
حوار مع الأستاذ فاروق رسول يحيى
1- نستهل الحوار بالتعرف على الأستاذ فاروق. فمن هو الأستاذ فاروق؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد... فإن اسمي الثلاثي: "فاروق رسول يحيى".
ولدت لأبوين مسلمَين، كُرديين، شافعيين مذهباً، في رقعة ممزَّقة من بلاد الله الواسعة اسمها كُردستان، إقليم فيدرالي ضمن الدولة العراقية الاتحادية.
البيئة التي تربيتُ فيها كانت تتسم بالمسحة الدينية العلمية التقليدية، فنشأت متأثراً بذلك المحيط وتعلمتُ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياتى.
ورغم ما تعرضت له منطقتنا من المآسي والحروب وحملات التشريد والتقتيل في فترة صباي وريعان شبابي فقد منَّ الله علي في ذلك الجو القاتم بإكمال دراستي الثانوية في سنة 1976م، ودراستي الجامعية في كلية الشريعة بجامعة بغداد سنة 1980م. ولم تتيسر لي بعد ذلك مواصلة الدراسة لأسباب ذاتية وموضوعية لا داعي لذكرها.
ومنذ سنة 1981م أعمل في حقل التدريس للمرحلة الثانوية في مواد التربية الإسلامية واللغة العربية. وكذلك حاضرت لمدة أربع سنوات في "معهد كردستان لإعداد الأئمة والخطباء" في مواد العقيدة والبلاغة والخطابة.
وقد منّ الله عليّ وعلى إخوة آخرين من ذوي الاختصاصات العلمية المتنوعة بإنشاء "مركز كردستان للإعجاز العلمي في القرآن والسنة" ما زال يقوم بنشاطاته من يوم ميلاده إلى يومنا هذا وهي مدة تقرب من خمس عشرة سنة. وبعد وفاة رئيس المركز الأستاذ "نشأة غفور سعيد" في الموقف بعرفة عصر التاسع من ذي الحجة سنة 1436هـ ملبياً، منحني الإخوة الأعضاء ثقتهم واختاروني رئيساً للمركز خلفاً للأستاذ نشأة، رحمه الله.
2- من هم أهم الشخصيات التي تأثرتم بها في تحصيلكم المعرفي والتربوي؟
ليس من الميسور أن نحصي الشخصيات التي تركت آثارَها على أفكارنا أو على محطات التجدد ومساعي التكمل في حياتنا، لكثرتهم وكونهم من أزمان متلاحقة وأماكن متباعدة. فالأئمة والعلماء والأدباء السابقون الذين استفدنا من علومهم وآدابهم كثيرون، جزاهم الله عنا بأعلى درجات الجنان..
أما المعاصرون وقريبو العهد بزماننا ففيهم مَن لم نتشرف برؤيتهم، ولكن تتلمذنا عليهم من خلال آثارهم، كالأستاذ بديع الزمان النورسي وأبي الحسن الندوي ومصطفى السباعي ومحمد إقبال وغيرهم، رحمهم الله...
ومنهم من تشرفنا برؤيتهم والإستفادة من كتبهم دون التتلمذ عليهم بصورة مباشرة كالشيخ عبدالكريم المدرس مفتي العراق الأسبق، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطى وغيرهما كثيرون، رحمهم الله جميعاً.
ومنهم مَن تتلمذنا عليهم في فترة دراستنا وكان لهم شأن في توجيهنا، منهم العارف بالله الشيخ عارف العلّامي، والعالم العامل الشيخ عثمان عبد العزيز الذي كان مرشداً للحركة الإسلامية في كردستان لعدة سنوات، والأستاذ عبد العزيز البارَزاني الذي ألف كتاباً قيماً في السيرة النبوية باللغة الكردية. وغيرهم، نسأل الله تعالى الرحمة والغفران لهم جميعاً.
وهناك أيضاً عدد من المربين الذين كان لكل منهم إسهام فعال في جانب معين من توجيهنا التربوي، أولهم خالي الشاعر الشيخ أحمد القاضي البنجويني، والعالم الأديب المتأدب في شتى أحواله بالسنة النبوية الشيخ عبدالله مصطفى الكاتب، والأستاذ سليمان محمد أمين القابلي -رحمهم الله جميعاً- وكذلك الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، أمد الله له في عمره بالصحة والعافية.
