مقومات المجتمع الإنساني الآمن من منظور رسائل النور

مقومات المجتمع الإنساني الآمن

من منظور رسائل النور

 

ABSTRACT

The Dynamics of a Safe Community from the Risale-i Nur Perspective

Dr. Mahdiye Amnuh

The safety/security factor signifies tranquility and peace and is an important measurement for civilizations, as safety and peace are the facilitating factors in a precise and regulated government, and the necessities for a livable world. Rules to ensure prosperity rely on the safety principle. In this respect, safety and peace have become the basis of equal and developed societies. In today's world, humanity is slowly straying from providing people safe lives within safe communities.

There is an intensive focus on safety in the Risale-i Nur. These works establish a foundation for communal safety by focusing on transforming people not into cynical and destructive beings, but into beings that are meant to prosper. In this context, the Risale-i Nur touches on many topics to ensure safety and peace in the Muslim community by advising "They are rather in need of having their working conditions set in order, of security being established among them, and of having the principle of cooperation encouraged. And these needs can be brought about through the sacred commands of religion, and fear of God, and firm adherence to religion." In that case, safety and peace that comes from working conditions set in order, security being established, and having the principle of cooperation encouraged, is the same safety and peace that the whole of humanity desires. A safe community is a believing community - and this sense of safety only comes from the actualization of Quranic ethics, and the reading and analysis of the holy text in accordance with the universe.

* * *

 ملخص البحث 

د. مهدية أمنوح1

إن العامل الأمني الذي يعني الطمأنينة هو الذي يحدد مقياس الحضارات، إذ هو إحدى القواعد الأساسية التي يستقيم بها أمر الدول وتصلح به الدنيا، وهو قاعدة مهمة من قواعد انتظام العمران، فيكون بذلك عماد المجتمع الإنساني السوي والمتقدم. لذلك يتم تحذير البشرية من الشرود عن المقومات الكفيلة بمنح الإنسان حياة آمنة متجلية في المجتمع الآمن.

وقد ركزت رسائل النور على مفهوم الأمن، بل كانت عاملا من عوامله فهي قد هيأت الأمن الاجتماعي للبشرية من خلال تركيزها على ما يجعل الإنسان كائنا صالحا ومعمرا في الأرض بدل أن يكون فاسدا مخربا، ونجد في الرسائل الأستاذ يطرح أفكارا لضمان استتباب الأمن في المجتمع الإسلامي؛ حيث يركز على أن تنظيم مساعي الإنسان وبث الثقة وتسهيل وسائل التعاون فيما بين الفرد وأخيه باتباع الأوامر المقدسة في الدين والثبات عليها، مع التزام التقوى من اللّٰه وابتغاء مرضاته لهو كاف لتحقيق نتائج طيبة. حيث إن الأمن الذي يأتي من المساعي المنظمة والثقة المبثوثة في النفوس والتعاون المستتب بين الأفراد هو نفسه الذي يطلبه سائر البشر. فالمجتمع الآمن هو المجتمع المؤمن، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا بتفعيل الأخلاق القرآنية وقراءتها وتحليلها على ضوء ما جاء في القرآن الكريم من أدلة منهجية ربانية منفتحة على حقيقة الحياة من خلال اليقينيات الكونية كما يشرحها القرآن الكريم.

* * *

إن ما كان مشكلا اجتماعيا في الماضي، أصبح في عصرنا الحاضر إشكالات اجتماعية معقدة يَعْسُر حلها بل يصعب فهمها في كثير من الأحيان. وقد صدَّق واقع العالم هذه الآفة عندما كثر فيه الصراع والعنف واستأسدت قُوى الظلم بحقوق المظلومين فلم تترك لهم مكانا ولا صوتا. كما عمق العالم هذه المعضلة الاجتماعية عندما استُبعِدَت المبادئ الأخلاقية من حياة شعوب كثيرة وحُكم عليها بالنسبية. فبقيت فلسفة الفلاسفة ونصائح علماء الأخلاق والاجتماع، مجرد أحاديث تكتب وتروى وتناقش أو تقرظ، وبقي الناس كما هم لا يتقيدون منها بأي قيد، ولا يستجيبون إلا لحكم أهوائهم وما تمليه غوائل تلك الصفات والملكات التي يتمتعون بها.2

وأمام هذا الوضع الذي كاد يعم العالم بأسره والعالم الغربي بشكل خاص، ظهرت بعض الأقلام وتعالت أصوات بعض العقلاء محذرة من نتائج شرود البشرية عن المقومات الكفيلة بمنح الإنسان حياة سليمة وآمنة ومن مغبة التمادي في إهمال العناية بشروط تقدم الإنسانية الحقيقي المتجلي في المجتمع الآمن.

