كلمة العدد العاشر

أ.د. عمار جيدل

ظهر العدد العاشر من مجلتكم "النور للدراسات الحضارية والفكرية" بتوفيق من الله، فله الحمد والشكر على نعمه وامتنانه، وقد استقطب العدد ثلة من الباحثين المهتمين بدراسة رسائل النور، تنوّعت بحوثهم فاستغرقت جملة من مجالات المعرفة المنبجسة من ينبوع فكر الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي (رحمه الله).

اشتمل العدد على بحوث نوعية في مجالات المعرفة الإنسانية، فاستهلت الدراسات ببحث الأستاذ عزيز عدمان المدرس في السعودية، الذي تناول فيه مسألة كانت ومازالت مثار جدل وأخذ ورد في المجالات العلمية المتخصصة في الدراسات اللغوية، فكان بحث مسألة "الوفاء للحقيقة مع الإقرار باتساع المعنى في بناء النص القرآني" من القضايا المعرفية الدقيقة في مجال البحوث المتعلّقة بالمجاز، والبحث حَرِي بالقراءة المتمعّنة لما فيه من لفت نظر إلى الوسطية والاعتدال التي افتقدت في عرض مشكلة المجاز في البيئات الشرقية، وأدرجنا بعد هذا البحث دراسة في موضوع الحوار والحجاج والإقناع للأستاذ أبو بكر العزاوي من المغرب، ويعد بحثا مفصليا في العصر الراهن، وخاصة في ظل الظروف التي تعرفها الإنسانية، فكان البحث محاولة للتأسيس لفكر تواصلي من خلال رسائل النور، ثم جاء الدور على بحث "توحيد القلوب في رسائل النور"، ولكن بنَفَس علمي عميق ومسلك منهجي دقيق، درس فيه الأستاذ أميد نجم الدين من العراق، موضوعا أخلاقيا صرفا من أصولية فقهية، وهو مسلك منهجي قمين بالعناية في ظل التجزيئية التي تعرض بها معارف الوحي وتوجيهات الشريعة الشريفة.

آثرنا أن يكون موضوع العدد مؤسسا للربط بين الأخلاق وأبعادها الوظيفية، المتجلية في العناية المركزية بالمخرجات التي تتوخى رسالة الإسلام التأسيس لها فالأخلاق ليست مقولة معرفية صرف، بل هي مقالة تتشابك فيها المعارف العقلية بالقلبية والنفسية، بحيث يصعب الفصل بينها بنظر وظيفي، فكان عنوان الملف دالا على المقصود، فاخترنا "الأخلاق والوراثة" عنوانا له، فاستهل الملف ببحث الأستاذ سرحان بن خميس من الجزائر الموسوم بـ "المجاهدة والتوريث عند بديع الزمان" للدلالة على أنّ الوراثة ليست سلعة مرمية على قارعة الطريق يخطف من شاء ما شاء، كما أنها ليست سلعة تسوّق هنا أوهناك، بل هي صناعة وكسب ومكابدة، فطريق الوراثة المجاهدة، والمجاهدة مقام أخلاقي بامتياز يؤكّد أهمية الأخلاق في تحقيق التغلّب على الخلود إلى الأرض والارتباط بالسماء المؤسس لعمارة الأرض بالخير، وعمارتها مبناه الأساس استعادة "أواصر العناصر الكونية" وخاصة في ظل ثقافة تؤسس لغربة المسلم بل الإنسان عن الكون، فعوض أن يكون الإنسان منسجما مع الكون وفق أصل برنامج الخلقة "الفطرة"، جاءت خطط البشر في التعليم والتربية والسياسة والثقافة والاهتمامات الحضارية مؤسسة لغربة الإنسان عن المحيط الحيوي الذي يبقى ببقاء الإنسان المحافظ على جملة الأواصر المادية والمعنوية، فكان بحث الأستاذ عثمان محمد غريب من العراق غنيا بالإشارات والعبارات التي تحتاج الإنسانية كلها إجالة النظر فيها، لأجل استعادة الإنسان إنسانيته فيتحوّل من مستعبد موحش إلى عبد مؤنس بالأخلاق التي طلب الشارع الحكيم التحلي بها في جملة أواصره بالعوالم المادية والمعنوية. اشتمل الملف في مقالته الأخيرة على بحث متعدد المداخل، فالبحث وإن كان أخلاقيا باطنيا روحيا في العمق، فهو بحث أصولي، حيث تناول الأستاذ فرهاد إبراهيم أكبر الشواني قاعدة "الفناء في الإخوان" في فكر بديع الزمان، من زاوية تأصيلية مقاصدية، ترمي إلى استرداد الأمة الإسلامية وحدتها. وهو بدوره كغيره من البحوث السالفة المدرجة في الدراسات أو التي وضعت في الملف تُعْنى بالمخرجات الوظيفية للدين في شعاب الحياة، فيكون القصد الكلي إحداث نهضة كلية في الإنسان الفرد والجماعة والأمة.

استضفنا في العدد العاشر الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ الأديب الذائع الصيت في حوار ماتع، حاولنا من خلاله التعرف على تجربة التعرف على رسائل النور وأهم ما استوقفه فيها من وجهة معرفية ومنهجية وأخلاقية، فضلا عن المناحي المتعلقة بالاستشراف.

عرفنا في العدد بالجهود العلمية التواصلية التي تقوم بها المؤسسة شرقا وغربا، فعرضنا تجارب التواصل مع رسائل النور في الهند وإندونيسيا والمغرب والسودان وتركيا من خلال الملتقى الدوري للباحثين الشباب، زيادة إلى تعريفنا بآخر ما جادت به القرائح في مجال التأليف المعرف برسائل النور.

وأخيرا ونظرا للعناية الفائقة التي لقتها المجلة في عامها الخامس على التوالي، ورغبة منا في تلبية طلبات كثير من الباحثين الراغبين في النشر في مجلتكم "النور للدراسات الحضارية والفكرية" فقد فكّرنا جديا في استقطاب أكبر عدد من البحوث من خلال جعل المجلة تصدر كلّ أربعة أشهر، أملنا كبير في أن تكون المجلة عنوان الجدية والجدة، ولكنها لن تنال المقصود بغير توفيق الله، فنسأله تعالى توفيق الباحثين ليكونوا أصحاب اليد الطولى في تطوير المجلة، فتكون منارة في البحث الأكاديمي الرسالي ببعده الإنساني في إطار الرؤية التوحيدية للإنسان والكون والعلم.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.