3– كيف تعلمتم اللسانين العربي والتركي؟
كانت دراستي في الإبتدائية باللغة الكردية. وبعد تحولنا إلى الدراسة في المدارس الدينية تحتمت علينا دراسة العلوم الإسلامية باللغة العربية التي قد ترافقها ترجماتها باللغة الكردية. فقد كان هذا هو المسار الأول نحو تعلمنا لغة القرآن الكريم.
وبعد ذلك أسهمتْ مطالعاتُنا الحرة -التي كانت معظمها باللغة العربية- في شتى نواحي المعرفة الإنسانية، إسهاماً حيوياً في تقدمنا خطوات جادة في طريق تعلُّم هذه اللغة.
أما قيامي بتدريس مواد اللغة العربية من صرف ونحو وبلاغة وأدب، في السنوات الطويلة التي أعقبت تخرجي من الجامعة إلى الوقت الحاضر، فقد كان بمثابة عمليات صقل وتهذيب لنطقي وتعابيري باللغة العربية وتوظيف لما تعلمته سابقاً من هذه اللغة العريقة.
وبعد اللغة العربية تأتي معرفتي باللغة الفارسية بالدرجة الثانية. إذ كما تأثرتْ ثقافاتنا ومعارفنا في وجههما الديني باللغة العربية، كذلك تأثرتْ من الوجهة الأدبية بآداب اللغة الفارسية التي هي واللغة الكردية من سلالة اللغات الهندوأوربية، فبينهما قواسم مشتركة لغوية وأدبية.
أما صلتي باللغة التركية فلا ترقى إلى أن أصفها بأني أعرفها معرفتي باللغتين السابقتين. ومع ذلك أستفيد من هذا القدر من الصلة بها استفادة جيدة في ترجماتي لرسائل النور من العربية إلى الكردية مستعيناً بالأصل التركي.
4- متى كانت بداية رحلتكم في ميادين الترجمة؟
رحلتي في طريق الترجمة بدأت حينما كنت شاباً يافعاً في أولى سنة لي في مرحلة الدراسة الإعدادية، فقد أقدمت آنذاك خُفية على ترجمة رسائل صغيرة الحجم، منها رسالة لأبي الحسن الندوي -رحمه الله- كان عنوانها "ردة ولا أبا بكر لها"! فكنت أستحيي استحياء الفتاة في خدرها أن أشهرها بين الملأ وأحس بالخجل فيما لو اطلع عليها الناس! لذا كنت أراجعها لنفسي بين حين وآخر، وأعمل فيها قلمي تصحيحاً وتقويماً، دون أدرك إلا فيما بعد أن ذلك العمل كان سَوقاً قدرياً وإعداداً لي من الله سبحانه يهيؤني به لترجمة رسائل النور في قابل الأيام!
5- متى كانت صلتكم برسائل النور؟ وكيف كانت؟
أُولى صِلاتي برسائل النور تعود إلى سنة 1972م حيث رأيت اسم الأستاذ بديع الزمان لأول مرة مع الاستشهاد بأحد أقواله أثناء مطالعاتي، فاستفسرت عنه من الذين كنت آنس فيهم الاطلاع أكثر مني، فحصلت منهم على جواب مقتضب أثار لدي المزيد من البحث عنه وعن مؤلفاته. وبعد ذلك بسنة واحدة حصلت على سيرة مختصرة للأستاذ بديع الزمان بقلم الأستاذ البوطي رحمه الله، وعلى تراجم مختصرة من قبله ومن قبل الأستاذ عبد المجيد النورسي لبعض الرسائل. ولكن الصلة الحقيقية مع هذه الرسائل بدأت في سنة 1979م عندما شرع الأستاذ إحسان قاسم الصالحي بنشر بعض مترجماته من رسائل النور على صفحات مجلة "التربية الإسلامية" البغدادية في أعداد متتالية، فاتصلتُ به من ذلك الحين، وعن طريقه توطدت علاقاتنا برسائل النور.