فرغم ما أثاره الباحثون والمختصون في مسألة التحضر والتقدم من أسئلة وما ترتب عن ذلك من سِجَالات علمية وإيديولوجية فإن الرأي الراجح في تحديد مقياس الحضارات هو العامل الأمني وبذلك يكون عماد المجتمع الإنساني السَّوِيِّ والمتقدم هو الأمن.

والأمن في اللغة العربية وآيات القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية الشريفة يعني: الطمأنينة -المقابلة للخوف والفزع والروع- في عالم الفرد والجامعة... وفي الحواضر ومواطن العمران... وفي السبل والطرق... وفي العلاقات والمعاملات... وفي الدنيا والآخرة جميعا. ولقد أولى علماء المسلمين الأوائل اهتمامات3 كبيرة بهذا الموضوع وبوَّؤُوه موقعا مهما في دراساتهم، وذلك كما فعل أبو الحسن الماوردي في كتابه "أدب الدنيا والدين" حين أشار إلى قاعدة مهمة من قواعد انتظام العمران قائلا:

"أما القاعدة الرابعة فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس، وتنتشر به الهمم، ويسكن فيه البريء، ويأنس به الضعيف، فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة، وقد قال بعض الحكماء: 'الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش، لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أَوَدِهم، وانتظام جملتهم'..."4

ويرجع الأمر في أصله إلى قاعدة أخرى وهي العدل، فالأمن من شروط العدل. إذا لا يتصور أمن في غياب العدل كما لا ينتظر عدل حيث لا يرجى أمن.

ولعل الماوردي في تصنيفه للقواعد الأساسية التي يستقيم بها أمر الدول وتصلح به الدنيا، قد أثر في دراسات غيره من الخلف الذين اهتموا بالعمران البشري وأسباب ازدهاره وأفوله مثل ابن خلدون الذي ذهب في تفسير مسألة الأمن تفسيرا اجتماعيا وحضاريا.

وفي العصر الحديث، ظهرت رسائل النور لمؤلفها الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي التي هي تفسير قيم وحقيقي للقرآن الكريم وبيان وإثبات للحقائق الإيمانية القرآنية إثباتا مدعما بالحجج الرصينة والبراهين الواضحة5 تسير بخُطى ثابتة نحو إعادة النظر في قضايا الإنسانية الشائكة والمستجدة في ظل القرآن الكريم وبنور توجيهه.

لقد بين بديع الزمان قيما إيجابية عديدة لهذه الرسائل لكونها:

"حلت أكثر من مائة مسألة من أسرار الدين والشريعة والقرآن وأوضحتها وكشفتها، وألجمت أعتى المعاندين الملحدين وأفحمتهم، وأثبتت بوضوح كوضوح الشمس ما كان يظن بعيدا عن العقل من حقائق القرآن كحقائق المعراج النبوي، والحشر الجسماني، أثبتتها لأشد المعاندين والمتمردين من الفلاسفة والزنادقة حتى أدخلت بعضهم إلى حظيرة الإيمان".6

"فرسائل النور هذا شأنها لابد أن العالم وما حوله، بأجمعه سيكون ذا علاقة بها، ولا جرم أنها حقيقة قرآنية تشغل هذا العصر والمستقبل، وتأخذ جل اهتمامه، وأنها سيف ألماسي بتار في قبضة أهل الإيمان".7

وإذا كان الأمر كذلك، فلابد أن ما في الرسائل قد هيأ للإنسان بل للبشرية جمعاء ما هي في أمس الحاجة إليه ألا وهو الأمن الاجتماعي.

