مناهج التبليغ عند ورثة النبوة من منظور رسائل النور

مناهج التبليغ عند ورثة النبوة من منظور رسائل النور

 

ABSTRACT

Methods of Conveying the Prophetic Message and Legacy According to the Risale-i Nur

Dr. Mohamad Abd al-Hakim Bichi

This study aims at escposing the rigth mettods wich delivers the legacy of prophecy through the messages of ligth that implemented the islamic experience in the necessity of prophecy and the need of its enlightenment, in the embodiment of the names of Allah through his creation, showing the facts of existence and destiny, and reviving the instinct of the mere devotion and worship.

These concepts cannot be embodied unless we adhere to the necessary qualities of those in charge of bearing the message (scholars) like: the firm faith, and the proper conduct, in order to spread the charter of worshipping, the pious life and its promotion. This, Without neglecting the concepts of advocation and freedom, as well as distancing from the diseases in contrast to the legacy of prophacy.

* * *

 ملخص البحث

د. محمد عبد الحليم بيشي1

ترمي هذه الدراسة إلى الكشف عن المناهج السديدة في تبليغ ميراث النبوة من خلال رسائل النور التي استثمرت الخبرة الإسلامية في ضرورة النبوة والحاجة لهداياتها، في تجسيد مكنونات الأسماء الحسنى في الخلق، وإبراز حقائق الوجود والمصير، وإحياء الفطرة بالعبودية الكاملة، وحسن ارتفاق الكون بالإفادة من معجزات الأنبياء.

ولا تتجسد هذه المعاني إلا بالالتزام بالصفات الواجبة للمبلغين من الإيمان الراسخ والاقتراب من منابع العصمة من أجل نشر ميثاق العبودية وصناعة الحياة الإيمانية والترقي بالحياة، وعدم إهدار مفاهيم التبليغ والحرية، والركون للأدوار المنافية لميراث النبوة.

* * *

تعتبر النبوة وهدايتها منبع الهدي، وموئل رشد الإنسانية كلها. وهي من حيث وجودها حقيقة واقعية لها حضورها التاريخي المشهود في آثار الحضارات وصيرورتها، وارتقت بالبشرية لتحقيق ماهية الإنسان التي أرادها له خالقه ليكون عالما أصغر محاكيا لخير العالم الأكبر.

تعد هذه القضية مركزية في رسائل النور للإمام بديع الزمان النورسي، التي استفادها مصنفها من نور الوحي، وفيما أحكمه من حكمة هي ظل من تنزيل الحكيم الحميد.

يعتبر النورسي بناء الإنسانية المؤمنة غاية النبوة، ولذلك كانت وظيفة النبوة هي التبليغ والتبشير والاعذار والإنذار، والدفع بالإنسان للارتقاء بفهمه وإعمال مداركه وصناعة الفطنة الإيمانية للتسليم بحقائق الوحي وتدبير حياته بمقتضاها. فرسالة النبوة هي فتح لنوافذ العقل والذوق والروح للإيمان الطوعي وليس الإرغام أو القسر والإكراه، مصداقا لقول اللّٰه تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾البقرة:256 إذ أنّ كل إكراه لا ينتج تربية سوية ولا حياة نوعية، فلا ينتفع الإسلام بإيمان المنافقين والمرتابين والمرغمين. ولأجل ذلك فإن كل عملية تربوية لأتباع النبوة تحيد عن هذا المنهج لا تؤتي أكلها. وكل انحراف عن جادة الطريق في حياة المسلمين إنما سببه الحياد عن ميراث النبوة في التبليغ ومخاطبة الإنسان. وما شيوع الإلحاد وضمور التدين إلا نتيجة سننية للانحراف عن منهج التبليغ النبوي.

قصدت رسائل النور تصحيح مسار التبليغ عند وارثي النبوة من أجل استرجاع غايته الأصلية وهي الإفهام عن اللّٰه بتوجيه المخاطبين إلى الفهم العميق لمقصود الشارع في حقائق الغيب وتشريعات الحياة. وهو ما لا يتأتى إلا بتوسّل أدوار الأنبياء في هداية الإنسان إلى الوظيفة الإيمانية في ارتفاق الكون والعبودية لمكونه الحكيم الخبير. والدراسة تستخدم رسائل النور مصدرا أساسيا لتشريح الآتي:

أولا: وظائف النبوة بين رسائل النور وعلم الكلام.

حفلت كتب علم الكلام على مشربي أهل السنة والمعتزلة بتقرير حقيقة النبوة وضرورة الرسالة للبشرية. كما تضمنت العديد من المدونات العقدية الكلام عن شرائط النبوة،2 وصفات المجتبين من الأنبياء والمرسلين، في مطارحات عديدة في الرد على المنكرين للنبوة والمحادة الألوهية قديما وحديثا.

ورسائل النور استثمرت ذلك التراث الكلامي في الموضوع، واستدركت عليه بتجاوز النقائص الكلامية في الطرح والمعالجة عن طريق ربط الخلاصات الكلامية بالنسق العقدي القرآني، أو قل إعادة رسم الموضوع من خلال الحقيقة الثابتة وهي أنّ القرآن الكريم المعرف باللّٰه تعالى بعد كتاب الكون والآية الكبرى خاتم ديوان النبوة محمد عليه الصلاة والسلام.3

والسؤال المثار في هذا البحث: ما هي الإضافة النوعية للنورسي في قضية وظائف النبوة وواجبات الرسالة، وما هي استدراكاته على الكتب الكلامية؟

قبل الجواب عن هذه الإشكالية يجدر بنا أن نعرض للموضوع في النسق الكلامي السني الأشعري والماتريدي. الذي غرق في الكلام عن إثبات النبوة وشرائط المعجزة وصفات الأنبياء وعصمتهم، ومسألة وجوب النبوة من استحالتها إلى جوازها. إلا أنه لم يول كبير عناية لموضوع وظيفة النبوة إلا لماما.

فمثلا عرض الآمدي(631هـ) الأشعري في كتابه الجامع "أبكار الأفكار في أصول الدين"، باب النبوة في أصول خمسة، وفق الترتيب الآتي: بيان معنى النبوة والنبي، ثم تحقيق معنى المعجزة وشرائطها ووجه دلالتها، وأردفها بجواز البعثة عقلا، والرد على المانعين (أربعين شبهة)، ثم إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلـم، وأوجه إثبات نبوته، وختمها بعصمة الأنبياء عليهم السلام.

وعرض أبو المعين النسفي (506هـ) الماتريدي في مصنفه الممتع "تبصرة الأدلة" درس النبوة في خمسة فصول مرتبة على النحو الآتي: استهلها بالتأكيد على أن الرسالة هي من جملة الممكنات أو الواجبات، ثم في المعجزة التي تثبت نبوة مدعي النبوة، انتقل بعدها إلى أمور تثبت الرسالة، أتبعها بالمعجزات التي تثبت الرسالة، وختمها بإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلـم.

