العناصر الفكرية والفنية والنفسية في منهج الأستاذ النورسي في التفسير

العناصر الفكرية والفنية والنفسية

في منهج الأستاذ النورسي في التفسير

ABSTRACT

Elements of Intellectual, Artistic and Psychological Approach in The Quranic Interpretations of Bediuzzaman Said Nursi

Associate Professor Dr. Abdul Majid Quazi

It was Nursi's principled stand to make the Quran his absolute teacher in his life. The wisdom which he inspired from the events of this time, led him to turn to the Quran, with his heart and soul and seek its guidance.

Looking back into our knowledge heritage, we find distinct schools of thought in Quranic research and analysis; one represents the philosophical and theological tendency, while the other stands for the rhetorical and literary approach. Nursi firmly stands in between the two and utilizes the more positive points of both the streams in his methodology. Thus he holds the balance between intellectual and artistic approaches in the analysis of the holy text. His methodology of Quranic interpretations can be put, broadly, into two categories. (1) The structured and comprehensive commentary, where he take into account all aspects of the etymological, grammatical, rhetorical, and contextual as well as the logical and philosophical study of the Quranic texts. This method has been adopted by him in his famous commentary "Ishārāt al-I'jāz (Signs of Miraculousness)".

(2) In the unstructered method we find him at various levels of engagement with texts. Here he sometimes makes floating references to the holy verses, at other times he dwells on some aspects related to the context. Examples show that he goes very deep in the analysis of verses related to the matters of faith. He combines the Quranic wisdom with the open inspirations from the nature and cosmos. This phenomenon represents his entire works which from the collection of Resile Nur.

Some interpretations of Nursi are purely based on the spiritual experiences. But their beauty is that they do not confront with the established notions of the Quran, and there is enough room in the body of the texts to accomodate them. He saw in air a window to divine unity, discovered many secrets of "Bismillah" within the elasticity of textual limits. Thus he opened new horizons to the study of the miraculous text.

The significance of Nursi lies in his unique blending of the rational knowledge with the artistic capability to analyze the holy text and prove the matters of faith in the present cultural and scientific scenorio.

* * *

 ملخص البحث

د. عبد الماجد القاضي1

تفوق الأستاذ النورسي في نظرية التفسير البلاغي بما أوتي من منهج رائد وعقل متوقد فأورد البراهين العقلية واعتمد على القرآن الكريم في الاستدلالات والبراهين وبسط بالأمثلة من كتاب الكون ليزيد الموضوع اتضاحا وتستطيع العقول استيعابها، فغذى بذلك القلب والعقل والوجدان والروح والفكر، فلم يهمل القلب بتركيزه على العقل ولم يغمط العقل حقه بالاهتمام بالروح والقلب، فكان بذلك متوازنا في عرض الحقائق القرآنية واستطاع عرضها بشكل متكافئ أبرز عن موهبته الفذة في الجمع بين براهين العقل والقلب.

وقد اختار النورسي الالتزام في منهجه التفسيري ببيان أوجه الإعجاز والنكات البلاغية، في الوقت الذي لايرى فيه اقتصار الإعجاز في الناحية البلاغية فحسب، بل يعتبره وجها من وجوه الإعجاز الكثيرة، فهو بذلك لا يمثل النزعة الفلسفية والكلامية التي تتجلى آثارها في الاهتمام الزائد بالتعريفات والتقاسيم المنطقية دون الاعتناء الكافي بالشواهد الأدبية، كما لا يمثل أيضا منهج المدرسة الأدبية التي استخدمت المقاييس الفنية والذوق الأدبي في الدراسة والتحليل.

لقد تأثر الأستاذ بنظرية الإعجاز في النظم التي هي أداة مهمة لإثبات الإعجاز البياني في القرآن عنده، كما أنها تتصدر قائمة الأولويات المنهجية لديه. ورغم صعوبة التطبيق العملي لهذه النظرية على النصوص التفسيرية إلا أن الأستاذ سار بخطى وئيدة وواثقة في كشف أسرار النظم فيما ألفه من كتابه الإشارات.

* * *

الأستاذ بديع الزمان النورسي وشغفه بالقرآن

إذا تحدثنا عن وضع العلوم الإسلامية ومدى تطور البحث فيها تذكرنا القول السائر بأن التفسير من العلوم التي لم تنضج بعد، أي أن مجموع ما قامت به الأمة من مجهود في فهم الكتاب لم يرتق إلى المستوى المطلوب من البحث وسبر أغوار كلّ المعاني التي احتواها التنزيل الحكيم. وهي ملاحظة دقيقة وصائبة كذلك. والحقيقة التي لاتقبل المراء هي أن الأمة قد فرطت كثيرا في حق هذا الكتاب العظيم على كافة المستويات العلمية والعملية.

تعد رسائل النور للأستاذ بديع الزمان النورسي محاولة جادة تستشف من القرآن الكريم نسائمه وتستقي منه معانيه، ومن ثمّ تمتاز الدراسات النورية بتمحورها حول القران الكريم ومنه تقتبس باستمرار النور والهدى.

كان من موقفه المبدئي وخطته المرسومة في جملة مساره العلمي الذي طبع حياته أن يجعل القرآن الكريم أستاذه المطلق2 فيما يصادفه في حياته. وقد ساقته الحكمة التي استلهمها من الأحداث التذكير بالعودة الدائمة للقران الكريم بقلبه وقالبه، يغوص في أعماقه ويتقلّب في محيطه منقطعا إلى التفكير والدراسة المتأنية في آياته. وقد اقتضت الحكمة الإلهية المطلقة أن لا تكشف كنوز الحكم إلا إذا التزم المتتلمذ على مائدة القرآن بآداب تليق بمكانته السامية من صفاء القلب واستعداد الروح، كما وصف ذلك الدكتور محمد إقبال:

ترى ضمير بر جب تك نه هو نزول كتاب

كره كشا هى رازي نه صاحب كشاف3

"من المستحيل أن يحل لك الرازي رموز المعاني ويكشف لك الزمخشري أسرار الحكمة مالم تتلق وحي التنزيل مباشرة على مرآة قلبك" ويبدو أن هذا الشرط قد توفر لدى النورسي الذي حل القران الكريم أكرم منزل، فأنزله سويداء قلبه وأصبح له "أسمى مرشد وأقدس أستاذ على الإطلاق".4

وقبل أن نستهل الكتابة عن إسهامات الأستاذ النورسي في مجال التفسير وعلوم القرآن، يجدر بنا أن نستعرض بإيجاز الخلفية التاريخية للدراسات القرآنية.