فما هو السبيل الذي نهجته هذه الرسائل لتمكين الإنسان من المنهج الصحيح والصائب لإحياء ذاته روحيا وماديا كي يحقق منها ذاتا مكرمة كما شاء لها الحق أن تكون ويهيئ من عددها الكثير مجموعا بشريا نافعا ومعمرا في الأرض؟

للإجابة على هذا السؤال المركب نقف على شاهد من رسائل النور يبرز لنا المقومات التي اشترطها بديع الزمان سعيد النورسي لضمان استتباب الأمن في المجتمع الإسلامي. يقول فيه:

"ليس المسلمون بحاجة إلى ترغيبهم وحثهم على حب الدنيا والحرص عليها. فلا يحصل الرقي والتقدم ولا ينشر الأمن والنظام في ربوع البلاد بهذا الأسلوب بل هم بحاجة إلى:

- تنظيم مساعيهم

- وبث الثقة فيما بينهم

- وتسهيل وسائل التعاون فيما بينهم.

ولا تتم هذه الأمور إلا باتباع الأوامر المقدسة في الدين والثبات عليها، مع التزام التقوى من اللّٰه وابتغاء مرضاته".8

إن الأمن الذي يطلبه المسلمون -وينتظره سائر البشر معهم لا محالة- هو الأمن الذي يأتي من المساعي المنظمة والثقة المبثوثة في النفوس والتعاون المستتب بين الأفراد. وهذه الشروط هي بمثابة مقومات أساس تجتمع حول مقوم محوري هو الدين وذلك بالتزام التقوى وابتغاء مرضاة اللّٰه.

إن التوجيه النوري في هذا المقام يعطينا فكرة تقريبية عن ركائز الأمن المؤسس لأنموذج إنساني متميز يمكن إجماله في عناصر ثلاثة نتصورها كالآتي:

- ارتباط المسؤولية بالرغبة الصادقة لتحقيق الأمن

- اعتبار المجتمع المؤمن هو المجتمع الآمن.

- تفعيل الأخلاق القرآنية مرآة المجتمع الآمن.

ارتباط المسؤولية بالرغبة الصادقة لتحقيق الأمن

جاءت رسائل النور مهتمة بالإنسان وملقنة إياه كيفية التفكير من خلال منهج جديد تعطى فيه الأولوية للواجبات.

إذ أن "أمام الإنسان -ولا سيما المسلم- مسألة مهمة وحادثة خطيرة هي أعظم من الصراع الدائر بين الدول الكبرى لأجل السيطرة على الكرة الأرضية".9

إنها قضية الحرص على أداء الواجب الضروري الذي يفتح للناس أفق الفوز بشهادة الإيمان.

وعلى لسان بديع الزمان ينطق طلبة النور "نحن معاشر طلبة النور نعلم يقينا: أن ترك خدمات عظيمة تكسب لنا تلك القضية وإهمال مهمات وكيلها الذي يصونها لتسعين بالمائة، والانشغال عنها بما لا يعني من أمور خارجية واهتمامات تافهة كأن الدنيا خالدة ما هو إلا من سخافة العقل وجنونه."10

ويزداد الشعور بالمسؤولية ثباتا بتأكيدهم أنهم "على يقين تام واطمئنان كامل من هذا"11 ويصل الإخلاص للقضية إلى حد أنه "لو ملك أحد عقلا وإدراكا للأمور أضعاف ما يملكه الآن لبذله كله فيما يلزم تلك القضية وفي سبيلها".12

إن انطلاق مبدع رسائل النور في عالم الناس مصلحا ومغيرا تميز عن غيره ممن أصلحوا ودعوا إلى التغيير بثقته التي تفوق التصور.

فمما لا شك فيه أن الإيمان بالقضية، ونذر النفوس في سبيل الدفاع عنها هو بمثابة مولد طاقة نفسية عجيبة تتجلى مظاهره في شخصية صاحب القضية الذي يعرف منطلقاته جيدا كما يجيد تلمُّس طريقه نحو أهدافه بوضوح دون أن يترك فراغا يتسرب منه شك أو خوف أو قلق. فيستقبل الزمان بتفاؤل وأمل كبيرين حين يقول:

"نحن لا نهاب هذا الموت الذي ينتج حياة أشد وأقوى وأبقى. فحتى لو متنا نحن فسيبقى الإسلام حيا سالما"13 سيما وأن الإسلام في منطق رسائل النور "هو الروح الإنسانية الكبرى"14 الذي ينبغي على كل من أراد أمنا وسلاما وصلاحا أن يجعله قضيته المصيرية ويفوز في ظلالها بشهادة الإيمان ويحترز من التفريط في صيانتها فمن "لم يرعها حق رعايتها فسوف يضيع حتما تلك القضية ويخسرها".15