نجد الكلام عن وظائف النبوة عند المتكلمين في ثنايا الدفاع عن ضرورة النبوة لهداية البشر وتعريفهم الحسن والقبيح ومقادير الثواب والعقاب، والتقرير لقصور العقل البشري عن الوصول إلى حقائق الأشياء وإدراك مصالح الناس،4 كما جاء في مقاصد السعد (793هـ): "البعثة لطف من اللّٰه ورحمة للعالمين لما فيها من حكم ومصالح لا تحصى. منها معارضة العقل فيما يستقل بمعرفته مثل وجود الباري وقدرته. ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾النساء:165 ومنها تكميل النفوس البشرية، ومنها تعليم الأخلاق الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص والسياسات الكاملة العائدة إلى الجماعات، وفيها الإخبار بتفاصيل ثواب المطيع وعقاب العاصي ترغيبا في الحسنات وتحذيرا من السيئات إلى غير ذلك من الفوائد".5

ونظير ذلك ما قاله النسفي: "وفي إرسال الرسل ووضع الشرائع حصول العاقبة الحميدة للتخليق، ورفع أسباب العبث والفساد عما بين العباد. فمن أنكر الشرع وأبطل الأمور والنهي فقد سعى في إثارة كل فتنة في العالم وفساد في الأشياء. ويحقّقه أن في قوى العقول الوقوف على جمل المحاسن والمساوئ دون أعيانها، والشرف والحكمة في الوقوف على الأعيان دون المجمل".6

ووفق المسلك السابق نسج الإمام الرازي (606 هـ) وبالرغم من ريادته في الاستفصال في درس النبوة، وقصارى ما امتاز به إشاراته اللطيفة إلى دور كمال الإنسانية وتمام البشرية في شخص محمد صلى الله عليه وسلـم الذي كان الأقدر على تكميل الناقضين عندما ساق الأوجه المختلفة لإثبات النبوة بالمعجزات وغيرها، إلا أنه استدرك قائلا: "الطريق الثاني إثبات نبوته بالاستدلال بأخلاقه وأفعاله وأحكامه وسيرته، فإن كل واحد منها وإن كان لا يدل على النبوة، لكن مجموعها مما يعلم قطعا أنه لا يحصل إلا للأنبياء، وهذه الطريقة اختارها الجاحظ، وارتضى بها الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال".7

وهو بهذا يشير إلى الطريق الجديد الذي افتتحه أبو حامد الغزالي (505هـ) في الاستدلال بوظيفة النبوة على إثباتها بقوله: "إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار تحصّل لك العلم الضروري بكونه صلى الله عليه وسلـم على أعلى درجات النبوة، وعضّد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب، فمن هذا الطريق أطلب اليقين في النبوة لا من قلب العصا ثعبانا وشق القمر".8

ولم تكن المصنفات المتأخرة في درس التوحيد ببعيدة عنها، فقد عرضت بدورها موضوع وظيفة النبوة في ثنايا الكلام عن صفات الأنبياء، كما جاء في أم البراهين السنوسية: "أما الرسل عليهم الصلاة والسلام فيجب في حقهم الصدق والأمانة وتبليغ ما أمروا بتبليغه إلى الخلق."9

كانت مساهمة النورسي في السياق المشار إليه إضافة نوعية متجاوزة القصور الكلامي الذي غرق في بحر الردود على شبهات منكري النبوة من الفلاسفة والدهريين والطبائعيين والبراهمة. كما استغرق جهوده في الرد على النصارى واليهود في قضايا عصمة الأنبياء واثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلـم بمختلف الأدلة العقلية والسمعية.

يطالعنا بديع الزمان النورسي بالتفافه على تلك الردود التي أغفلت قضية وظائف النبوة وذلك بربط الموضوع أصالة بالقرآن الكريم الكتاب المهيمن الخاتم والذي حدد وظائف النبوة ومهام الرسالة انطلاقا من ريادة الأنبياء لمجموع البشرية، إذ أن النبوة شمس للناس لا غناء عنها إذ هي النور الكلي.10 ومهمة الأنبياء هي بث النور الإلهي الذي يقيم أود البشرية ويخرجها من الظلمات إلى النور. ظلمات الطين وانتكاسة الفطرة إلى نور الهداية التي ترفع الإنسان إلى مقامه الذي أراده له وهو الخلافة في الكون ليكون عالما أصغر محاكيا لخير العالم الأكبر.

فالإخراج إلى النور هو المهمة الأساسية للأنبياء ائتمارا بقوله تعالى: ﴿اللّٰهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.البقرة:257 قول النورسي في ذلك: "يلزم أن يكون لمثل هذا الكون البديع ولصانعه القدوس مثل هذا الرسول الكريم كلزوم الضوء للشمس، لأنّ كما لا يمكن للشمس أن تشع ضياء كذلك لا يمكن للألوهية إلا أن تظهر نفسها بإرسال الرسل الكرام عليهم السلام"،11 ويستشف من هذا القول المجمل أنّ للنورسي اهتماما بالغا بمجمل وظائف الأنبياء. وتتجلى عنايته بها من خلال العرض الموجز الآتي:

1- إظهار جلال الألوهية وكمال الربانية: بالمعرفة التامة لمصدر الخير والنور، اللّٰه رب العالمين، وذلك بكشف أسرار الأسماء الحسنى وخصائصها والتي تعود إلى الجلال والجمال والكمال. "فإن الألوهية لا تكون بلا رسالة."12

ولا يفهم من هذه الإشارة البديعة من النورسي وجوب إرسال الرسل على اللّٰه فاللّٰه لا يجب عليه شيء لأنه تعالى: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.الأنبياء:23

وإنما المراد هو تلازم إظهار مكنونات الأسماء الحسنى للخلق المبتدأ بواسطة معرّف بالخالق، فظهور الخلق موجب لجلاء الأسماء الحسنى التي اقتضت وجود هذا الخلق من البشر والأناسي.

فكلية الكمال تسائلنا: "هل يمكن أن لا تطلب سلطنة كلية لربوبية عامة شاملة إعلان وحدانيتها وصمدانيتها على مختلف الطبقات بواسطة مبعوث ذي جناحين أي ذي صفتين: صفة العبودية الكاملة فهو ممثل طبقة المخلوقات عند الحضرة الربانية، وصفة الرسالة والقرب إليه، فهو مرسل من لدنه سبحانه إلى العالمين كافة."13

وكلية الجمال تقول: "هل يمكن لصاحب جمال مطلق أن لا يروم أن يشهد هو ويشهد خلقه محاسن جماله ولطائف حسنه في مرايا تعكس هذا الجمال؟ أي بواسطة رسول حبيب، فهو حبيب لتودده إلى اللّٰه سبحانه بعبوديته الخالصة، وهو رسول حبيب لأنه يحبب اللّٰه سبحانه بإظهار جمال أسمائه الحسنى."14

وكلية الجلال تقول: "هل يمكن للخالق ذي الجلال الذي عرّف نفسه إلى ذوي الشعور بهذه المخلوقات الجميلة، وحببها إليهم بنعمه الغالية، أن لا يبين لهم بواسطة رسول ما يريد منهم وما يرضيه إزاء هذه النعم السابغة".15

إن هذه الإشارة في وظيفة النبي صلى الله عليه وسلـم في تعريف الخلق بمكنونات الأسماء الحسنى وتجليات الحضرة الربانية تحيل إلى ذلك الأثر الدائر عند المتصوفة والمستفاد من قوله تعالى﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾الذاريات:56 وهو قوله: "كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني".16

2- إظهار الحقيقة في مصدر الوجود ومصاير المخلوقات: تتجلى هذه الحقيقة فيما بث من هدايات السماء للمخلوقات حتى تتعبّد جميعا لمصدر الوجود الأوحد اللّٰه رب العالمين الذي لا غنى لأحد عن قوته وحوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّٰهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّٰهِ بِعَزِيزٍ﴾.فاطر:15-17