نظرة عجلى على مناهج الدراسات القرآنية

لقد وقف العرب موقف الحيرة والانبهار والذهول أمام إعجاز القرآن الكريم، وانطلقت قرائح نخب فصحائهم وخطبائهم وشعرائهم تتلمس أسرار قوته البيانية الخارقة، وتبحث عن مصدرها الفياض، وينتهي بها مطافها التائه في شعاب اللغة إلى العجز والقصور عن إدراك أسرار الجمال البياني في القرآن الكريم. وقد تحدى القرآن العرب قاطبة أولا ثم البشر كافة حتى تحدى الإنس والجن جميعا على الإتيان بمثل القرآن الكريم روعة وقوة وجمالا. ويشهد التاريخ أنه لم يتصد أحد لهذا التحدي، وأنه باق وسيبقى كذلك إلى أن يرث اللّٰه الأرض ومن عليها.

ومنذ فجر التاريخ الإسلامي عكفت جماعات وأجيال تلو أخرى من العلماء والباحثين في تسلسل زمني لا يتخلله ركود أو خمود لمواصلة البحث في كشف أسرار البلاغة المعجزة في الكتاب المبين. وخلال هذه الفترة الممتدة على القرون الطويلة نشأت مدارس أدبية وبلاغية عديدة، وأسهمت في إثراء المكتبة العربية بمؤلفات قيمة إلا أنها لا تمثل الدرجة المطلوبة من الوضوح والدقة والتكافؤ. فلذلك ذهب السكاكي وكثير من علماء البلاغة إلى أنّ السر البلاغي في القرآن خفي السبب تحتار العقول فيه عند البحث فيه، وغاية ما يقال في هذا الباب أنه معنى يتجمجم في القلب، وتمتلئ به النفس، ويذعن له الضمير ولكنه لايستطاع تفسيره وتعليله باللغة الرياضية الصريحة.5 ويقول السكاكي: " واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة".6

وذهبت أغلبية علماء البلاغة والنقد إلى أنه يمكن تعليل ظاهرة الإعجاز ودراسة أسبابه. وقد كان عبد القاهر الجرجاني في طليعة القائلين بهذا الرأي، وهو المذهب المختار لدى الأستاذ بديع الزمان النورسي الذي التزم في منهجه بيان أوجه الإعجاز والنكات البلاغية، بينما لايرى اقتصار الإعجاز في الناحية البلاغية فحسب، بل يعتبره وجها من وجوه الإعجاز الكثيرة.

وبينما نجد اتجاهين واضحين لدى قدماء البلاغيين في طريقة البحث والتحليل حيث يمثل أحدهما سيطرة النزعة الفلسفية والكلامية التي تتجلى آثارها في الاهتمام الزايد بالتعريفات والتقاسيم المنطقية دون الاعتناء الكافي بالشواهد الأدبية، وكان من الرجال البارزين لهذه المدرسة: الزمخشري ( ت 538هـ )و فخر الدين الرازي ( ت 606هـ ) وابن المكارم المطرزي (ت 610هـ) وأبو يعقوب السكاكي (ت 626هـ) والتفتازاني (ت 792هـ ).7

ويتمثل الاتجاه البلاغي الآخر في منهج المدرسة الأدبية التي استخدمت المقاييس الفنية والذوق الأدبي في الدراسة والتحليل. وكان من أعلام هذه المدرسة ابن المعتز (ت 296هـ ) وأبو هلال العسكري (ت 390هـ ) وابن رشيق ( ت 463هـ ) وابن سنان الخفاجي (ت 466هـ ) وعبد القاهر الجرجاني ( ت 474هـ) وأسامة بن منقذ (ت 584هـ) وابن الأثير (ت 636هـ) وقد أطلق السيوطي(ت 911هـ) على منهج المدرسة الأولى " طريقة العجم وأهل الفلسفة " وعلى الثانية "طريقة العرب والبلغاء".8

وقد تأثر الأستاذ النورسي بنظرية الإعجاز في النظم، وهي من النظريات القديمة التي أشار إليها علماء الدراسات القرآنية والإعجاز، إلا أنها تبلورت كمذهب تحليلي واضح في مؤلفات الإمام عبدالقاهر الجرجاني الذي لاحظ أنه ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وهذا النظم مبني على مقتضيات علم النحو والجمال الراجع إلى عدة نواح في البلاغة، كالجمال اللغوي والجمال المعنوي والجمال التصويري -الناشئ عن الاستعارة والتشبيه- مضافا إليه مزية النظم التي تفوق جميع المزايا الجمالية.9

الإعجاز والنظم عند النورسي

يرى الأستاذ النورسي في نظرية النظم أداة مهمة لإثبات الإعجاز البياني في القرآن، وهي تتصدرقائمة الأولويات المنهجية لديه. فيقول في مقدمة تفسيره "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز": "أما بعد، فاعلم أولا: أن مقصدنا من هذه الإشارات تفسير جملة من رموز نظم القرآن، لأن الإعجاز يتجلى من نظمه، وما الإعجاز الزاهر إلا نقش النظم"10 واللافت للنظر أيضا أنه استهل هذه المقدمة بالآيات الأربع الأولى من سورة الرحمن، ﴿الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾الرحمن:1-4 بعد البسملة مباشرة، وهي تحمل إشارة لطيفة إلى جانب التركيز المنهجي في تفسيره. وبالرغم من أنّ كثيرا من المفسرين مقتنعون بصحة نظرية النظم إلا أنهم واجهوا صعوبة كبيرة في تطبيقها العملي في تفاسيرهم. غير أنه يبدو من صنيع الأستاذ النورسي أنه يسير بخطى ثابتة وواثقة في كشف أسرار النظم بين الكلمات والعبارات والآيات. ويبدو أنه لو أتيحت له فرصة المضي في إكمال هذا المشروع العلمي العملاق لأثرى المكتبة القرآنية ببيان واف للنظم البديع في القرآن.