وهكذا حرصت الرسائل النورية على زرع روح الرغبة الهادفة والإرادة المسؤولة لتحقيق الأمن الاجتماعي، معتمدة التذكير بالملاحم البطولية في تاريخ المسلمين وجاعلة من أسماء القواد المنتصرين دوافع حقيقية لتنمية وترقية حس المسؤولية لدى المعنيين الأول بهذه الرسائل. ويتجلى الأمر ذاته حين يخاطبهم صاحب الرسائل النورية خطابا يحثهم فيه على إعلاء هممهم لبلوغ أهدافهم باستحقاق قائلا:

"على كل واحد منكم أن يكون مرآة عاكسة للإسلام... ومثالا مشخصا للأمة الإسلامية، إذ الهمة تتعالى بعلو المقصد، والأخلاق تتسامى بغليان الحمية الإسلامية".16

وهكذا تتوالى بينات رسائل النور في تعميق الوعي عند المخاطب بضرورة الحضور الفاعل والمؤثر لتحريك واقع المسلمين الساكن فهو شرط أساس لضمان الأمن الاجتماعي المنتظر.

اعتبار المجتمع الآمن هو المجتمع المؤمن:

إنها حقيقة قرآنية أكدها الحق سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾.النور:55

وفي قوله سبحانه كذلك: ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾،الأعراف:35 وفي قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى﴾الكهف:88 أنزل الحق تعالى هذه الآيات ليُطمئن بها قلوب المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويبشرهم بتحقيق أمنهم في الحياة وبعد الممات أيضا.

من الواضح أن العلاقات في مجتمع الإيمان تستدعي الحب والسلام والتعاون والتكافل والوحدة، وكل القيم الأخرى التي تؤدي إلى تحقيق مصالح الفرد والمجتمع، وبالتالي تحقيق أمن الفرد والمجتمع على أكمل وجه.17 وفي هذا السياق يأتي الأستاذ سعيد النورسي ببراهين خاصة كي يؤكد حاجة الأمن إلى الإيمان مشيرا إلى أن البشرية التي أخذت تصحو وتتيقظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة أدركت كنه الإنسانية وماهيتها وتيقنت أنه لا يمكنها أنه تعيش هملا بغير دين، بل حتى أشد الناس إلحادا وتنكرا للدين مضطر إلى أن يلجأ إلى الدين في آخر المطاف.18 لأن: " 'نقطة استناد' البشر عند مهاجمة المصائب والأعداء من الداخل والخارج مع عجزه وقلة حيلته، وكذا 'نقطة استمداده' لآماله غير المحدودة الممتدة إلى الأبد مع فقره وفاقته، ليس إلا 'معرفة الصانع' والإيمان به والتصديق بالآخرة، فلا سبيل للبشرية المتيقظة إلى الخلاص من غفوتها سوى الإقرار بكل ذلك".19

إن الايمان بالغيب وبالقدر خاصة يمنح "خفة بلا نهاية وراحة بلا غاية وسرورا ونورا يحقق الأمن والأمان".20

إن مثل الذي يؤمن بالقدر كمثل من يحمل ثقلا بقدر الدنيا "لأن الإنسان له علاقات مع الكائنات قاطبة وله مقاصد ومطالب لا تنتهيان، إلا أن قدرته وإرادته وحريته لا تكفي... ومن يفهم مدى ما يُقاسيه الإنسان من ثقل معنوي في عدم الإيمان بالقدر وكم هو مخيف وموحش".21

يحرص الأستاذ سعيد النورسي، وهو يرسم بريشة المبدع صورة من يخرج عن القاعدة الأصلية والفطرية ويحجب رؤية الحقائق الإيمانية عن قلبه وعقله، على أن يثبت بالدليل النقلي والعقلي أن الشر والقبح والباطل والسيئات جزئي وتَبَعِيّ وثانوي في خلقه الكون22 وأن الأصل في الإنسان هو اعتباره أشرف المخلوقات وأكرمها، كما أن الخير والحسن والجمال والإتقان والكمال هو السائد المطلق في نظام الكون وهو المقصود لذاته، أي هو المقاصد الحقيقية للصانع الجليل.23

إنه بذلك يفتح أفقا مشرقا مفعما بالأمل في تحقيق الأمن الاجتماعي من خلال معبر الإيمان في نفوس أفراد المجتمع بتنوع أعمارهم وأوضاعهم. فالأطفال "الذين يمثلون ربع البشرية لا يمكنهم أن يعيشوا عيشة إنسان سوي ينطوي على نوازع إنسانية إلا بالإيمان بالآخرة".24

وكذا غيرهم من الفئات العمرية الأخرى كالشيوخ "الذين يمثلون ربع البشرية، فإنهم لا يرون السلوان حيال انطفاء حياتهم ودخولهم تحت التراب... إلا بالإيمان بالآخرة... إذ لولا هذا الإيمان لبقوا في حالة نفسية تعسة جدا..."25

وكذلك المرضى والمظلومون والفقراء والمساجين... فلولا نور الإيمان الذي يمدهم بالعزاء والسلوان لما زال عنهم القلق والاضطراب وصورة التأثر جزئيا أو كليا.26

فكما تلتمس آثار الأمن في نفس الفرد المؤمن نجدها بارزة في الوسط الأسري باعتباره دائرة تتسع لعلاقات القربى والرأفة والمحبة التي لا تقاس عندئذ ضمن زمن قصير جدا، بل تقاس على وفق علاقات تمتد إلى خلودهم وبقائهم في دار الآخرة والسعادة الأبدية. ومن ثم "تبدأ السعادة الإنسانية الحقة بالتألق في ذلك البيت"27 والعكس صحيح إن لم يكن "الإيمان بالآخرة" حاكما ومهيمنا في بيوت الناس.

بعد هذا يضيف الأستاذ سعيد النورسي دائرة أخرى أوسع من الثانية وهي دائرة المدينة، وما هي في حد ذاتها سوى بيت واسع لسكنتها. فإن لم يكن الإيمان بالآخرة ثابتا فيها، "كانت معاني الإرهاب والفوضى والوحشية حاكمة ومسيطرة تحت اسم النظام والأمن والإنسانية التي يظهرونها وحينئذ تتسمم حياة تلك المدينة"28 وتنخرم فيها صفات المجتمع الآمن.

بعد استقراء أحداث كثيرة واستنباط أفكار متعددة يؤكد الأستاذ سعيد النورسي أن المجتمع الآمن هو المجتمع المؤمن، وأن المجتمع المؤمن هو المجتمع المسلم. ويخلص إلى أن "المسلمين خدام القرآن" يتبعون البرهان ويقبلون بعقولهم وفكرهم حقائق الإيمان وهم ليسوا كمن ترك التقليد بالبرهان تقليدا للرهبان كما هو دأب أتباع سائر الأديان.29 وهو في ذلك يستبشر أن المستقبل الذي "لا حكم فيه إلا للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامه إلى العقل والمنطق والبرهان".30

وبالتالي فالإسلام هو المؤهل الوحيد للسيادة مستقبلا لأن الحقيقة الإسلامية هي الكفيلة بإسعاد البشرية بما تقدمه من منظومات تصورية وأخلاقية نافعة وبانية شرط أن تُفعّل في الواقع، وهو ما سنبين ملامحه في المقوم التالي.

تفعيل الأخلاق القرآنية مرآة للمجتمع الآمن

سبقت الإشارة إلى أن رسائل النور هي عبارة عن إعادة دراسة تاريخ الإنسانية وواقعها على ضوء ما جاء في القرآن الكريم من أدلة منهجية ربانية منفتحة على حقيقة الحياة من خلال اليقينيات الكونية كما يشرحها القرآن الكريم فتآلفت الرسائل حول نقطة محورية هي توضيح الحقائق الدينية والإيمانية المتعلقة بالإيمان باللّٰه وبرسوله وباليوم الآخر.

إذ تهدف من وراء ذلك إلى رسم صورة معالم التربية الأخلاقية في الإسلام بإثارة البحث في المسألة الأخلاقية من زاوية علاقتها بالخالق وعلاقتها بالخلق وعلاقتها بالكون والطبيعة وعلاقتها بالنفس... كي تؤسس رؤية أصيلة مفادها أن الأصل الأخلاقي في الثقافة الإسلامية هو أصل ديني. فلا أخلاق بدون دين، كما لا دين بدون أخلاق. والإخلال بالدستور الأخلاقي الإسلامي سرعان ما يؤدي إلى اختلال توازن المجتمع.