6– ما أهم ما بعثكم على العناية بترجمة رسائل النور؟
بعد أن استقر أمر الترجمة إلى العربية من قبل الأستاذ إحسان الصالحي، أصبحنا نفكر في أن نجد مترجماً إلى اللغة الكردية، لأن هذه اللغة هي ثانية أكبر لغة في العراق وتدرس بها المواد المدرسية في إقليم كردستان في جميع المراحل الدراسية لما قبل الجامعة. فالطالب الشاب عندنا تأتي معرفته باللغة العربية بالدرجة الثانية بعد اللغة الكردية، ونادرا ما يكون إلمامه بالعربية جيداً. فكان لابد من ترجمةٍ للرسائل بهذه اللغة كي تصل إلى القارئ الكردي.
وقد بحثنا كثيراً عن مترجم هادف جاد يعطي غير قليل من وقته لهذه المهمة الإيمانية.
وبعد أن يئسنا من الذين كنا نأمل منهم القيام بهذه الخدمة. بدأتُ من جانبي بترجمة بعض المقالات والرسائل فعرضناها على بعض الخبراء والعارفين باللغتين، فجاءت ردود أفعالهم بالاستحسان والتشجيع على المضي..
وقد آزرني الأستاذ إحسان قاسم الصالحي وأصدقاؤه في عملي، فتابعت السير في هذا الطريق إلى يومنا هذا. والحمد لله أولاً وآخراً.
وبالنسبة لي شخصياً، وبعد أن استوثقتُ من قدرتي على الترجمة -بفضل الله تعالى- وشهد لي بالتوفيق فيها عدد من المعنيين بالكتابة والأدب. أحببت أن أعطي عمري لهذه الخدمة الإيمانية، أبتغي بها الخير أولاً لنفسي بالذات، حيث أكون أوّلَ مَن يستفيدُ من هذه المترجمات في الجانبين الإيماني والتربوي، عسى أن ينقضي عمري في عمل خالص يقربني إلى الله عز وجل. وثانياً: خدمة في إنقاذ إيمان قومي الذين أحاطت بهم الضلالة إحاطة السوار بالمعصم. وكذلك أعيد إليهم بعملي هذا علّامتهم بديعَ الزمان بلُغَته بعد أن طالته حملات النفي عن وطنه وشعبه. ومَن يدري فلعله كان يكتب بعضاً من هذه الرسائل بهذه اللغة لقومه لو لم تحلْ بينه وبينهم الأحداث التي أبعدته عنهم.
7- هل طالعتم ترجمات سابقة لرسائل النور؟ وماذا تستدركون عليها؟
أُولى المترجمات التي اطلعت عليها باللغة العربية كانت للأستاذ عبد المجيد النورسى والأستاذ البوطي، رحمهما الله. ورأيي فيها أنه لم يكن المقصود من نشرها على أنها ترجمة كاملة لأي من تلك الرسائل بقدر ما كان الغرض من نشرها تعريفاً بالرسائل وإلقاءً للضوء عليها. لذا جاءت ترجماتهما مختصرة جداً.
وبعد ذلك اطلعنا على بعض الرسائل المترجمة من قبل الأستاذين عاصم الحسينى وخليل المارديني. فكانت ترجماتهما جيدة ووافية بالمضمون. ولكن توقفت ترجماتهما في حدود بعض الرسائل دون الاستمرار في ترجمة كاملة لكليات رسائل النور ونشرها.
8- لاشك أن الترجمة استغرقت وقتاً غير قصير، كم دامت الرحلة؟ صفها للقراء.
دامت الرحلة من بداية الثمانينات في القرن المنصرم إلى وقتنا هذا، أي لمدة خمس وثلاثين سنة. وأنا طوال هذه المدة أتحين الفرص وأوفّر الأوقات وأنسحب من الأضواء والضوضاء وأركن إلى الهدوء الحسي والنفسي ما استطعت إلى ذلك سبيلا لأواصل الترجمة ليلاً أو نهاراً.