ويأخذ تحليل النظم عند النورسي مرحلتين، أولاها بيان خفايا الروابط بين الكلمات المفردة فالتراكيب فالجمل فالآيات فالسور. وفي المرحلة الثانية يتبسط في معالجة موضوع الإعجاز والنظم بتلمسه الوحدة الموضوعية والغائية وحصرها في مقاصد أساسية؛ فيقول: "إن المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأصيلة أربعة: التوحيد والنبوة والحشر والعدالة"11وهكذا تنتظم الآيات والسور في سمط من الترابط المنطقي، ويقوم بتحليل البسملة وسورة الفاتحة للتنصيص على سريان هذا الترابط المنطقي والموضوعي.12

تركيزه على العقل والتفكير

انطلاقا من تركيز القرآن الكريم على العقل وتنصيصه المتكرر على الدور الأساسي للعلم والعقل في الحياة نال التفكير المنطقي حظه الأوفر في منهج الأستاذ النورسي في تفسير الآيات القرآنية. وقد عالج هذا الجانب المبدئي في سياقات كثيرة للدلالة على أنه من المقومات الجوهرية في تكوينه الفكري، وقد ورد في خطبته الشامية قوله:

"...ثم إن أوائل أكثر الآيات القرآنية وخواتمها تحيل الإنسان إلى العقل قائلة: راجع عقلك وفكرك أيها الإنسان وشاورهما، حتى يتبين لك صدق هذه الحقيقة، فانظروا مثلا إلى قوله تعالى: فاعلموا، فاعلم، أفلا يعقلون، أفلم ينظروا، أفلا يتذكرون، أفلا يتدبرون، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وأمثالها من الآيات التي تخاطب العقل البشري، فهي تسأل: لم تتركون العلم وتختارون طريق الجهل؟ لم تعصُبون عيونكم وتتعامون عن رؤية الحق؟ ما الذي حملكم على الجنون وأنتم عقلاء؟ أي شيء منعكم من التفكر والتدبر في أحداث الحياة فلا تعتبرون ولا تهتدون إلى الطريق المستقيم؟ لماذا لا تتأملون ولاتحكمون عقولكم لئلا تضلوا."13

جمعه بين المنهجين العقلي والفني

تتجلى موهبة النورسي الفذة في جمعه بين العقلية الفلسفية المتمسكة بنواصي المعاني الدقيقة وبين البلاغي والفنان والذواقة الذي ينفعل حسه المرهف مع نصوص التنزيل الرفيعة ويحرك جبروت صوره البيانية أوتار وجدانه فيتفانى ذلك الفيلسوف والبلاغي والفنان في ثنايا النص بعقله الواعي وقريحته الوقادة وذوقه الرفيع وينطلق قلمه السيال لتسجيل كنوز المعرفة ورموز الفن. ولنقف هنا لنتأمل ما دبجه يراعه في سياق الآيات ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾البقرة:17 في سورة البقرة فقد استطرد هنا إلى بيان الأسس البلاغية التي تسهم في فهم إعجاز القرآن، وجعلها ثنتي عشرة مسألة:

الأولى: إن منشأ البلاغة يتجلى في نظم المعاني بطريقة انسيابها وذوبانها عبر الكلمات والتراكيب منطقيا، وبذلك يرى أن المزية البلاغية تتركز في نظم المعاني دون الألفاظ.

الثانية: يتجلى الجمال البياني في التصوير الفني والتشخيص.

الثالثة: يتجلى جمال الأسلوب في الاستعارات التمثيلية والصور البيانية التي تنقل المعاني نابضة بالحياة على شاكلة الشريط السينمائي.

الرابعة: في الانسجام الكلّي بين أجزاء الكلام.

الخامسة: في العلاقة المعنوية المتطابقة بين العبارات والجمل.

السادسة: هناك تشعب دقيق في دلالات الكلمات، وليس من الميسور تقييد دلالاتها التجريدية أو الشبيهة بها، وهي ليست على صفة واحدة من قابليتها للتعبير.

السابعة: لابد أن يكون الخيال ناشئا عن أساس من الحقيقة.

الثامنة: إن التعدد في معاني الحروف والكلمات ليس حقيقيا، بل هو امتداد للتوسع والمجاز.

التاسعة: أعلى مراتب البلاغة هو التناسق بين الكلمات والجمل حيث تسهم بمجموعها في بناء صرح المعنى.

العاشرة: مقتضى السلاسة هو التوافق في المعاني والاندماج.

الحادية عشرة: مقتضى سلامة الكلام وقوته التسلسل والرصانة المنطقية.

الثانية عشرة: تنقسم الأساليب إلى ثلاثة أقسام:

- الأسلوب المجرد ذو اللون الواحد، وهو الأسلوب العلمي.

- الأسلوب المزيّن (الأدبي) مثاله "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة".

- الأسلوب العالي، وميزته الشدة والقوة والهيبة والسمو الروحي، وهو أسلوب القرآن.14

وكان من طبيعة نظرية النظم التي يتمحور حوله تفسير "إشارات الإعجاز" ومقتضى دقتها المتناهية أن تشغل كافة مواهبه العقلية لإدراك أوجه النظم كما تطلبت غزارة المعارف اللغوية والشغف الذوقي الزايد بالنص الكريم. ثم لم يكن النظم هو الجانب الوحيد الذي استأثر باهتمامه، بل تناول بيان الحقائق الإيمانية، والربط بينها وبين حقائق الوجود، ومن دأب المؤلف أن يقف وقفات متأنية طويلة مع الآيات التي تتضمن أسس الإيمانيات. ومن الميزات البارزة لمنهج النورسي أنه جمع بين إيجابية خصائص المدرستين الكلامية والأدبية.

الجانب الفني والنفسي من تحليل الأستاذ النورسي

يرى النورسي من إعجاز القرآن طراوته وفتوته وتجدده في مخاطبة كل جيل وزمان، وبتخييله الحسي يرى القرآن حصنا منيعا ومحروسا من الجهات الست15 ويعتبر الجانب البلاغي واحدا من بين وجوه إعجازه السبعة الكبرى،16 وفي معالجة موضوع تكرار الآيات في القرآن الكريم كالبسملة و ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ في سورة الرحمن و ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ في سورة المرسلات وقصص بعض الأنبياء وإشكالية هذه الظاهرة من الناحية البلاغية - يلاحظ الأستاذ النورسي أن التكرار لا يتلازم الملل دوما، فمنه مايحلو ويلذ ويستحسن، وهنا يقارن بين الذوق الحسي في المأكولات الشهية والذوق المعنوي في جمال العبارات التي تستجيب لها النفس بالرضا والقبول الحسن بدلا من الملل والسآمة، وبناء على ذلك يعتبر القرآن بمجموعه قوتا ومصدر قوة للقلوب، فحاشا أن يُمَلّ تكراره. ويرى من الناحية الأخرى أن "في القرآن الكريم ما هو أس الأساس والعقدة الحياتية والنور المتجسد بجسد سرمدي كـ ﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾، فيا هذا شاور مذاقك إن كنت ذا مذاق".17

ويذهب النورسي الذواقة لكتاب اللّٰه إلى أبعد من هذا فيعد تكرار الجمل والآيات والقصص نوعا بديعا من الإعجاز لكون القرآن كتاب دعاء ودعوة وكتاب ذكر وتوحيد ولتجدد المعاني في السياقات المتباينة، وتناول بيان حكمة تكرار البسملة بأنها الحقيقة الكبرى التي تملأ الكون نورا وضياءً وتشد الفرش بالعرش برباط وثيق،18وهكذا يفتح لنا آفاقا من رموز المعاني التي تحتملها البسملة من الناحية الروحية العقيدية والموضوعية باختزال لرؤوس العناوين التي تنطوي عليها ومراحل عديدة من المقامات والأحكام.19

وذكر عن تكرار الآية الكريمة ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾الشعراء:9 -التي وردت في سورة الشعراء ثماني مرات- بأنها تنطوي على ألوف الحقائق، حيث أنّها سيقت تعقيبا على قصص الأنبياء الذين كُذِّبوا وعوقبت أممهم الظالمة بمقتضى من العزة الربانية كما اقتضت الرحمة الإلهية نجاة هؤلاء الأنبياء من سوء مصير أممهم الطاغية، فيجعل هذا السياق تكرارها مستساغا وشيقا ومن مقتضى البلاغة الراقية.20

و أما تكرار قصة موسى عليه السلام فهو -على فرض التكرار الذي تنفيه دلالات السياقات المختلفة- يمثل فوائد جمة 21وينطوي على أسرار من العبرة والبلاغة التي يقطع في ظلها السحرة الكفرة مسافات هائلة من الرقي الإيماني والروحي.

خطته المنهجية في التفسير

يجد الباحث في آثار الأستاذ النورسي أن التفسير عنده يمثل مرحلتين، أولاها ما نجده في تفسيره "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز" والذي كان في الحقيقة مشروعا علميا عملاقا توخى من خلالها تفسير القرآن بالكامل، وبدأه بسورة الفاتحة ووصل فيه إلى الآية الثالثة والثلاثين من سورة البقرة، ثم حالت دون الاستمرار فيه ظروف قاهرة من الحرب العالمية الأولى والأحداث الجسيمة التي تلتها.

والتزمت خطته في "إشارات الإعجاز" بأن يكتب آية أو مجموعة من الآيات التي تشكل وحدة موضوعية- في أعلى الصفحة ثم يبدأ ببيان نظمها بسابقها، ويردفه ببيان وجه النظم بين جمل الآية، ويقف مع كل كلمة وقفة تأمل ويتناول تحليلها من نواح عديدة، لغوية وبلاغية من دلالات للكلمات المفردة وشرح للتراكيب وإبانة لأوجه الإعراب وقواعد اللغة والمناسبات اللطيفة بين الكلمات وسياقاتها. ويتجنب التكرار الحاصل من ذكر الأقوال المتماثلة، ويورد أحيانا الأحاديث الكريمة ويستشهد بشعر العرب ويستشهد بالقدماء من العلماء أحيانا من أمثال الزمخشري والسكاكي والتفتازاني، ويستشهد بالجرجاني في مناسبات النظم ودقائق البلاغة ويطيل النفس في تحليل الأمثال والصور البيانية، وأحيانا يتبعها بتعليق حول الواقع المعيش، وكثيرا ما يحرّك إعجاز التنزيل وجدان الفنان في شخص النورسي. ويمكننا أن نسمي هذه الخطة المنهجية بالتشكيلة البنيوية للتفسير.

أما المرحلة الثانية فهي تتمثل في كافة كتاباته الأخرى من رسائل النور التي يستشف فيها من القرآن الكريم ويعرض في ثناياها تفسير الآيات القرآنية حسب سياقات الموضوع، وهي بمجموعها تتضمن التفسير في إطار شامل. غير أن منهج المعالجة هنا يختلف عن التشكيلة البنيوية والخطة المرسومة التي التزم بها في تفسيره "إشارات الإعجاز" إذ أنه يستطيع أن يوجز حديثه ويتناول جانبا واحدا أو جوانب عديدة من الموضوع حسبما تقتضي الظروف. وذلك يتيح له مجالا أوسع للتبسط في شرح المعاني والمرونة في توظيفها والربط بينها وبين حقائق الساحة الواقعية، بينما الالتزام بالسياق التفسيري المتسلسل حسب التشكيلة البنيوية يحد من هذه الحرية.

خطته المتدرجة في تفسير الآيات القرآنية الواردة في سياقات رسائل النور

ينبثق محتوى رسائل النور عامة من صميم الموضوعات القرآنية من الإيمان بالغيب والعمل الصالح وتزكية النفس والدفاع عن الإيمان وما إلى ذلك. وإنها تمثّل اقتباسا دائما من نبراسه - معنى حينا وجمعا بين المعنى والمبنى حينا آخر. وتزدان ديباجاتها ببعض الآيات أو أجزاء منها تيمنا أو بهدف تفسيرها وبيان معانيها. وقلما خلت افتتاحيات رسائله من آية ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾الإسراء:44 ونهاياتها بــ ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾البقرة:32 وهناك آيات أخرى يكثر الأستاذ النورسي من تكرارها في كتاباته، ولها علاقة وثيقة بسياقاتها المختلفة. وكثيرا ما يورد الآيات القرآنية استشهادا بها في إثبات المفاهيم التي يعالجها فيسلط الأضواء على معانيها وما تضمنتها من دلالات، وخير ما نورده مثالا على ذلك تحليله اللطيف للآية الكريمة: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾النحل:68 في صدد حديثه عن ظهور الأفعال الربانية ودحض تصور المصادفة والعشوائية.22

غير أن هناك نوعا رابعا من سياق الآيات القرآنية التي تكون محط اهتمامه المركز، والتي يتفرغ الأستاذ النورسي لتفسيرها وتحليل مغزاها بغاية من العناية والبسط. وتنزاح أستار الضباب والغموض أمام انطلاقته الروحية في أجواء النص. وإذا تناولنا " الآية الكبرى مشاهدات سائح يسأل الكون عن خالقه في تفسير قوله تعالى ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾الإسراء:44 في الشعاع السابع -إذا تناولناها نموذجا للفيض الروحي الذي اتسم به تفسيره لهذه الآية العظيمة- لاحظنا جيشان عاطفته أمام جمالها الباهر، واتضحت لنا آفاق خياله الرحبة في نسج حبكة التمثيل الفنية لإثبات حقائق الإيمان وبيان الربط بينها وبين حقائق الوجود. ومن جمال أسلوبه هنا أنه يتحول إلى قطعة موسيقية تنساب إيقاعاتها في قرارة الوجدان. إنه يتناول بيان حقائق الكون والإيمان، من السماوات والأرض والربوبية والجو والسحاب والمطر والبرق والرعد وما تحمل من دلالات وآيات باهرة، بفنية رائعة تضفي عليه جمال الشعر وبهاءه. وإليكم مقتطف من أسلوبه:

"ثم إن الفضاء الذي هو محشر العجائب ومعرض الخوارق والمسمى بـ "الجو" نادي بصوت هادر ذلك القادم إلى الدنيا، ذلك الضيف السائح: انظر إليّ لأرشدك إلى من تبحث عنه بشوق ولهفة، وأعرفك بذاك الذي أرسلك إلى هنا، فينظر إلى وجه الفضاء المكفهر، وهو يتقطر رحمة، ويستمع دويه المخيف المرهب وهو يحمل رحيق البشرى!"23

هو يصور الإنسان على الكرة الأرضية بموقف السائح الذي يفتح عينيه على ظواهر الكون لاستجلاء حقيقتها وهي بدورها تنطق بوضوح عن رب العالمين.

ويتجلى من خلال صور التمثيل التي اختزلت قصة الحياة والوجود وطبيعة علاقة الإنسان بالكون وربه وبيانه العذب السلس وتصرفه البديع في رسم الصور، أن لهذه الآية بالذات مكانة خاصة في شغاف قلبه ولها مزية استثنائية في الاستحواذ على مشاعره.

وتتصدر الشعاع التاسع الآيات العشرة من 17 إلى 27 من سورة الروم ﴿فَسُبْحَانَ اللّٰهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ... وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ولدى تفسير هذه الآيات ينصب اهتمام الأستاذ النورسي في إثبات ما تضمنته الآيات من عقيدة الحياة بعد الممات، وبدأه بمقدمات وتمهيدات عقلية مناسبة تساعد على فهم مدى منطقية مراحل الحياة والموت والبعث وكونها بمقتضى الحكم الإلهية في الكون. والملحوظ في آثار الأستاذ النورسي أنه إذا كان بصدد إثبات الإيمانيات والركائز العقيدية اصطفت أمامه الحجج العقلية والبراهين المنطقية طائعة منقادة ليختار منها ما يشاء فيأخذها ويبني بها حصنا منيعا وبنيانا مرصوصا من الأدلة الإيمانية. وقد تضمن تفسيره لهذه الآيات بيان الدور المحوري الذي تمثله عقيدة البعث والحشر في تقويم أسس الحياة الاجتماعية، وكيف تنعكس آثارها في سلوك الفرد والجماعة. ويجدر هنا الإشارة إلى أن أسلوب تحليله وعرضه لهذه الحقائق يمتاز بالقوة والدقة والوضوح، فيدق على أبواب العقل بقوة وقدرة لكنه كذلك يشق طريقه إلى القلب في همس وديع. وببراعة ملحوظة يوصل النورسي -وهو كان حارس ثروة الإيمان في تركيا- بين عالم الفكر هذا وبين عالم الواقع الذي تعيشه البشرية، للتقابل بين الصورة المثالية والصورة الواقعية. وبعد هذا التطواف في آفاق الفكر وأودية المنطق يعود إلى نقطة البداية ويقف مع الشواهد القرآنية الأخرى التي تؤيد مضمون الآيات من البعث والقيامة، على حسب القاعدة المعروفة أن القرآن يفسر بعضه بعضا. وحتى بعد أن اتضحت جوانب الموضوع تمام الوضوح بالأدلة العقلية والنقلية القاطعة - يواصل النورسي حديثه المشبع بالقناعة العقلية والإيمان الثابت لتعميق مجرى الإيقان في النفس وترسيخ قواعده في القلب.24

وكثيرا ما تستجلب انتباهنا لفتاته البلاغية وتحليله اللغوي البياني الدقيق للآيات القرآنية، فهو على سبيل المثال -خلال وقفة تأمله في الآية القرآنية ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾.الأنبياء:46

- يحصي نواحيها البلاغية بإيجاز لكنه بذلك يوفر تغذية ذوقية فريدة تجعلنا نرجع إلى الآية في خشوع وتأدب وتأثر بالغ، بيد أننا قد قرأناها من قبل عشرات المرات دون أن نوفق إلى تذوق ذلك الجمال البياني المعجز. يقول الأستاذ بديع الزمان النورسي في هذا السياق:

"فتأمل في كلام رب العزة ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾الأنبياء:46 المسوقة للتهويل، وتخويف الإنسان، وتعريفه بعجزه وضعفه، فبناء على القاعدة البيانية 'ينعكس الضد من الضد' ترى الآية الكريمة تبين تأثير القليل من العذاب بقصد التهويل والتخويف، فكل طرف من الكلام يمد القصد، وهو التقليل عن جهته وذلك بالتشكيك والتخفيف في لفظ 'إن' والمس وحده دون الإصابة في 'مست' والتقليل والتحقير في مادة 'نفحة' وصيغتها وتنكيرها، والتبعيض في 'من' والتهوين في 'عذاب' بدلا من نكال، وإيماء الرحمة في 'ربك' كل ذلك يهول العذاب ويعظمه بإراءة القليل، إذ إن كان قليله هكذا فكيف بعظيمه، نسأل اللّٰه العافية".25

استنتاجات ذوقية ولفتات قلبية

اقتباس الدلالات من ظواهر الأجراس الصوتية

إن نزعة التفكير الإيماني التي شغلت بال الأستاذ النورسي تجعله في استلهام دائم من كتاب الكون المفتوح، كما أن قلبه الولوع يستمد دوما من النفحات القرآنية المنعشة، وقد تتركز جميع قوته الفكرية والذوقية والاستنتاجية في كلمة واحدة من الآيات القرآنية، وتستنتج منها فوائد جمة، فهو على سبيل المثال يقف مع كلمة "هو" في 'لا إله إلا هو' و 'قل هو اللّٰه أحد' ويقطف منها كثيرا من ثمار التوحيد، ويقوم بمقاربة صوتية بين 'هو' و 'الهواء' وينطلق معها في سياحة فكرية وخيالية، وهذه اللفتة تذكرنا ببيت باللغة الأردية:

سياه بوش جو كعبه كو قيس نى ديكها هوا نه ضبط تو جلا اتها يا ليلى

أي أن قيسا رأى الكعبة مجللة بالستار الأسود، هيج ذلك المشهد حزنه وانطلقت من فمه صرخة وا ليلاه!! الشاهد أن الآيات في الأنفس والآفاق، وآيات التنزيل المباركة، وحتى الكلمات المفردة فيها - كل هذا وذاك يلفت عناية الأستاذ النورسي إلى حقائق الإيمان وتقف سندا وحجة ودليلا عليها وترمز إلى التوحيد.

وإن ما كتبه الأستاذ في هذا السياق يعد من الأدب الفريد بحق وجدارة، إذ أنه لم يخرج الآيتين من سياق تفسيراتهما المتفقة لدى الأمة في ضوء القواعد اللغوية والبلاغية، ولم يمس كيانهما الدلالي المميز، وهنا لا يغربن عن البال أن الأستاذ له فكرة واضحة حول لزوم جريان التفسير على مجرى كلام العرب ووفقا للاحتمالات البلاغية المستساغة وهو شديد الغيرة على اللغة العربية ولغة القرآن بصفة أخص إذ أنه صرح بذلك في قوله: "... ولما كان الأمر هكذا.. فلا بد لأهل التفسير أن لا يبخسوا حق القرآن بتأويله بما لم تشهد به البلاغة".26

إذاً فالأستاذ هنا لاحظ المناسبة الصوتية بين كلمة "هو" و "هواء" ثم إنه لم يثبت لها قيمة تعبيرية ثابتة بالمفهوم الدلالي اللغوي بل انصبت عنايته في الناحية الصوتية البحت في تلمس الإشارات الذوقية التي انعكست على مرآة قلبه، والتي ربطت بين الكلمة وبين المفاهيم الإيمانية.

وعلى الصعيد الآخر يرجع الضمير "هو" في سياق الآيتين إلى اللّٰه سبحانه، وتتكرر تلاوتهما في الذكر والدعاء بعدد يفوق الحصر، وكذلك الهواء تهب نفحاتها كل حين وآن وفي كل مكان من الأرض، وكلاهما يؤديان مهمة الإنعاش بالمعنيين المادي والروحي. وتتطلب دقة هذا المبحث غاية التيقظ والانتباه، حيث اعتبر النورسي الهواء عرشا من عروش الأمر والإرادة الإلهية، وأنه يؤدي وظائف لاتعد ولا تحصى وهو جندي مستعد مع كافة ذراته لتلقي الأوامر الإلهية في الكون، وتقوم ذراته بأداء وظائفها المتنوعة الكثيرة بإذن ربها بيسر وسهولة تماثل تلفظ كلمة "هو" وتموج الهواء فيها، يقول "...يكون الهواء صحيفة واسعة للكتابات المنسقة البديعة التي لاتحصر، لقلم القدرة الإلهية، وتكون ذراته بدايات ذلك القلم، وتصبح وظائف الذرات كذلك نقاط قلم القدر، لذا يكون الأمر سهلا كسهولة حركة ذرة واحدة".27

ويستمر النورسي في الاستنتاجات المعرفية من "هو" والهواء الصادر في تلفظه ويجد فيه برهانا ساطعا لبعض صفات اللّٰه كما يتلمس في معناه إشارة إلى صفاته الأخرى.28

استنباطاته من بسم الله الرحمن الرحيم

ومن النصوص القرآنية التي تعرض لها النورسي بمنهج الاستنتاج الذوقي هي فاتحة الفاتحة - البسملة، فقد وقف في رحابها وقفة المنبهر بجمالها الآسر، وافتتح حديثه بملحوظة أن " هذا الدرس متوجه إلى القلب أكثر منه إلى العقل، ومتطلع إلى الذوق أكثر منه إلى الدليل المنطقي".29

ولاشك أن معالجته للموضوع هنا ناشئة من منطلق روحي وذوقي، وأنها لا تساير ظلال الدلالات البديهية المباشرة، وليس من خطته ذلك، إذ أنه يريد أن يوسع من مجال دراسة هذا النص الجليل ليضعه في سياقه الكوني الذي يستحقه ويستلزمه بحكم تضمنه اسم الجلالة وصفة الرحمة التي أحاطت بالكون وتجلت آثارها في الأنفس والآفاق. وفي بيانه البديع تتضح الصلة بين الطبيعة وخالقها، وصفاته الخالدة التي أضفت انعكاساتها على ظواهر الكون وأمدتها بالحياة وأسبابها.

وقد ذكر النورسي في هذا البحث الضافي ستة أسرار للبسملة وهي بمجموعها تتلخص في تجليات الألوهية والرحمة والتوحيد ودور الرحمة الإلهية في سعادة الكائنات وإنارتها بنور الأمل وتربيتها ووفاء حاجاتها وتسخير الكائنات للإنسان وتزويد الكون بالحياة والجمال ورفع مكانة البشر إلى التأهل لتلقي خطاب رب العالمين، وأن الإنسان مظهر لتجلي اسم اللّٰه "الرحمن" كما أن الكون مظهر تجليه على النطاق الأوسع، وأن الرحمة أقوى وسيلة للوصول إلى رب العالمين، وأسطع مثال للرحمة هو من سماه القرآن رحمة للعالمين، وأن الصلاة عليه وسيلة للوصول إليه. وفي نهاية المطاف يلخص هذه الإفاضة الروحية بقوله:

"إن حاجب خزينة الرحمة الإلهية وأكرم داع إليها هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلـم، كما أن أسمى مفتاح لتلك الخزينة هو ﴿بسم اللّٰه الرحمن الرحيم﴾ وأسلس ما يفتحها هو الصلوات على الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلـم."30

إن هذا المبحث الإيماني الرائع حول أسرار البسملة بدأ ببيان صفات الربوبية والألوهية والرحمة ومدى افتقار الكون إلى تجلياتها على المستويين المادي والروحي، ووصل في جولته الختامية إلى بيان أكبر مظهر للرحمة الإلهية - سيدنا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلـم مع التذكير بالصلاة عليه. وهكذا حصل التوافق الإيماني والمنطقي في بداية هذا البحث ونهايته لاستهلاله ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم وتمامه بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلـم.

الخاتمة: خلاصة خصائصه المنهجية

لعل الأستاذ النورسي -وهو التلميذ المتفوق في المدرسة القرآنية- استوحى أولوياته المنهجية من القرآن نفسه، فحاول أن يشمل خطابه العقل بإيراد البراهين العقلية، والإحالة المتكررة إلى كتاب الكون المفتوح لتتضح المواضيع جملة وتفصيلا وتعيها العقول نظرا وتطبيقا، كما ينصب اهتمامه في إبراز نواحي الإعجاز البلاغي ودقائق الجمال البياني، إذ أن الوجدان الذي يتغذى بالفن وجمالياته- من القوى المتصرفة في الكينونة البشرية، ولم يغمطه التنزيل حقه، يقول النورسي:

"فكم في التنزيل من تنزلات إلهية إلى عقول البشر، تسيّل ينابيع العلوم في أساليب العرب تأنيسا للأذهان، والتي تعبر عن مراعاة الأفهام واحترام الحسيّات ومماشاة الأذهان."31

ويبدو للباحث من خلال دراسته لتفسيرات النورسي أن آفاق الفكر المعطاء مفتوحة أمامه مدى البصر، وقد تهيأت له كافة الأدوات الفكرية والفنية والنفسية اللازمة لتلقي الإيحاءات من النص الكريم، وذلك بناء على رسوخ قدمه في علوم اللغة العربية، ونبوغه في العلوم العقلية من الفلسفة والمنطق، وثقافته الواسعة في المعارف الحديثة، ووعيه بموقفه من ظروف الزمان والمكان، وثقافته الأدبية العميقة ونظرته النقدية الثاقبة، وصفاء الطبيعة ورهافة الذوق، وشغفه الزايد بالقرآن، وتصوره الواضح لمكانة القرآن الأساسية والجوهرية في نظرته المعرفية، ومحورية دوره في تربية الإيمان وتنميته وبقائه.

وصلى اللّٰه على نبينا وحبيبنا محمد وآله وسلم.

* * *

الهوامش:

1 أستاذ مشارك بقسم اللغة العربية، كلية اللغات الجامعة الملية الإسلامية، نيو دلهي، الهند.
2 بديع الزمان سعيد النورسي: سيرة ذاتية، إعداد وترجمة إحسان قاسم الصالحي، إسطنبول: دار سوزلر للنشر ط/ 1 1998 ص 10.
3 دكتور محمد إقبال: كليات إقبال (مجموعة دواوينه باللغة الأردية) دلهي، مركزي مكتبه إسلامي ط/3 1994م ص 303.
4 بديع الزمان سعيد النورسي: سيرة ذاتية ص 162.
5 راجع: الخطابي (والرماني والجرجاني) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق وتعليق محمد خلف اللّٰه ومحمد زغلول سلام، مصر، دار المعارف، سلسلة ذخائر العرب 16 _ بدون تاريخ_ ص 15- 24.
6 أحمد مطلوب: البلاغة عند السكاكي، بغداد، مكتبة النهضة ط/ 1 1384هـ ص 221.
7 انظر أحمد مطلوب: دراسات بلاغية ونقدية، بغداد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الحرية للطباعة ط 1400هـ ص 22.
وانظر كذلك د. عبد الماجد القاضي: الخصائص الفنية والفكرية في الأدب القرآني، دلهي غود ورد بوكس (مكتبة الكلمة الطيبة) ط/1 2005م ص 19 وما بعدها.
8 السيوطي جلال الدين: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، مصر. مطبعة دار الوطن ط 1299هـ ج/ 1 ص 190
9 انظر عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، تصحيح محمد عبده ومحمد محمود التركزي، تعليق محمد رشيد رضا ( بيانات الطبع غير مدونة) ص 403-404
10 بديع الزمان سعيد النورسي: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، إسطنبول دارسوزلر للنشر ط/3 1999م ص 23
11 بديع الزمان سعيد النورسي: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، إسطنبول دار سوزلر للنشر ط/3 1999م ص 23
12 انظر المصدر السابق ص 24
13 بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، الخطبة الشامية، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، إسطنبول، دار سوزلر للنشرٍ ط/1 1995م ص 495
14 انظر بديع الزمان سعيد النورسي: إشارات الإعجاز، ص 118- 125
15 انظر بديع الزمان سعيد النورسي: الشعاعات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، إسطنبول، دارسوزلر للنشر ط/1 1993م: الشعاع السابع ص 177
16 انظر المصدر السابق، الشعاع السابع ص 179
17 بديع الزمان سعيد النورسي: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز ص 39
18 انظر بديع الزمان سعيد النورسي: الشعاعات، الشعاع الحادي عشر ص 306
19 انظر بديع الزمان سعيد النورسي: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز ص 39-40
20 انظر بديع الزمان سعيد النورسي: الشعاعات، الشعاع الحادي عشر ص 307-314
21 انظر بديع الزمان سعيد النورسي: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز ص 39-40
22 انظر الشعاعات، الشعاع السابع ص 199
23 الشعاعات، الشعاع السابع ص 143
24 انظر بديع الزمان سعيد النورسي: الشعاعات، الشعاع التاسع ص 226- 239
25 بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، محاكمات عقلية، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، إسطنبول، دار سوزلر للنشرٍ ط/1 1995م ص 102
26 بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، محاكمات عقلية: ص 85
27 بديع الزمان سعيد النورسي: مرشد الشباب للنجاة في يوم الحساب، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، القاهرة، الناشر: شركة سوزلر للنشر، مطبعة المدني، شارع العباسية بالقاهرة ط/3 (بدون تاريخ)
28 المصدر السابق ص 112
29 المصدر السابق ص 192
30 بديع الزمان سعيد النورسي: مرشد الشباب للنجاة في يوم الحساب ص 209
31 بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، محاكمات عقلية ص 85


