهم، فجاء بأسلوب سهل واضح سلس، مع بيان وتوضيح في الجزئيات -دون الأصول والأركان الإيمانية- لأن تلك الجزئيات هي منشأ الأحكام الفرعية والقوانين الكلية ومدار الاختلافات في الشرائع والأحكام. لذا فغالبا ما نجد الآيات المدنية واضحة سلسة بأسلوب بياني معجز خاص بالقرآن الكريم.. وهكذا ترى أن هناك نمطاً من جزالة معجزة ساطعة في الآيات المدنية هو غير بلاغة الآيات المكية، حسب اختلاف المقام وتنوع مقاصد الإرشاد والتبليغ".52
ولا ينسى النورسي أن يشير إلى أن قدرة الخطاب القرآني على التوجه إلى أفهام العوام البسيطة، وهم معظم المخاطبين، تنطوي في القوت نفسه على "حصة وافرة لأعلى المستويات الفكرية ولأرقي الطبقات العقلية، فلا يهب لمخاطبيه شيئا من إرشاداته وحدها، ولا يخصهم بعبرة من حكاية تاريخية فقط، بل يخاطب مع ذلك طبقة في كل عصر -لكونها فردا من أفراد دستور كلي- خطابا نديا طريا جديدا كأنه الآن ينـزل عليه" .53
كما لا ينسى أن يشير إلى أن إعجاز القرآن الجميل يظهر أيضاً "في أسلوب إرشاده البليغ، حيث راعى أحسن الرعاية أمية مبلّغه الكريم صلى الله عليه وسلم باحتفاظه التام على سلاسته الفطرية، فهو أجلّ من أن يدنو منه تكلف أو تصنع أو رياء مهما كان نوعه- فجاء أسلوبه مستساغا لدى العوام الذين هم أكثرية المخاطبين ملاطفاً بساطة أذهانهم بتنـزلاته الكلامية القريبة من أفهامهم، باسطاً أمامهم صحائف ظاهرة ظهوراً بديهياً كالسماوات والأرض، موجهاً الأنظار إلى معجزات القدرة الإلهية وسطور حكمته البالغة المضمرتين تحت العاديات من الأمور والأشياء".54
ويخلص إلى القول بأن "في كل حرف منه عشر حسنات، بل ألف حسنة أحيانا، بل ألوف الحسنات في أحيان أخرى، وعجز الجن والإنس علن الإتيان بمثله ولو اجتمعوا له، ومخاطبته بني آدم جميعهم، بل الكائنات برمتها مخاطبة بليغة حكيمة، وحرص الملايين من الناس في كل عصر على حفظه عن ظهر قلب بشوق ومتعة، وعدم السأم من تلاوته الكثيرة رغم تكراراته، واستقراره التام في أذهان الصغار اللطيفة البسيطة مع كثرة ما فيه من جمل ومواضع تلتبس عليهم، وتلذذ المرضى والمحتضرين -الذين يتألمون حتى من أدنى كلام- بسماعه وجريانه في أسماعهم عذبا طيبا، وغيرها من الخواص السامية والمزايا المقدسة التي يحوزها القرآن الكريم، فيمنح قراءه وتلاميذه أنواعاً من سعادة الدارين".55
حقاً إن الخطاب القرآني لهو واحد من أكثر وجوه هذا الكتاب فرادة وإعجازا فنحن نرى قبالة أعيننا كيف يحقق هذا الخطاب كسبه للزنجي البسيط في أعماق أفريقيا وللغربي المتفوق في ساحات أوربا وأمريكا.
يكفي أن نتذكر عقولا "كروجيه كارودي" "ومراد هوفمان" انتمت إلى هذا الدين، ونتذكر معهما حشود للزنوج الأفارقة الذين يتدفقون على الإسلام ويعلنون انتماءهم إليه، يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة.. لكي نعرف قدرة هذا الخطاب، رغم حاجز اللغة أحياناً، على التأثير في الآخر ومنحه القناعة بأحقية هذا الدين وجدوى الانتماء إليه.
يكفي أيضاً أن نتذكر كيف أنه في عالم الادب، هنالك قصص وروايات للصغار وأخرى للكبار، ولن يكون بمقدور إحداهما أن تحقق المتعة والانسجام والفائدة للفئتين معاً. لكن هذا الكتاب المعجز يخاطبهما معاً فيمنحهما الكثير.
قد يقال إن التوراة والإنجيل، أو أي كتاب ديني، يقرأه -أيضاً- الصغار والكبار أسوة بكتاب الله...
إلا أن الفارق يظل كبيرا يصعب عبوره... إن الكتب المذكورة أصبحت بعد تحريفها وحقنها بالخرافات والأضاليل، منظومة من الأكاذيب، وجسداً بغير روح.. وقراءتها أيام الآحاد أو غيرها لا تعدو أن تكون مجرد تقليد ميت لا حياة فيه، ولا يمنح عقول قارئيه أو أرواحهم شيئاً ذا غناء.
أما الخطاب القرآني المعجز فإنه يدفع العقل إلى أقصى حدود الاحتمال وهو يضع قبالته معرفة ليست كالمعارف، ويسبح به في آفاق الحياة والوجود والعالم والطبيعة والكون والمصير..
أما في دائرة الروح والوجدان فإنه يفعل الأفاعيل التي تعجز الكلمات عن التعبير عنها... وفوق هذا وذاك فإنه يستجيب لطموحات الأميين والبسطاء والصغار فيقرأونه بشغف، كلُّ بما يسّره الله له من قدرة على التذوق والفهم والتصور والادراك.
وتجئ الأسلوبيات القرآنية المدهشة فتمنح هذا كله القدرة على التحقق وتقدم للناس كافة، على اختلاف الاجيال والاذواق والمدارك والبيئات والأعمار، رحيقاً من عسل مصفى كان وسيظل البوابة الكبرى التي يجتازها الداخلون إلى حمى هذا الدين.
خاتمة
إن النورسي وهو يتحدث عن البعد الجمالي في أسلوبيات القرآن الكريم ويحاول أن يجزئ المعطى الجمالي بالإحالة على مصطلحات البلاغيين كالنظم والمعنى والأسلوب واللفظ والبيان والتكرار إلى آخره... لم يقصد البتة أن يحصر هذه المعطيات في دوائر تلك الحلقات المحددة في الدراسات البلاغية، ولا أن يخصص للموضوع عدداً من المقاطع والمباحث والرسائل والكلمات، ثم يمضي لمعالجة الموضوعات الأخرى بعيداً عن أطرها أو نبضها الجمالي.
ذلك أن الإحساس بالجمال، ورؤيته، والتفاعل معه، وتلقيه، وتحليل أبعاده وعناصره، سواء في كتاب الكون المنظور، أو الكتاب المقروء، يهيمن على كلمات النورسي ورسائله من بدئها حتى منتهاها.56 ومن ثم فإن ما يقوله النورسي ها هنا عن جماليات الأسلوب القرآني، قد ينتشر بالكلمة القرآنية نفسها، جنبا إلى جنب مع الإبداع الإلهي في الكون والعالم، عبر الرسائل المائة والثلاثين جميعا.
ولكنها ضرورات الدراسة -كما يقولون- تقتضي -أحيانا- من الطرفين: المفكر ودارسيه، تحجيم القيم والمعاني من أجل السيطرة عليها.
ويبقي كتاب الله، قبل هذا وبعده، ينطوي على ما هو أغلى وأعلى وأكثر إثارة للدهشة والإجلال والتقدير: إنه الجلال الإلهي الذي تعجز الكلمات عن تقريب أبعاده للمتلقي، لأنه كلام الله جلّ في علاه والذي يمكن للمرء أن يلمسه ويحسّه وينفعل معه وهو يقرأ في كتاب الله منذ أول كلمة فيه حتى آخر حرف، لكنه لن يكون بمقدوره أن يصفه، أو يحدده، أو يكتب عنه بما يوازي تماماً حجمه أو تأثيره الحقيقي.
هذ الجلال القرآني الذي ينبض بالجمال.. بالتناظر والتناسب، والتوزيع المذهل للأبعاد والمساحات.. هذا التدفق الموصول الذي لا يكف عن الخفقان لحظة واحدة ولا عن الإيماض لحظة واحدة ولا عن الوعد بالعجيب المدهش لحظة واحدة...
أليس هو قبل هذا، ومعه وبعده، من عطاء الله الجميل الذي يحب الجمال والذي لا تنفد كلماته، والذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون؟!.
* * *
الهوامش:
1 من مواليد الموصل، العراق عام 1939م. حصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة عين شمس بالقاهرة عام 1968م. حاليا أستاذ في جامعة الموصل وقد تولى عددا من المناصب في ادارة المكتبات والتراث. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية في بلدان العالم. أنجز أكثر من أربعين كتابا وترجمت بعض مؤلفاته الى الإنكليزية والفرنسية والتركية وغيرها من اللغات. كتب عن أعماله العديد من رسائل الدبلوم والماجستير والدكتوراه.
2 انظر: عماد الدين خليل: الكلمات: روية جمالية، بحث مقدم الى الندوة العالمية الثانية حول فكر العلامة النورسي التي عقدتها مؤسسة الثقافة والعلوم في إسطنبول في الفترة بين 26-27/9/1994م. ونشر في المجلد الخاص ببحوث الندوة.
3 تحقيق إحسان قاسم الصالحي، إسطنبول، دار سوزلر للنشر-1994م.
4 تحقيق إحسان قاسم الصالحي، الطبعة الثانية، إسطنبول، دار سوزلر للنشر -1994م.
5 ترجمة إحسان قاسم الصالحي، إسطنبول، دار سوزلر للنشر -1992م.
6 الكلمات ص 424.
7 انظر بالتفصيل: الكلمات ص 434-426،518-519،522.
8 نفسه ص 426.
9 وهو المجلد الذي سيعتمد في كتابة هذا البحث.
10 الكلمات ص 426-427
11 نفسه ص 481-482
12 الكلمات ص 429-430.
13 نفسه ص 431.
14 نفسه ص 432-433.
15 نفسه ص 459-460.
16 نفسه ص 436.
17 نفسه ص 437.
18 الكلمات ص 437-438.
19 الكلمات ص 452- 453.
20 نفسه ص 439.
21 الكلمات ص 439- 440.
22 نفسه ص 440- 441.
23 نفسه ص 528.
24 نفسه ص 528-529.
25 نفسه ص 529.
26 نفسه ص 533-534.
27 نفسه ص 534.
28 نفسه ص 529-530.
29 نفسه ص 530.
30 نفسه ص 530.
31 نفسه ص 535.
32 نفسه ص 535-536
33 نفسه ص 535.
34 نفسه ص 520.
35 القرآن الكريم والتوراة والانجيل والعلم، القاهرة، دار المعارف -1978م، ص 213.
36 نفسه ص 144.
37 نفسه ص 144.
38 نفسه ص 146.
39 الكلمات ص 500
40 الكلمات ص 501.
41 الكلمات ص 501- 502.
42 نفسه ص 526.
43 نفسه ص 526.
44 نفسه ص 527.
45 نفسه ص 456.
46 نفسه ص 478.
47 انظر المرجع نفسه ص 478-457.
48 نفسه ص 451
49 انظر المرجع نفسه ص 452-457
50 نفسه ص 471
51 نفسه ص 520.
52 نفسه ص 530-532.
53 نفسه ص 526.
54 نفسه ص 528.
55 نفسه ص 527-528.
56 سبق وأن أنجز الباحث دراسة بعنوان "الكلمات: رؤية جمالية" تناولت الاسلوب والتقنيات، والموضوع الجمالي في الطبيعة والعالم والكون وقد نشرت في المجلد الخاص ببحوث الندوة العالمية الثانية حول فكر النورسي، إسطنبول، دار سوزلر - 1993م. وسوف تتم معالجة رؤية النورسي الجمالية لدنيا الأحياء، والإنسان، وعالم الغيب، من أجل أن تكتمل الصورة إن شاء اللّٰه.