وقد تفاوتت أجواء الترجمة وأوقاتها مداً وجزراً، فمن الرسائل ما ترجمناها في أجواء هادئة مريحة، ومنها ما كانت تحت جو من الرعب تقصف مناطقَنا الطائراتُ أو المدافع الثقيلة في سني الحرب العراقية الإيرانية. ومنها ما كانت في أوقات النزوح وترك الديار هرباً من الأعداء الذين لا يرقبون في أحد إلّاً ولا ذمة، ننجو بأنفسنا وعوائلنا من ويلات ومآسي الحروب والصراعات الدامية، فنجد سلواننا وعزاءنا أمام تلك الحوادث في خدمتنا لرسائل النور.
واختلفت كذلك آليات الترجمة بحسب توفر الوسائل المعِينة عليها. ففي بداية الأمر كنت أكتب بنفسي المسوّدات، ثم أراجعها، وبعد ذلك أقوم بتبييضها... ثم يسّر الله لي مَن يعينني في التبييض أولاً بكتابتها يدوياً... ثم هيأ المولى عزوجل أجهزة الحاسوب لنا، فأمدني بمن كان ينضّد المترجمات على هذه الأجهزة، بل بمَن أُملي عليه الترجمة فيواصل كتابتها مباشرة ببرامج الحاسوب.
فكما استقبل عملَنا المحبون المخلصون بالترحيب والثناء والتشجيع على الاستمرار في هذه الخدمة المباركة، واجهتنا كذلك المنغصات وبعض العوائق المنبثقة من أحاسيس نفسانية، تأثّرنا بها –كإنسان- إلى حين، ثم تركنا أمرها إلى الله تعالى، يفعل فيها ما يشاء بما يشاء.
9 – هل كانت الترجمة معاناة ومكابدة أم متعة أم هي مزيج من المشاعر المتباينة في الوقت نفسه؟
لا أبتعد عن الحقيقة لو قلت أن جميعَ هذه الأوصاف تصدُق على ترجماتنا التي وفقنا الله سبحانه إليها واستمرت طوال هذه المدة المديدة من السنين رسالة فرسالة وموضوعاً فموضوعاً. إذ ليست حالات المرء كلها متماثلة ولا استعداداته الروحية والقلبية متساوية، ولا فهم كل مبحث من الرسائل على مستوى واحد من الصعوبة والوضوح، ولا أي موضوع تعالجه الرسائل مماثلاً لسائر المواضيع الأخرى في العرض والبيان.
10– هناك عوامل مساعدة على ترجمة نص مثل رسائل النور، ما هي؟
لاشك أن رسائل النور التي أنافت على المئة تبحث في عدد من المواضيع المختلفة التي ترجع في أصولها العلمية إلى شتى المعارف ذات الأصول والقواعد التي استقرت بمرور الزمن في عدد من العلوم.
فمن العوامل المساعدة والهامة التي تعين مترجم رسائل النور في عمله وجود خلفية معرفية في العلوم ذات الصلة بالمباحث المطروقة في رسائل النور. ومن الممكن لهذا المترجم شحذ معرفته هذه بالرجوع إلى مظانها في كتب كل علم ذي علاقة، إن تطلّب الأمر ذلك.
وربما تعود معاناة كثير من مترجمي رسائل النور إلى شتى اللغات، تلك المعاناة التي يذكرونها في الندوات التي تُعقد للمترجمين، إلى عدم وجود هذه الخلفية المعرفية لدى بعضهم.
ومن العوامل المساعدة أيضاً إلمام المترجِم بل اطلاعه الجيد على اللغتين المترجم منها وإليها لغةً وأدباً وبلاغة، كي يقتدر أولاً على فهم المحتوى العالي والصياغة الراقية لمفاهيم الرسائل، وبعد ذلك نقلها إلى اللغة الأخرى بأسلوب محكم رصين يليق برسائل النور.