 

أرشيف ملف العدد

11 - وقفات مع بعض عناصر القوة المعنوية
. التزكية وتدبير الخلاف وأثرهما في وحدة الأمة عند سعيد النورسي
. العناصر الفكرية والفنية والنفسية في منهج الأستاذ النورسي في التفسير
. العمل الإيجابي ومنزلته في دعوة النور
. مقومات المجتمع الإنساني الآمن من منظور رسائل النور
. إحياء الأخلاق في الممارسة السلوكية عند النورسي
. مناهج التبليغ عند ورثة النبوة من منظور رسائل النور
10 - عنوان الملف: الأخلاق والوراثة
. المجاهدة والتوريث عند النورسي
. أواصر العناصر الكونية من منظور الأستاذ النورسي
. قاعـدة "الفنـاء في الإخـوان" في فكر بديـع الزمـان
9 - المقاصد في رسائل النور
. أساسيات منهج الفكر المقاصدي عند النورسي
. المقاصد القرآنية في فكر النورسي
. مقاصد القرآن من خلال رسائل النور
8 - أسرار العبرة والتعبير في رسائل النور
. منهج النورسى في شرح أسماء الله الحسنى
. نحو رؤية جديدة للدلالة النفسية لأسلوب التكرار في القرآن الكريم
. التاريخ عند بديع الزمان سعيد النورسي دراسة في التمثل والتفسير
. قواعد في تفسير القرآن عند النورسي من خلال إشارات الإعجاز
7 - النورسي والتصوف
. النورسى ورؤيته للتصوف المعاصر
. نظرات في الأدب الصوفي عند النورسي
. بديع الزمان سعيد النورسي والتصوف
. أهمية روحانية النورسي المتبصرة في عالم مادي متأزم
6 - دعوة رسائل النور
. دعوة رسائل النور: هل هي حركة؟ أم جمعية؟ أو جماعة؟
. المنهج العوفي وإعلاء كلمة الله عند بديع الزمان
. التبليغ والارشاد في رسائل النور
. العمل الإيجابي القاعدة الثابتة لعمر مديد
. المرأة الإصلاحية في فكر الشيخ النورسي
5 - الرؤية الحضارية في رسائل النور
. من الأسس الفكرية والحضارية في رسائل النور
. البعد العقدي لبنية الإنسان في فكر النورسي
. منهجيّة الاهتمام بعبادة التّعمير، سؤال استعادة الأمة وظيفة الشهادة عند الأستاذ النورسي
. الرؤية الحضارية من خلال رسالة الاقتصاد
. قراءة تحليلية في النظرة النورية إلى المسألة الغربية
4 - أسس التربية في رسائل النور
. تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي
. المقاصد العملية للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
. منهج التربية عند النورسي
. من ملامح التربية السلوكية عند النورسي
. الحكمة وفصل الخطاب في منهج التربية عند النورسي
3 - أسس التربية في رسائل النور
. القرآن العظيم مصدراً للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
. التربية السلوكية عند النورسي
. الأبعاد التربوية لدرس العقيدة عند النورسي
. التجرد ونبذ الأنانية عند النورسي
. بديع الزمان سعيد النورسي ومشروعه الإصلاحي في التربية والتعليم
2 - التعليم في رسائل النور
. كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان
. الخلفية البراديغمائية لأزمة البيئة والتوجه العلمي الكوني عند النورسي
. موقع نظرية العلم في عملية الاستخلاف والتحضر عند النورسي
. التعليم طريقا للتحضر، قراءة في رسائل النور
1 - المنهجية في رسائل النور
. منهج النورسي في إحصاء أسماء الله الحسنى
. عالم الغيب في المنظور النورسي
. منهج النورسي في التعامل مع الأسماء الإلهية الحسنى
. مقاصد الحياة وغاياتها في فكر سعيد النورسي من خلال رسائل النور
. المنهج الواقعي في دراسة قضايا الإيمان رسائل النُّورْسي أنموذجا

النور للدراسات الحضارية والفكرية
 المركز الرئيسي:  

Kalendarhane Mah. Delikanli Sk. No: 6
Vefa 34134 Fatih - Istanbul / TURKIYE
 Phone: +90 212 527 81 81 - Fax: +90 212 527 80 80