فوظيفة الأنبياء هي الهداية وهم أئمة الهدى المقتدى بهم ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّٰهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾.الأنعام90

يقول النورسي: "إن الأنبياء قد بعثوا إلى مجتمعات انسانية ليكونوا لهم أئمة الهدى يقتدى بهم في رقيهم المعنوي، ويبين في الوقت نفسه أن اللّٰه قد وضع بيد كل منهم معجزة مادية، ونصبهم روادا للبشرية وأساتذة لها في تقدمها المادي أيضا، أي أنه يأمر بالاقتداء بهم واتباعهم اتباعا كاملا في الأمور المادية والمعنوية".17

وقد تجلت الهداية الكاملة في خاتم النبوة الذي ختم به الطور الأخير من البشرية الذي وصف النورسي وظيفته بالجواب عن هذا التساؤل: "فإن قلت: من هذا الشخص الذي نراه قد صار شمسا للكون كاشفا بدنيه عن كمالات الكائنات وماذا يقول؟ قيل لك: ها هو يخبر عن سعادة أبدية ويبشر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية. ويعلنها ويدعو الناس إليها وهو دلال محاسن سلطنة الربوبية ونظارها، وكشّاف مخفيات كنوز الأسماء الحسنى ومعرفتها، فانظر إليه من جهة وظيفة رسالته، تراه برهان الحق وسراج الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة".18

فوظيفة الأنبياء قد أبانت للخلق مصدرهم وسبيلهم ومصيرهم، وكفتهم قلق السؤال عن هذه الأسئلة الوجودية رحمة من اللّٰه بهم: "أم هل يمكن أن لا يبين مالك هذا الكون بواسطة رسول ما الغاية من تحولات هذا الكون، وما القصد من هذا الطلسم المغلق، وأن لا يجيب بواسطته عن ألغاز الأسئلة الثلاثة المستعصية في الموجودات: من أين، وإلى أين ومن تكون."19

إن هذه التقريرات النورسية عن وظيفة النبوة جاءت في جو الدفاع عن الحقائق الإيمانية ومهاجمة الوافد العلماني الذي فصل الديني عن الدنيا والنبوة عن توحيد الحياة.

ولا غرو إنْ وجدنا هذه الحقائق تتكرر مرارا في مجمل رسائل النور، إذ أنّ المهمة التي باشرها النورسي وأنجزها بتوفيق اللّٰه تعالى في الدفاع عن الإيمان ضد مطاعن العلمانيين الذين صارعهم النورسي في السياسة منذ نجاح الانقلاب على الميراث العثماني،20 وفي ذلك يقول بديع الزمان: "عارضت الاتحاد والترقي المستبدة، تلك التي أذهبت شوق الجميع وأطارت نشوتهم وأيقظت عروق النفاق والتحيز وسببّت التفرقة بين الناس وأوجدت الفرق والأحزاب القومية وتسمّت بالمشروطية بينما مثلت الاستبداد في الحقيقة."21

3- إظهار معاني العبودية الكاملة:

وظيفة الأنبياء والمرسلين إظهار وكشف الحقائق الإيمانية المستودعة في الفطرة البشرية الأولى والمرتبطة بالميثاق الأزلي: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾.الأعراف:172

وبيان ذلك أن تلك الفطرة كثيرا ما انحرفت بها الأزمنة والأهواء فحجبتها عن إدراك غاياتها في العبودية للّٰه على الكون كله، فكان الشنآن بين الإنسان والكون المرتفق، وكان العداء بين بني الانسان أنفسهم نتيجة الشذوذ عن الصلاة الكونية ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾.الإسراء:44

فكمال الإنسان إنما هو بالتوحيد والتوحيد طريق العبودية.

يقول النورسي: "إن الإنسان بسر التوحيد صاحب كمال عظيم بين جميع المخلوقات، وهو أثمن ثمرات الكون وألطف المخلوقات وأكملها وأسعد ذوي الحياة ومخاطب رب العالمين وأهل ليكون خليله ومحبوبه".22

إن لوظيفة النبوة أهمية في طريق العبودية وتحقيق العناصر الإيمانية من جهة، والتعامل الايجابي مع عناصر الكون المادية والمعنوية من جهة أخرى. ولتيسير وظيفة النبوة وهب الباري رسله جميعا وعلى رأسهم النبي الخاتم أكمل الصفات، وسلّم إلى يده الصنعة البارعة وهو يحضّ البشرية على الاقتداء."23

وعليه فالغاية القصوى من النبوة عند النورسي هي إعادة الإنسان إلى بيت العبودية، البيت الأصلي الذي لا يضل فيه البشر كما قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾.طه:123-124

يقول النورسي: "أما المعجزة الكبرى للرسول الأعظم، وهي القرآن ذو البيان المعجز، فإنه يظهر بوضوح كمالات الدنيا والآخرة وسعادتهما، فيسوق البشر إليها ويوجهه نحوها حتى إنه يقول بأسلوب التشويق: أيها الإنسان؟ المقصد الأسمى من خلق هذا الكون هو قيامك أنت بعبودية كلية تجاه مظاهر الربوبية، وأن الغاية القصوى من خلقك أنت هي بلوغ تلك العبودية بالعلوم والكمالات".24 والعلوم هي التي تحيلنا إلى الوظيفة الموالية.

4- حسن ارتفاق الكون:

خلق اللّٰه الكون للخليفة الإنسان: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾،البقرة:30 ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ﴾،هود:61 ولا يمكن للبشرية أن تعرف الارتفاق الأمثل للكون أو تتناغم مع عبوديته دون تعريف الرسل الذين هم وسائل الهداية لأحسن المعاش وخير المعاد، ولا يمكن للبشر أن يدركوا تلك المهمة في الإعمار والاستثمار من دون النبوة باعتبار أن النبوة جزء من نظام الكون لأنها من خالق الكون، ذلك الكون المنظور الذي أرسل الأنبياء بوحي مسطور، فكان بين المنظور والمسطور توافقا كليا.25

هذه الدلالة على حسن ارتفاق الكون اكتملت في الرسالة المحمدية لأن: "الرسالة المحمدية مترشحة من حسن الكون وشعوره وعقله، فهي أصفى خلاصته... فإذا ما فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون جنّ جنونه، وفقدت الكرة الأرضية صوابها وزال عقلها وظلت بلا شعور".26

ووقائع التاريخ تحيل إلى هذه الحقيقة الربانية في تعاسة الكون بكفر الإنسان وشقاوة الدنيا بفجور البشر كما قال تعالى:

﴿الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾.الفجر:11-14

ونحن شاهد اليوم هذه التعاسة والشقاوة في الدمار الخلقي للبشرية وانحدارها القيمي نتيجة سيطرة الفلسفات العلمانية على حياة الناس فتوالت الأزمات والحروب والصراع. لأن البشر ضلوا عن هدايات السماء فحزن الكون لهذا الغواية والعماية.

5- حسن الاستعداد للحياة الأزلية:

إن الحياة الدنيوية نقطة واحدة في خط الوجود والأزل، والعبد المأفون من يبيع الخط الطويل بالنقطة الواحدة، أو يضع ثلاثة وعشرين ساعة بخسارة ساعة واحدة (الصلاة).27 ولذلك فوظيفة النبوة هي دفع البشر لحسن الاستعداد لهذه الحياة الباقية بتفعيل كل الطاقات المودعة في الإنسان للقيام بوظيفة العبودية لنيل الخلود السعيد في تلك الحياة. كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.العنكبوت:64

يقول النورسي في تجليات الاسم الحي القيوم ومنها الحياة: "لو لم يكن هناك رسل ولا كتب لما عرفت تلك الحياة الأزلية، ولا بد أن الحياة التي في الكون كما أنها تدل بصورة قاطعة على 'الحي الأزلي' سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده، تدل كذلك على شعاعات تلك الحياة الأزلية وتجلياتها وارتباطاتها وعلاقتها بأركان الإيمان مثل إرسال الرسل وإنزال الكتب".28

ولأجل ذلك كان من وظائف النبوة إعداد الناس لحسن استقبال الحشر بالعبودية التامة والإيمان بالوعد والوعيد والتوحيد والجزاء والحساب والعقاب، وذلك لأنّ القرآن نور البشرية "ثلث القرآن بأكمله، وأوائل أغلب السور القصار آيات جلية على الحشر".29

وعليه فإنّ وظائف النبوة ومهام الرسالة إنّما جاءت لهداية البشر إلى النور التام الذي وسيلته العبودية الكاملة وغايته السعادة الباقية وشعاعاته هي تجليات الأسماء الحسنى لمصدر الوجود وواهب الخير والجود وفيض الرحمة اللّٰه رب العالمين.

ثانيا: المهام الأساسية لورثة النبوة

تركز رسائل النور على صفات المجتبين وخصال الخيرين الحاملين لأنوار النبوة إلى جموع البشرية من أجل وصلها بالحقائق الإيمانية الخالدة (التوحيد، النبوة، المعاد، العبودية مع العدالة).30

وهي لا تألوا جهدا في إعادة بناء الإنسانية المؤمنة عن طريق سلطان القرآن الذي ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾.فصلت:42

فالإنسان هو المقصد الأول في وظيفة النبوة بتأهيله إلى مقام الخلافة التي أرادها اللّٰه، إذ لوح بها -أية الخلافة- إلى مظهرية هذا النوع للخلافة الكبرى في الأرض، ولمّح بهذا احتجاجا عليها إلى أنّ الإنسان هو النسخة الجامعة والمظهر الأتمّ لكل التجليات لتنوع استعداداته وتكثّر طرق استفاداته وعلمه، فيحيط بالكائنات بحواسه الخمس الظاهرة والباطنة، لا سيما بوجدانه الذي لا قعر له."31

ولا يمكن بناء الإنسان المؤمن دون تفهم مقاصد الأمانة التي حملها دون بقية المخلوقات، "فقد خلق الإنسان ليكون فاتحا كاشفا مريئا، وبرهانا نيرا، ودليلا مبصرا، ومعكسا نورانيا، وقمرا مستنيرا للقدير الأزلي، ومرآة شفافة لتجلي الجمال الأزلي، وقد انجلت وتصيقلت بحمل الأمانة التي تدهشت من حملها السماوات والأرض والجبال، إذ من مضامين تلك الأمانة صيرورة الإنسان واحدا قياسيا لفهم الصفات المحيطة."32

لأجل الإنسان أرسل الأنبياء وحمل الوارثون لهم إكمال المسيرة بتوضيح معاني الخلافة والعبودية والأمانة. ولذلك فإن المهام الأساسية لوارثي النبوة وحملة الرسالة وخاصة الخاتمة منها تتجلى في مضامين عديدة، الشق الأول منها حول صفات الورثة ذاتهم، والثانية متعلقة بطبيعة مهام ورثة النبوة.

أ- صفات ورثة الأنبياء:

تنطلق الصفات المؤهلة لورثة النبوة من مشكاة النبوة ذاتها أو من شرائط الوحي نفسه تصديقا لقول اللّٰه تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾فاطر:32 وعليه فإن ظلال وخصال الورثة هي نبع من فيض النبوة المصطفاة: ﴿اللّٰهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.الحج:75

يمكن تنزيل صفات الأنبياء الكمل والرسل المجتبين على ورثتهم انطلاقا من رؤية النورسي للشرائط الضرورية لأصحاب الرسالات المختارين وهي:

1-الإيمان الراسخ: الذي لا تزعزعه الأيام ولا تحول به الليالي ولا تدركه خطرات الشياطين، وهو إيمان المخلصين كما قال جلّ وعلا ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾.الحجر:42

ولأجل ذلك كان الورثة قلة في كثرة الناس كما هو النص في قوله تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.هود:40

يقول النورسي في هذه الخصلة: "إن جميع الأنبياء وهم ذوو الأرواح النيرة وفي مقدمتهم الرسول الأكرم. وجميع الأولياء وهم أقطاب ذوي القلوب المنورة وجميع الصديقين وهم منابع العقول النافذة النيرة، كل أولئك يؤمنون إيمانا راسخا بالحشر ويشهدون عليه ويبشرون البشرية بالسعادة الأبدية."33

فهي الأرواح الشفافة الموصولة بالحضرة الربانية، التي تجعل ورثة النبوة متحررين من الوقوع في شرك الطين وحمأة المادة، ولهذا تهيأ لهم من العلم الحقيقي ما لم يدركه غيرهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾فاطر:28 ونورانية الأرواح هي التي تفتح مغاليق الكون، ولذلك كانت سمات الورثة هي الزهد والتعفّف عن الدنيا ومجافة عُبَّادها، وهذا هو مفتاح القلوب للوصول بها إلى أبواب الهداية.34

وعليه فإن السمة الرئيسية لورثة النبوة هي التخفّف من أثقال البشرية اقتداء بالسادة المرسلين، "لأن أرواح الأنبياء والأولياء الذين خفوا بوضع أثقالهم وأرواح الأموات الذين خلعوا أجسادهم يصعدون بإذن إلهي إلى السماء".35

وشهادة التاريخ تنبئ بأن الصلحاء أكثر قبولا عند الناس، لأنهم يفتحون القلوب بالأرواح الشفافة، أما الآخرون الذين يثّاقلون إلى الأرض فإنهم يغرون أو يغوون بعض الناس لبعض الوقت بزائف الدنيا لكنهم لا يفلحون.

2- الاقتراب من منبع العصمة والحفظ الإلهي:

ضمن اللّٰه عز وجل لأنبيائه العصمة من الزيغ والزلل والخطل حتى تكون القدوة بهم تامة والطاعة غير منتقضة ولا منتقصة كما هي النصوص متضافرة، وكما هو إجماع أهل السنة والجماعة.36

وهذا الاقتراب من دائرة العصمة والحفظ من اللّٰه لعباده الصالحين من الزيغ والغواية إنما يكون بتمثل الوحي الإلهي المعصوم أمرا ونهيا وقراءة وتدبرا وتقديما له في كل الأحوال كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.الحجرات:1

وارث النبوة هو المنافح الأول عن هيمنة الذكر الحكيم على الحياة كلّها، وهي مهمة الجهاد الكبرى ضد أهل الأهواء والبدع والضلالات، حتى إن النورسي ساق في اللمعة الحادية عشر "مرقاة السنة وترياق البدعة" الحديث الوارد: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد".37

إنّ الاقتراب من مصدر العصمة وتمثل أخلاق وآداب المرسلين كفيل بفتح القلوب المدعوة، وهذا ما يوجب التلبّس بآداب النبوة التي أذعنت لجمالها وجلالها أفئدة العرب الجاهلين. يقول النورسي: "فمن يمعن النظر في السيرة النبوية ويحيط علما بالسنة المطهرة يدرك يقينا أن اللّٰه سبحانه وتعالى قد جمع أصول الآداب وقواعدها في حبيبه صلى الله عليه وسلـم، فالذي يهجر سنته المطهرة ويجافيها فقد هجر منابع الأدب وأصوله، فيحرم نفسه من خير عظيم ويظل محروما من لطف الرب الكريم ويقع في سوء أدب وبيل."38

انطلاقا من هذه الصفات المقتربة من حظوظ النبوة يمكن تلخيص المهام الأساسية لوارثي النبوة بالقيام بوظائف النبوة تجاه المخلوقات العطشى لنور اللّٰه الأزلي.

ب- مهام ورثة الأنبياء:

1-نشر ميثاق العبودية بين البشر: ينشر ميثاق العبودية بين البشر باستعادة فطرة التوحيد وتفعيل منابتها في أفئدتهم حتى يتناغموا مع تسبيح الكون كله، ولا يتم ذلك بدون إنسانية مؤمنة، ووقود سفينة الورثة في نشر هذا الميثاق هو الإخلاص، ذلك الوقود الغالي الذي رصدت له الشياطين أسلحتها لصرف العباد عن العبودية الكاملة وتزييف الحياة ببهرج القول والمال والأفكار الزائفة كما قال اللّٰه تعالى: ﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَرِيدًا. لَعَنَهُ اللّٰهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾.النساء:117-118

وفي أهمية سلاح الإخلاص ومركزيته يقول النورسي: "إن الإخلاص هو الطريق الوحيد للخلاص من الشرك الخفي، فمن لم يحمل إخلاصا في ثنايا قلبه فلا يستطيع أن يتجول في تلك الطرق."39

أما الوقود الثاني لنشر ميثاق العبودية فهو الحب، حب الخير للبشر، فما يمكن لقلب وارث النبوة إلا أن يكون رحيما رءوفا محبا للخلق مرضاة للحق، قلبه كقلب الخاتم الأمين صلى الله عليه وسلـم: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾،التوبة:128 ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.الأنبياء:107

يقول النورسي: "إن المحبة تشكل أمضى قوة في تلك الطرق فالمحب لا يبحث عن نقص بل لا يرغب في أن يرى نقصا في محبوبه... وإن الذين يتوجهون بقلوبهم إلى معرفة اللّٰه عن طريق المحبة لا يصغون إلى الاعتراضات ويجاوزون سريعا العقبات والشبهات، وينقذون أنفسهم بسهولة ويحصنونها من الظنون والأوهام حتى ولو اجتمع عليهم آلاف شياطين الأرض".40

يقتفي ورثة النبوة مسلك المرشد الأول والرائد الأكمل: "الذي بعث ليرشد الناس إلى ما في ذلك الكتاب الكبير من حكم مقدسة حقيقية. وليكون مبعث ظهور المقاصد الربانية في خلق الكون، بل السبب في حصولها. ولينهض بعبودية واسعة باسم المخلوقات قاطبة تجاه مظاهر الربوبية الواسعة مثيرا الشوق، وناشرا الوجد في الآفاق برا وبحرا ملفتا الأنظار إلى الصانع الجليل بدعوة ودعاء وتهليل وتسبيح وتقديس".41

2- صناعة الحياة الإيمانية:

صناعة الحياة الإيمانية عنوان كبير يمثل الترجمة الكبرى لميثاق العبودية، إذ هو مظهر سر الإيمان الساري في شعاب الحياة. فلا معنى لإيمان مخبوء لا يشع بنوره لإضاءة الدروب والمسالك. فصناعة الحياة إيمانيا هي مشروع صلاة كبير لوارثي النبوة أو قل: "إن تلك الصلاة بهذه الجماعة هي تحويل الحياة كلها إلى صلاة كونية كما فعل النبي الذي يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى بدرجة كأنه إمام في محراب عصره واصطف خلفه مقتدين به جميع أفاضل بني آدم".42

إن وارثي الأنبياء عندما يصنعون الحياة إيمانيا كلها من الذرة إلى المجرة، ومن المحراث إلى تعبيد الفلوات وزرع النباتات إنما يتأسون في ذلك بالأنبياء عليهم السلام الذين كانت بعثتهم رحمة ونعمة إذ فتحوا للبشرية آفاق الهداية وطرائق العمارة، فمعجزاتهم هي مؤيدات ربانية لنبوتهم، وهي أيضا تعليم للبشرية العلوم المختلفة حتى تحسن ارتفاق الكون.

وأنموذج ذلك نوح عليه السلام بصناعة الفلك فهو رائد الملاحين وقطب مهنتهم،43 وسليمان عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْر وَرَوَاحُهَا شَهْر﴾.سبأ:12 هو فتح في فيزياء الرياح وقطع المسافات في مدة وجيزة كالطائرات. وموسى عليه السلام علّم البشرية كيفية استخراج مكنوزات الأرض وخزائن الرحمة الدفينة: ﴿فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا...﴾،البقرة:60 وعيسى عليه السلام كان رائداً في الطب وشفاء الأمراض والأسقام: ﴿وَأبْرِئُ الْأكْمَهَ وَالْأبْرَصَ﴾...آل عمران:49 وداود عليه السلام كان قدرة في تطويع المعادن وإذابة النحاس: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾.سَبَأ:10-11 وفاتحة صناعة الحياة كانت مع الخليفة آدم التي ترقى على الملائكة بالعلم: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا﴾،البقرة:31 فهو التفوق الآدمي الذي قال فيه النورسي "إن تفوق أبيكم آدم في دعوى الخلافة على الملائكة كان بما علمته الأسماء كلها. وأنتم بنوه ووارثو استعداداته ومواهبه فعليكم أن تتعلموا الأسماء كلها لتثبتوا جدارتكم أمام المخلوقات لتتم الأمانة العظمى".44

3- الترقي في الحياة الاجتماعية:

يعد الترقي في الحياة الاجتماعية مهمة حضارية نبيلة وهي الارتقاء بالسلم البشري من شقاوة البداوة والجهالة إلى دورة الحضارة وحضرة العلوم والآداب، وذلك عين ما فعله الأنبياء الذين كانوا معلمين مرشدين. ووجب على ورثة النبوة الاقتداء بهم في التعليم كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾آل عمران:79 يقتدي ورثة النبوة بخاتم الأنبياء الذي كان عين معجزاته العظمى نقل عالم الأعراب الجاهليين في بضع سنين من درك الفرقة في الشقاوة إلى نعمة السعادة بالاجتماع والمدنية. فصاروا أمة بعد أن كانوا قبائل متصارعة وطرائق قددا. وانتقلوا من حكم العرف الجائر إلى حكم القانون العادل ومن سلطة الشيخ إلى سلطة الإيمان باللّٰه المتجلية في الامتثال للشريعة. ففتحوا ربع العالم القديم في ربع قرن من الزمان، إنها معجزة محمد صلى الله عليه وسلـم التي قال فيها النورسي: "انظر إلى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة، ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذا الشخص جميع أخلاقهم السيئة البدائية، وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة، وجهزهم بأخلاق حسنة عالية، فصيرهم معلمي العالم الإنساني وأساتيذ الأمم المتمدنة."45

ومن مهام وارثي النبوة تخليص البشر من العادات السيئة التي ارتكسوا فيها نتيجة البعد عن هدايات السماء، وذلك جهاد عظيم لأنه تغيير للمواريث السيئة عن الآباء: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾الزخرف:23 أو السلطة القائمة ﴿إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ﴾الأحزاب:67 أو القرون الخالية: ﴿رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ﴾.الأعراف:38