ومن العوامل المساعدة (لنا خاصة في الترجمة الكردية) معرفة طريقة تصور المفاهيم لدى مؤلف رسائل النور. وهي التي يذكرها الأستاذ النورسي في إحدى رسائله القديمة من أن: "لغة الأم، لكونها فطرية، تنساب معانيها إلى الذهن دون استدعاء". وهو لأجل ذلك قال: "إنني أتصور كردياً ثم أتكلم عربياً أو تركياً". فطريقة تصور المفاهيم للأستاذ النورسي في كثير من رسائله ليست غريبة عنا كغربتها لدى بعض مترجمي اللغات الأخرى، بل لدى العديد من قراء رسائل النور.
11– ما أهم ما شد انتباهكم في رسائل النور من حيث المنهج؟
الكتب التي قرأناها من غير "رسائل النور" كانت تخاطب جانباً أحادياً من الإنسان. ولكننا وجدنا الرسائل تتعامل مع الإنسان ككل متكامل يأبى على التجزيء، فهو كيان موحد لكنه ذو لطائف عديدة من عقل وقلب وروح وغيرها... فلا تستأثر هذه الرسائل بجانب واحد من هذا الكيان لتوجه إليه خطابها دون الجوانب الأخرى. وقد سارت رسائل النور في منهجها هذا على ضوء منهج القرآن الكريم في نظرته للإنسان.
12- استوقفكم موضوع الرسائل، فما أهم ما يشد الإنتباه فيها؟
الجوانب التي تجلب انتباه القارئ إلى رسائل النور كثيرة لا مجال هنا لسردها. لكن أود أن أشير إلى واحدة منها وهي أننا ألفينا العديد من الكتب الدينية تبحث عن قضايا لا شك في كونها إسلامية نابعة من علم وإخلاص، ولكن الملاحظَ على أكثرها أن الوقت الحقيقي لم يحن بعد لتنزيلها على أرض الواقع. فهناك كتب قرأناها منذ ما يربو على ثلاثة عقود وأخذنا منها زاداً معرفياً واسعاً وأُعجبنا بما حوتها أيما إعجاب، ولا تزال تحتل مكانتها الجديرة بها في مشاعرنا، ولكن بعد مضي هذا الوقت المديد لم تتهيأ لها بعد الأرضية المناسبة لتطبيقها في الحياة العملية. أو تتأبى على التطبيق لكونها أموراً نظرية مقطوعة الصلة بالواقع بكل أبعاده. وأغلب الظن أننا سنترك هذه الدار دون أن تكتحل عيوننا برؤية كثير منها وهي تأخذ طريقها إلى التطبيق العملي.
أما الرسائل النورانية التي أذاب فيها النورسي قلبه، واعتصر بين أسطرها روحه، وأنابَ كل كلمة فيها عما كان يختلج في نفسه، بل إنك لتلقى شخصه وروحه في ثنايا كلماته وحروفه... فهي التي تقف بك قُبالةَ القضايا الإيمانية الملحّة التي تواجهها يوماً فيوماً، بل ساعة فساعة. فلا يضيع أي وقت من العمر سدى في التعامل الجاد معها والاقتباس من أنوارها. بل إن مطالعتها تجعل الإنسان يعيش في تفاعل مستمر مثمر مع أركان الإيمان التي كانت قبل تعامله مع هذه الرسائل قضايا نظرية باردة غدتْ شاحبة لديه، إن لم تكن شبه معطلة.
13- ما الزوايا التي تنصحون القراء بالتركيز عليها معرفياً؟
الأصنام الجديدة القديمة التي تزينها للناس شياطين الإنس والجن اليوم لا تعدو أن تكون منصوبة في الآفاق أو الأنفس...
فالشخص الذي ابتلي بأصنام الطبيعة والصدفة والأسباب المادية ويُرجع إليها أمر الإيجاد والتصرف في الكون، بل في كل صغيرة وكبيرة، لابد له أن يركّز في دراسته للرسائل على المواضيع التي تحطم هذه الأصنام ببراهينها الدامغة.
والذي استولى عليه حب الذات ونصب لنفسه من نفسه الأمارة صنماً هام فيه لا يعصي له أمراً، تعالج داءَه المباحثُ الخاصة بتعريف الإنسان بربه وبنفسه وبوظيفته في الحياة.