لقد أدرك الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي العلل والأسباب الثاوية وراء اختلالات من هذا النوع وسلط منظاره الفاحص على المفاسد الاجتماعية في عصره فوجدها مختزلة فيما سماه بالأعداء الثلاثة:

الخلاف والجهل والفقر.

- إن المقصود بالخلاف هو الاختلاف السلبي حين يحاول كل واحد تخريب مسلك الآخرين وهدمه، ومبعثه الحقد والضغينة والعداوة. وهو مردود شرعا حيث المتنازعون والمختلفون يعجزون عن القيام بأي عمل إيجابي بناء. وكأننا بهم وهم ينحازون جانبا سائرين وفق أغراضهم الشخصية يمهدون السبيل لفتح الأبواب أمام أولئك الأعداء ليدخلوا حرم الإسلام الآمن.

وتحسبا لهذا الأمر الخطير الذي ألم بالأمة الإسلامية يوصي الأستاذ سعيد النورسي بتفعيل القيم الأخلاقية في هذا الباب قائلا: "عودوا إلى رشدكم وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾الحجرات:10 وحصنوا أنفسكم بها من أيدي أولئك الظلمة الذين يستغلون خلافاتكم الداخلية... فإن كنتم حقا مرتبطين بملة الإسلام فاشهدوا بالدستور النبوي العظيم: 'المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا'31 "32

- أما الفقر أو البؤس حسب ما يسميه أحيانا فإنه الوجه المظلم للاختلال الذي يصيب البنية الاقتصادية من جراء الاستغلال السيء للثروات وهو ما يصيب البنية الاجتماعية بتفكك ويزيد من ظاهرة التخلف حيث يقل الأمن أو يكاد ينعدم. وقد أجاب الأستاذ سعيد النورسي عندما سُئِلَ عن هذا الإشكال المادي بأن "هناك كلمتين هما منشأ جميع ما آلت إليه البشرية في حياتهم الاجتماعية من ترد في الأخلاق وانحطاط في القيم...

الكلمة الأولى: إن شبعت فلا عليّ أن يموت غيري من الجوع.

الكلمة الثانية: اكتسب أنت لِآكُل أنا واتعب أنت لأستريح أنا.

وإن الذي يديم هاتين الكلمتين ويغذيهما هو: جريان الربا، وعدم أداء الزكاة".33

وعليه فالحل الناجع يكمن في تفعيل قيم التكافل الاجتماعي في الإسلام:

بإعانة المحتاج والكف عن استغلال المعسر وإثقال كاهله بغير وجه حق. وذلك بتطبيق الزكاة في المجتمع وفرضها فرضا عاما، وتحريم الربا تحريما كليا.

وبهذين الفعلين يتوطد الركن الأصيل في بناء سعادة البشرية وأمانها.

- أما ثالثة الآفات الاجتماعية فهي الجهل. والجهل درجات ومراتب وأنواع ودركها الأسفل ما تعلق بجهل الدين وحقيقته وما نتج عنه من مخالفة الشريعة.

والذي أثار بديع الزمان سعيد النورسي في عصره هو إهمال المعرفة الدينية وخاصة في صفوف الشباب مما حدا به إلى تأسيس مدرسة النور المنتشرة في بقاع الأرض الواسعة، فكتابة الرسائل واستقطاب التلاميذ بأعداد كبيرة كان إسهاما إصلاحيا متميزا في حياة الأتراك وحياة الإنسانية عامة.

ولعل المطلع على الرسائل في تفاصيلها يدرك جيدا الأهداف العملية التي توخاها الأستاذ سعيد النورسي من مكافحة الجهل. فقد كان يرمي إلى إصلاح البنية التعليمية الدينية شكلا ومضمونا فدعا إلى:

- توحيد المدارس الدينية وإصلاحها

- انقاد الإسلام من الأساطير والإسرائيليات والتعصب الممقوت.

- فتح طريق لجريان العلوم الكونية الحديثة إلى المدارس الدينية، بفتح نبع صاف لتلك العلوم بحيث لا ينفر منها أهل تلك المدارس.34

إلى غير ذلك من الطموحات التي أصبحت واقعا متحققا بفضل المنهج العملي للتربية النورية الذي حرص صاحبه على تطبيق معالم التربية الإسلامية الأصيلة باعتماد الأخلاق القرآنية سلوكا ونظرا.

وبعد،

فمما لا شك فيه أن الغاية الأساسية من رصد مقومات المجتمع الآمن في رسائل النور هي تقريب الحِكَم القرآنية الجليلة في إصلاح أحوال المجتمعات إلى الأذهان، والإسهام في توجيه الأنظار نحو الأساليب العملية الكفيلة بنقل الحقائق الإسلامية -فيما يخص بناء المجتمعات وتعهدها- إلى واقع التجربة التطبيقية وإبراز أبعادها الحضارية الفاعلة.

وبذلك نكون قد قدمنا باختصار شديد ما أهدته رسائل النور للإنسانية الباحثة عن سُبل السلام وأسس الأمن والأمان.

المصادر والمراجع:

- القرآن الكريم
- كليات رسائل النور:
     - الكلمات، ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، الطبعة الثالثة، سوزلر للنشر2000
     - المكتوبات، ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، الطبعة الثالثة، سوزلر للنشر، مصر 2001
     - اللمعات، ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، الطبعة الثالثة، سوزلر للنشر، مصر 2001
     - الشعاعات، ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، الطبعة الثالثة، سوزلر للنشر، مصر 2003
     - الملاحق، ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، الطبعة الثالثة، سوزلر للنشر، مصر 2002
     - صيقل الإسلام، ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، الطبعة الثالثة، سوزلر للنشر، 2002
- أبو الحسن الماوردي، أدب الدنيا والدين، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، لبنان، 1407هـ - 1987م
- عبد الوهاب محمود المصري، مدخل إلى نظرية الأمن والإيمان في سعادة الإنسان وتقدم المجتمعات، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة، بيروت 1413هـ - 1993م
- محمد سعيد رمضان البوطي، الإسلام ملاذ كل المجتمعات الإنسانية، الطبعة الأولى، دار الفكر، دمشق، 1404هـ - 1984م
- محمد عمارة، الإسلام والأمن الاجتماعي، الطبعة الأولى، دار الشرق، القاهرة 1418هـ - 1998م

* * *

الهوامش:

1 جامعة عبد المالك السعدي، تطوان- المملكة المغربية.
2 محمد سعيد رمضان البوطي، الإسلام ملاذ كل المجتمعات الإنسانية، ص:32
3 محمد عمارة، الإسلام والأمن الاجتماعي، ص:11
4 الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص:119-120
5 بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، ص:562
6 بديع الزمان سعيد النورسي، الملاحق، ص:248
7 نفسه
8 بديع الزمان سعيد النورسي، اللمعات، ص:188
9 بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، ص:253
10 نفسه، ص: 253
11 نفسه
12 نفسه
13 بديع الزمان سعيد النورسي، صيقل الإسلام، ص:398
14 بديع الزمان سعيد النورسي، المكتوبات، ص:339
15 بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، ص:253
16 بديع الزمان سعيد النورسي، صيقل الإسلام، ص:464
17 عبد الواحد محمود المصري، مدخل إلى نظرية الأمن والإيمان في سعادة الإنسان وتقدم المجتمعات، ص:186 (بتصرف)
18 بديع الزمان سعيد النورسي، صيقل الإسلام، ص:494
19 نفسه
20 بديع الزمان سعيد النورسي، الكلمات، ص:552
21 نفسه
22 بديع الزمان سعيد النورسي، صيقل الإسلام، ص: 502
23 نفسه
24 بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، ص: 280
25 نفسه
26 بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، ص: 281 (بتصرف)
27 بديع الزمان سعيد النورسي، الشعاعات، ص: 382
28 نفسه
29 بديع الزمان سعيد النورسي، صيقل الإسلام، ص: 495
30 نفسه
31 حديث أخرجه البخاري في صحيحه، أرقامه481 و3446، و6027
32 بديع الزمان سعيد النورسي، المكتوبات، ص: 350
33 بديع الزمان سعيد النورسي، المكتوبات، ص: 355
34 بديع الزمان سعيد النورسي، صيقل الإسلام، ص: 430


 

أرشيف ملف العدد

11 - وقفات مع بعض عناصر القوة المعنوية
. التزكية وتدبير الخلاف وأثرهما في وحدة الأمة عند سعيد النورسي
. العناصر الفكرية والفنية والنفسية في منهج الأستاذ النورسي في التفسير
. العمل الإيجابي ومنزلته في دعوة النور
. مقومات المجتمع الإنساني الآمن من منظور رسائل النور
. إحياء الأخلاق في الممارسة السلوكية عند النورسي
. مناهج التبليغ عند ورثة النبوة من منظور رسائل النور
10 - عنوان الملف: الأخلاق والوراثة
. المجاهدة والتوريث عند النورسي
. أواصر العناصر الكونية من منظور الأستاذ النورسي
. قاعـدة "الفنـاء في الإخـوان" في فكر بديـع الزمـان
9 - المقاصد في رسائل النور
. أساسيات منهج الفكر المقاصدي عند النورسي
. المقاصد القرآنية في فكر النورسي
. مقاصد القرآن من خلال رسائل النور
8 - أسرار العبرة والتعبير في رسائل النور
. منهج النورسى في شرح أسماء الله الحسنى
. نحو رؤية جديدة للدلالة النفسية لأسلوب التكرار في القرآن الكريم
. التاريخ عند بديع الزمان سعيد النورسي دراسة في التمثل والتفسير
. قواعد في تفسير القرآن عند النورسي من خلال إشارات الإعجاز
7 - النورسي والتصوف
. النورسى ورؤيته للتصوف المعاصر
. نظرات في الأدب الصوفي عند النورسي
. بديع الزمان سعيد النورسي والتصوف
. أهمية روحانية النورسي المتبصرة في عالم مادي متأزم
6 - دعوة رسائل النور
. دعوة رسائل النور: هل هي حركة؟ أم جمعية؟ أو جماعة؟
. المنهج العوفي وإعلاء كلمة الله عند بديع الزمان
. التبليغ والارشاد في رسائل النور
. العمل الإيجابي القاعدة الثابتة لعمر مديد
. المرأة الإصلاحية في فكر الشيخ النورسي
5 - الرؤية الحضارية في رسائل النور
. من الأسس الفكرية والحضارية في رسائل النور
. البعد العقدي لبنية الإنسان في فكر النورسي
. منهجيّة الاهتمام بعبادة التّعمير، سؤال استعادة الأمة وظيفة الشهادة عند الأستاذ النورسي
. الرؤية الحضارية من خلال رسالة الاقتصاد
. قراءة تحليلية في النظرة النورية إلى المسألة الغربية
4 - أسس التربية في رسائل النور
. تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي
. المقاصد العملية للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
. منهج التربية عند النورسي
. من ملامح التربية السلوكية عند النورسي
. الحكمة وفصل الخطاب في منهج التربية عند النورسي
3 - أسس التربية في رسائل النور
. القرآن العظيم مصدراً للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
. التربية السلوكية عند النورسي
. الأبعاد التربوية لدرس العقيدة عند النورسي
. التجرد ونبذ الأنانية عند النورسي
. بديع الزمان سعيد النورسي ومشروعه الإصلاحي في التربية والتعليم
2 - التعليم في رسائل النور
. كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان
. الخلفية البراديغمائية لأزمة البيئة والتوجه العلمي الكوني عند النورسي
. موقع نظرية العلم في عملية الاستخلاف والتحضر عند النورسي
. التعليم طريقا للتحضر، قراءة في رسائل النور
1 - المنهجية في رسائل النور
. منهج النورسي في إحصاء أسماء الله الحسنى
. عالم الغيب في المنظور النورسي
. منهج النورسي في التعامل مع الأسماء الإلهية الحسنى
. مقاصد الحياة وغاياتها في فكر سعيد النورسي من خلال رسائل النور
. المنهج الواقعي في دراسة قضايا الإيمان رسائل النُّورْسي أنموذجا

النور للدراسات الحضارية والفكرية
 المركز الرئيسي:  

Kalendarhane Mah. Delikanli Sk. No: 6
Vefa 34134 Fatih - Istanbul / TURKIYE
 Phone: +90 212 527 81 81 - Fax: +90 212 527 80 80