تغيير العادات والارتقاء في سلم المدنية المهتدية من مهام وارثي النبوة الذين يقتدون بالأنبياء في جهادهم، يقول النورسي: "إنا نرى هذا النبي الكريم قد رفع بالكلية عادات كثيرة من أقوام عظيمة متعصبين لعاداتهم معاندين في حسياتهم، رفعها بقوة جزئية وهمة قليلة في ظاهر الحال. وفي زمان قصير، وغرس بدلها برسوخ تام في سجيتهم عادات عالية وخصائل غالية".46

استكمال هذه المهام من وارثي النبوة كفيل باستعادة الحياة الإنسانية كلها إنسانيتها وبعث معادن الإيمان في الأفئدة فيتحقق التوحيد الذي هو جوهره الحضارة ومنبع المدنية المهتدية. فتنتفي العادات السيئة وتكون عمارة الكون بالخير ويسود التعاون والتآزر بين البشر بناء على "تصور الإنسان لوظيفته الاجتماعية المنتظرة منه بناء على تصوره لماهيته. فالمتحرر من كل قيد يضع برنامجا اجتماعيا متناغما مع ذلك التصور ومحققا لأهدافه. ومن تصور ماهيته من خلال مركزية المجتمع تلبست وظيفته الاجتماعية بذلك التصور، مما يؤكد أن للوظيفة الاجتماعية أو الموقف الاجتماعي صلة وثيقة بالماهية."47

وهكذا فإن المهام الأساسية لوارثي النبوة الحقيقيين بها تصنع حتما مجتمعا فاضلا مؤمنا متناغما مع الكون مترابط الأركان تشيع فيه المواساة والرحمة نظرا لترفعه عن أدران الجاهلية وعاداتها السيئة. وذلك ليس بالمحال فقد كان للنبوة نجاحاتها في ايجاد هذه المجتمعات الفاضلة مع بني إسرائيل الأول ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴾الأعراف:137 ومع محمد صلى الله عليه وسلـم ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾.الفَتْح:29

يقول النورسي: "إنّ المجتمع الإسلامي الشبيه بالجيش العظيم قسم إلى قبائل وطوائف مع أن لهم ألف جهة وجهة من جهات الوحدة، إذ خالقهم واحد ورسولهم واحد وقبلتهم واحدة إلى ألوف جهات الوحدة التي تقتضي الأخوة والمحبة والوحدة، بمعنى أن الانقسام إلى طوائف وقبائل ما هو إلا للتعارف والتعاون لا التناكر والتخاصم."48

ثالثا: طرائق الانحراف عن مناهج التبليغ النبوية

إن التعثر الذي شهده التاريخ الإسلامي منذ انصرام الخلافة الراشدة، والذي بلغ أوجه في العصر الحديث بظهور موجات العلمانية واللادينية التي هزت كيان المجتمعات الإسلامية التي وقعت ضحية الاستعمار وفريسة الاحتراب والتطاحن يعود في عديد أسبابه إلى الانحراف عن ضياء النبوة والابتعاد عن هدايات الوحي المعصوم (القرآن الحكيم والسنة المطهرة).

كما أن جزءا كبيرا من هذا الانحراف يحمل وزره الساسة والعلماء وقادة الرأي والفكر الذين لم يحسنوا حمل الأمانة إلا في القليل حيث كان الصد عن محمول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللّٰهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.الأنفال:27

وعليه فإن ورثة النبوة وحملة العلم الذين يتنكبون عن متابعة مناهج التبليغ النبوية المعتصمة بالوحي سيفشلون حتما، إذا لم يستصحبوا الصفات الحقيقية للورثة الذين قال فيهم النبي عليه السلام: "يحمل هذا العلم من كل عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين." 49

وفي منظور رسائل النور التي هي تفسير نوري عالي للذكر الحكيم، فإن الانحراف بالمناهج القدد عن مناهج التبليغ النبوية له أشكال عدة يمكن إجمالها في الآتي من الصور والوسائل والمسائل:

1- إهدار مفهوم البلاغ الإلهي:

وذلك من حيث إن الوحي الإلهي حدد مهمة الأنبياء والمرسلين في وظيفة البلاغ وإسماع كلمات اللّٰه الكونية والتشريعية لجموع البشر دون حيف أو تهديد أو ترغيب في العاجلة. فكلمات الأنبياء مجمعة على هذه الكلية، كلية البلاغ التي جاءت: على لسان هود عليه السلام ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّٰهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾،الأعراف:62 وعلى لسان صالح عليه السلام: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾،الأعراف:79 وعلى لسان محمد: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾،إبراهيم:52 وعليه فإن مهمة الداعية وارث النبوة هي البلاغ والبيان، وأما حين الصدود والإعراض والمناكفة فالقرآن يطرح أسلوبا آخر وهو التولي والإعراض والترك. كما هي النصوص: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.﴾،الغاشية:21-22 ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾،الرعد:40 ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾،الزخرف:83 وذلك لأن أمر القلوب هو بيد اللّٰه تعالى وحده ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.القصص:56

يطلب من ورثة النبوة استصحاب هذه المعاني الإلهية في بناء الإيمان بالنفوس حتى لا تنحرف جهودهم أو تضيع سدى في قتل النفوس هما وحسرة على صدود المعاندين، فلا قيمة لعدد الكفار وإن ملئت بهم الأرض.50 ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.فاطر:8

يقول النورسي: "فيا من يحرص على المزيد من الثواب، ولا يقنع بما قام به من أعمال للآخرة؟ اعلم أن اللّٰه سبحانه وتعالى قد بعث أنبياء كراما، وما آمن معهم إلا قليل. ومع ذلك نالوا ثواب النبوة العظيم كاملا غير منقوص. فليس السبق والفضل إذن في كثرة التابعين المؤمنين، وإنما في نيل شرف رضى اللّٰه سبحانه. فمن أنت أيها الحريص حتى ترغب أن يسمعك الناس كلهم، وتتغافل عن واجبك وتحاول أن تتدخل في تدبير اللّٰه وتقديره؟"51

2- إهدار مفاهيم الحرية:

تهدر مفاهيم الحرية بالتطويح بمضامين ماهية الإنسان القائمة على مفاهيم التكليف والمسؤولية كما قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾،الإِنْسَان:3 فماهية الإنسان في منظور رسائل النور رباط وثيق بين الحرية والعبودية، الحرية الشرعية والعبودية الايمانية، إن الحرية في العبودية للّٰه تعالى، وهي المسلك الوحيد الذي يحرر الانسان من معوقات فعل الخير الفكري والاجتماعي والتربوي، وبالتالي فالحرية في الاستحضار الدائم للماهية، وما فقدت الحرية إلا بسبب التعلق بالدنيا والغفلة من الماهية الحقيقية للإنسان.52

إن جنوح بعض العلماء إلى محق الحرية في القبول أو الرد مناف لطبيعة الايمان الاختياري الذي أراده اللّٰه ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.يونس:99

ولذلك فإن سلوك طرائق العنف والقسر والجبر والإكراه لن يورث إلا منافقين أو متلبسين، أما الإيمان الصادق فلا طريق له إلا الحرية الشرعية المتبصرة بالعبودية. الحرية التي تفجر ينابيع الانقياد للّٰه وحده. والتي إذا انتكست كان العبد هو الأضعف بين المخلوقات.53

3- العجز عن انفاذ الغايات الأساسية:

أكبر عائق وأخطر انحراف عن طرائق تبليغ الأنبياء (عليهم السلام) العجز عن تحقيق الغايات الأساسية لمقصود النبوة والانجرار وراء المعارك الهامشية أو المسارب الدنيوية أو المناكفات السياسية مع بني الدنيا، فقد كانت جهود الأنبياء موجّهة أساسا إلى إصلاح القلوب ومداواة الأنفس من أسقام الشياطين، وكل تنكب عن هذا بركوب لجج السياسة أو المسارعة في مقارعة الظالمين أو تعجّل التمكين في الأرض بغير وسائل السماء سيعود على المبلغين بالخسار والبوار. وقد حدد النورسي هذه الغايات التي لا يجب أن يحيد عنها ورثة النبوة وهي تسعة:54

القيام بالشكر الكلي، فتح الكنوز المخفية للأسماء الإلهية الحسنى، اظهار العبودية، التجمل بمزايا اللطائف الانسانية، شهود مظاهر الحياة، معرفة صفات الخالق الجليل، فهم الأقوال الصادرة عن موجودات العالم، إدراك درجات القدرة الإلهية والثروة الربانية.

4- الركون إلى اليأس:

الدعوة إلى ميراث النبوة تستلزم قلوبا حية غير صدئة، وأرواحا ملأى بالأمل واليقين، إذ الإيمان واليأس ضدان لا يجتمعان، كما قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.يوسف:87

وقد أكد النورسي أن تجاربه علمته : "أن اليأس داء قاتل، وهو داء عضال للأمم والشعوب وهو المانع عن بلوغ الكمالات، وهو شأن الجبناء والسفلة والعاجزين وذريعتهم، وليس شأن الشهامة الاسلامية".55

فاليأس هو الذي جعل عديد العلماء أسرى أوهام أنفسهم عندما صدت عنهم الجماهير، فسجنوا أنفسهم في الخلوات والتكايا منادين بالويل والثبور ومعلنين فساد الزمان. متناسين قول النبي(عليه الصلاة والسلام): "من قال هلك الناس فهو أهلكهم".56

والأمر نفسه يسرى في المجاهدة الذاتية، فاليأس من مغالبة الشيطان واطراح الدنيا حاجب من الوصول للحضرة الربانية: ﴿لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾الزمر:53 والحق أن المجمل والمفصل في الانحراف عن مناهج تبليغ الأنبياء إنّما هو في الصدود عن ارشادات القرآن الكريم الذي جاء خمسه تقريبا كلاما عن أخبار الأنبياء الصادقين وأتباعهم الصابرين، ولا غرو أن تكرار القصص القرآني57 إنما كان يهدي إلى لزوم طرائق التبليغ النبوية إلى أن تصل القلوب ببارئها.

وما أجمل قول النورسي في هذا الختام الماتع: "إن رسائل النور قد أظهرت خدماتها كسيف ألماسي قاطع بيد هذه المعجزة الكبرى، حتى ألزمت الحجة أعداءها العنيدين وألجأتهم إلى الاستسلام، وإنها تقوم بوظيفتها بين يدي هذه الخزينة القرآنية من حيث كونها معجزة لمعاينة المعجزة على نحو تستطيع أن تنور القلب والروح والمشاعر، مناولة كلا منها علاجاتها الناجعة، ولا غرو فهي الداعية إلى هذا القرآن العظيم والمستفيضة منه وحده ولا ترجع إلا إليه".58 رحم اللّٰه النورسي وألحقه بالنبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

الخاتمة:

تقدم رسائل النور محددات جلية لإحياء ميراث النبوة، وتجديد وظائفها وبعث هداياتها لاستكمال بناء الإنسانية المؤمنة الموصولة بميثاق العبودية والمرتفقة للكون من أجل الارتقاء بالحياة الاجتماعية إلى حيث طلب اللّٰه الواحد.

وهي تعيد رسم الطرائق الفريدة لورثة النبوة من أجل تبليغ أفضل للوحي، تبليغ يتغيا بناء الإيمان الطوعي الخلاّق للسلوك القويم الذي يحاصر آفات الإلحاد ونكد المادية وضمور التدين. ولا يتم ذلك إلا بتوسّل مكنونات الأسماء الحسنى، والإفادة من سير الأنبياء، والغوص العميق في منتج معجزاتهم، والاقتراب من منابع العصمة وملكات الحفظ الرباني باستصحاب الإيمان الراسخ وترك اليأس والمثابرة الدائمة للارتقاء في سلم الهدي النوراني.

كما تحذر رسائل النور من الطرائق القدد في الانحراف عن مناهج التبليغ النبوية، والتي أورثت عديد الحركات والجماعات عجزا دائما عن إنفاذ الغايات الأساسية للنبوة، وعادت على الجهود بالبوار، ومكّنت لليل الشياطين من أن يطول في حياة المسلمين.

* * *

الهوامش:

1 قسم العقائد والأديان، جامعة الجزائر1.
2 أنموذج ذلك كتاب تبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي (ت حسين أتاي، شعبان علي دوزكون) أنقرة، نشريات الرئاسة الدينية، تركيا،2003. ج 2 ص14 / البغدادي عبد القاهر: أصول الدين، إسطنبول، مطبعة الدولة، 1928.ص 153.
3 النورسي بديع الزمان: الكلمات (ت إحسان قاسم الصالحي) ط 3، إسطنبول، دار سوزلر، 1998.ص 254.
4 ابن الهمام الحنفي: المسامرة شرح المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة الجامعة لاصطلاحات السلف والماتريدية والأشاعرة (ت كمال الدين قاري ، عز الدين معميش) ط 1، صيدا ،المكتبة العصرية، 2004.ص 186 / الباقلاني: تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (ت عماد الدين أحمد حيدر)، ط 3، بيروت، مؤسسة الكتب الثقافية، 1993. ص126/ النسفي: التبصرة ج 2 ص 22.
5 التفتازاني: شرح المقاصد (ت عبد الرحمان عميرة)، ط 1، بيروت، عالم الكتب، 1989 . ج 5 ص 6.
6 النسفي أبو المعين: التمهيد لقواعد التوحيد (ت حبيب اللّٰه حسن أحمد) ط 1، القاهرة، دار الطباعة المحمدية، 1986.ص 231.
7 الرازي فخر الدين: محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (ت طه عبد الرؤف سعد) ط 1، بيروت،دار الكتاب العربي، 1984.ص 302.
8 الغزالي أبو حامد: المنقذ من الضلال (ت محمد محمد جابر) بيروت، المكتبة الثقافية، د، ت. ص56.
9 السنوس: أم البراهين-العقيدة الصغرى- بشرح الدسوقي. بيروت، دار الفكر، د، ت.ص 173. اللقاني: جوهرة التوحيد، بشرح الصاوي، القاهرة، دار الإخاء، 1980.ص 181-185.
10 عمار جيدل: حقيقة مقاصد رسائل النور. ط1، القاهرة، دار النيل، 2005.ص 129.
11 النورسي بديع الزمان: الكلمات، (الكلمة10) ص 52
12 الكلمات ص 63.
13 الكلمات ص 62.
14 الكلمات ص 62.
15 الكلمات ص 63.
16 العجلوني إسماعيل بن محمد: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس (ت أحمد القلاش)، ط4، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1985.رقم2016.ج2 ص 173.
17 الكلمات (كلمة20) ص279.
18 الكلمات. (كلمة19) ص257.
19 الكلمات (كلمة 10) ص63.
20 انظر النورسي بديع الزمان: صيقل الإسلام (ت إحسان قاسم الصالحي) ط3،إسطنبول، دار سوزلر،1998.ص433.
21 صيقل الإسلام ص452.
22 النورسي: الشعاعات (ت إحسان قاسم الصالحي)ط3، إسطنبول، دار سوزلر،1998.ص18.
23 الكلمات( كلمة20) ص282.
24 النورسي: الكلمات ص292.
25 عمار جيدل: حقيقة مقاصد رسائل النور ص155.
26 النورسي: اللمعات (ت إحسان قاسم الصالحي) ط3، إسطنبول، دار سوزلر،1998.ص568.
27 انظر الكلمات (كلمة4) ص15-17..
28 اللمعات ص567/الكلمات ص119
29 الكلمات ص107.
30 مقاصد القرآن الكريم عند النورسي.
31 النورسي: اشارات الإعجاز في مظان الايجاز (ت إحسان قاسم الصالحي) ط3، إسطنبول، دار سوزلر،.1998.ص240.
32 النورسي: المثنوي العربي النوري (ت إحسان قاسم الصالحي)، ط3،، إسطنبول، دار سوزلر،1998.ص303.
33 الكلمات (كلمة 10)ص119.
34 انظر الكلمات (كلمة33) ص790.
35 الكلمات (كلمة15) ص204.
36 في العصمة انظر الآمدي: أبكار الأفكار في أصول الدين ج4ص143.
37 اللمعات ص80. والحديث الطبراني الأوسط رقم 5746، والبيهقي في الزهد الكبير رقم458. وأورده الألباني في الضعيفة برقم 326. وفيه مقال في سنده ولكنه حسن بشواهده مثل حديث بلال بن الحارث : " من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي اللّٰه ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا" سنن الترمذي: كتاب العلم رقم 2686.
38 اللمعات (11) ص87.
39 النورسي: المكتوبات (ت إحسان قاسم الصالحي)، ط3،،إسطنبول، دار سوزلر،1998. ص581.
40 النورسي: المكتوبات ص581.
41 اللمعات ص 536.
42 الكلمات ص 261.
43 انظر المكتوبات ص 271.
44 الكلمات (كلمة20). ص 289-290.
45 المكتوبات ص 261.
46 المكتوبات ص 261.
47 عمار جيدل: ماهية الإنسان من خلال رسائل النور.ط1، إسطنبول، شركة نسل، 2001. ص 58.
48 المكتوبات ص 414.
49 رواه ابن عبد البرفي التمهيد 1ص 59
50 انظر اللمعات ص 184.
51 اللمعات ص 231.
52 عمار جيدل: ماهية الإنسان من خلال رسائل النور، ص 47
53 انظر الكلمات ص 360.
54 انظر الكلمات، ص 375.
55 صيقل الإسلام، الخطبة الشامية ص 505.
56 صحيح مسلم: كتاب البر رقم 2623/ سنن أبي داوود: كتاب الأدب رقم 983.
57 انظر الكلمات ص 525.
58 الكلمات ص 173.


 

أرشيف ملف العدد

11 - وقفات مع بعض عناصر القوة المعنوية
. التزكية وتدبير الخلاف وأثرهما في وحدة الأمة عند سعيد النورسي
. العناصر الفكرية والفنية والنفسية في منهج الأستاذ النورسي في التفسير
. العمل الإيجابي ومنزلته في دعوة النور
. مقومات المجتمع الإنساني الآمن من منظور رسائل النور
. إحياء الأخلاق في الممارسة السلوكية عند النورسي
. مناهج التبليغ عند ورثة النبوة من منظور رسائل النور
10 - عنوان الملف: الأخلاق والوراثة
. المجاهدة والتوريث عند النورسي
. أواصر العناصر الكونية من منظور الأستاذ النورسي
. قاعـدة "الفنـاء في الإخـوان" في فكر بديـع الزمـان
9 - المقاصد في رسائل النور
. أساسيات منهج الفكر المقاصدي عند النورسي
. المقاصد القرآنية في فكر النورسي
. مقاصد القرآن من خلال رسائل النور
8 - أسرار العبرة والتعبير في رسائل النور
. منهج النورسى في شرح أسماء الله الحسنى
. نحو رؤية جديدة للدلالة النفسية لأسلوب التكرار في القرآن الكريم
. التاريخ عند بديع الزمان سعيد النورسي دراسة في التمثل والتفسير
. قواعد في تفسير القرآن عند النورسي من خلال إشارات الإعجاز
7 - النورسي والتصوف
. النورسى ورؤيته للتصوف المعاصر
. نظرات في الأدب الصوفي عند النورسي
. بديع الزمان سعيد النورسي والتصوف
. أهمية روحانية النورسي المتبصرة في عالم مادي متأزم
6 - دعوة رسائل النور
. دعوة رسائل النور: هل هي حركة؟ أم جمعية؟ أو جماعة؟
. المنهج العوفي وإعلاء كلمة الله عند بديع الزمان
. التبليغ والارشاد في رسائل النور
. العمل الإيجابي القاعدة الثابتة لعمر مديد
. المرأة الإصلاحية في فكر الشيخ النورسي
5 - الرؤية الحضارية في رسائل النور
. من الأسس الفكرية والحضارية في رسائل النور
. البعد العقدي لبنية الإنسان في فكر النورسي
. منهجيّة الاهتمام بعبادة التّعمير، سؤال استعادة الأمة وظيفة الشهادة عند الأستاذ النورسي
. الرؤية الحضارية من خلال رسالة الاقتصاد
. قراءة تحليلية في النظرة النورية إلى المسألة الغربية
4 - أسس التربية في رسائل النور
. تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي
. المقاصد العملية للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
. منهج التربية عند النورسي
. من ملامح التربية السلوكية عند النورسي
. الحكمة وفصل الخطاب في منهج التربية عند النورسي
3 - أسس التربية في رسائل النور
. القرآن العظيم مصدراً للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
. التربية السلوكية عند النورسي
. الأبعاد التربوية لدرس العقيدة عند النورسي
. التجرد ونبذ الأنانية عند النورسي
. بديع الزمان سعيد النورسي ومشروعه الإصلاحي في التربية والتعليم
2 - التعليم في رسائل النور
. كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان
. الخلفية البراديغمائية لأزمة البيئة والتوجه العلمي الكوني عند النورسي
. موقع نظرية العلم في عملية الاستخلاف والتحضر عند النورسي
. التعليم طريقا للتحضر، قراءة في رسائل النور
1 - المنهجية في رسائل النور
. منهج النورسي في إحصاء أسماء الله الحسنى
. عالم الغيب في المنظور النورسي
. منهج النورسي في التعامل مع الأسماء الإلهية الحسنى
. مقاصد الحياة وغاياتها في فكر سعيد النورسي من خلال رسائل النور
. المنهج الواقعي في دراسة قضايا الإيمان رسائل النُّورْسي أنموذجا

النور للدراسات الحضارية والفكرية
 المركز الرئيسي:  

Kalendarhane Mah. Delikanli Sk. No: 6
Vefa 34134 Fatih - Istanbul / TURKIYE
 Phone: +90 212 527 81 81 - Fax: +90 212 527 80 80