وبعد أن تم له تحطيم هذه الأصنام تنفتح أمامه الأبواب على عوالم شاسعةٍ جداً في رياض رسائل النور الرحيبة يختار السياحة في أي منها كما يشاء.
14- امتازت الرسائل بمناح معنوية قوية، فما هي المباحث التي توجهون القراء إلى العناية بها؟
ما من موضوع في الرسائل يعتبر زائداً عن الحاجة أو لا يحتاج المرء إلى العناية به، إن أراد لنفسه تزكيتها والسير بها إلى مراقي التكامل الإيماني والمعرفي.
وأهم الزوايا فيها -في نظري- هي تلك المواضيع التي ترشد المسلم إلى كيفية التمسك بالسنة النبوية -على صاحبها الصلاة والسلام- والعيش الحضوري مع الخالق جل جلاله، والتعامل مع مخلوقاته، في خط سير مستقيم وفق القواعد والدساتير القرآنية التي تكفلت ببيانها رسائل النور.
15- كيف استقبل العارفون باللسان الكردي ترجمة رسائل النور؟
لاقت ترجماتنا -بفضل الله وتوفيقه- في بلادنا استقبالاً حسناً من لدن قرائها...
فمن حيث الترجمة، اعتبرها البعض ترجمة جديرة بأن ينسج على منوالها المترجمون...
ومن حيث كونها "رسائلَ النور" للأستاذ النورسي -رحمه الله- فقد حظيت بإقبال رائع على اقتنائها وقراءتها والتحلق حول دروسها سواء في الأُسر أو البيوت أو في بعض المراكز الثقافية الدينية التي بدأت تهتم بهذه الرسائل ضمن أنشطتها ودروسها.
وقد توالت طبعاتها في مدد زمنية متقاربة إذا ما قسناها بإقبال الناس على غيرها من الكتب.
ولا عجب -بعد ذلك- أن يلاحظ المرء آثار هذه الرسائل على دارسيها في التغيرات التي تطرأ على سلوكهم ووجهتهم في الحياة بعد مداومتهم على قراءتها وحضورهم دروسها.
16- بماذا تنصح القارئ العادي من حيث أخذه عدة معرفية لاستيعاب مضامين ومناهج رسائل النور؟
أرى أن يتركوا أبواب القلوب مشرَعة والمنافذ المطلة على أرواحهم وسائر لطائفهم مفتوحة... وأن يجتنبوا الأحكام المسبَقةَ الجاهزة التي قد تأتي ممن لم يعرفوا بعدُ رسائل النور حق معرفتها... وأن لا يستعجلوا في قراءة وفهم جميع الرسائل، ولا ينقطعوا عنها، بل يواصلوا قراءتها شيئاً فشيئاً كي تنفتح لهم أبواب فهمها واحدة بعد أخرى...
فلم يشترط المؤلف -حسب علمي- على القارئ شيئاً ذا بال خارج هذه الوصايا لهم.
17- هل من مشاريع ترجمة جديدة؟
تم بفضل الله تعالى وتوفيقه إلى الآن ترجمة (كليات رسائل النور) إلى اللغة الكردية وطبعها ونشرها بين الناطقين بها في كل من العراق وإيران. عدا كتاب "المثنوي النوري" الذي هو الآن قيد الترجمة. وقد أنهينا ترجمة ما يقرب من نصفه، نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى إتمام ترجمته ونشره.
18- بم تنصحون القائمين على مجلة النور للدراسات الفكرية والحضارية وهي في السنة السادسة؟
لا أجد نفسي أهلاً لتوجيه النصح إلى الأساتذة الكرام والإخوة القائمين على هذه المجلة المتينة في إخراجها والرصينة في بحوثها والغنية في محتوياتها العلمية، إلا أن يكون امتثالاً لأمر "الدين النصيحة"، فأبديها أُمنيّة، وهي أن أرى هذه المجلة فصلية تكون حصيلة سنتها أربعة أعداد، إن كان ذلك في الإمكان.
وختاماً وبدءاً أقدم شكري وعرفاني لكم على هذه الالتفاتة الكريمة من جانبكم، حيث منحتمونا هذه العناية الكبيرة والفرصة الطيبة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *