
حوار مع الأستاذ الدكتور فارس قايا
مدير مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم
السؤال الأول: بصفتكم مديراً لمؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم، نرجو من سيادتكم تعريفاً موجزاً بها.
تأسست مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم عام 1979 من قبل مجموعة من رجال الأعمال والصحافيين وخريجي كلية الإلهيات والكتّاب بغية القيام بنشاطات علمية وأكاديمية، واجتماعية وثقافية. ومساندة القائمين بمثل هذه الفعاليات، والتعاون مع الأشخاص والمؤسسات التي لها اهتمام بالفعاليات العلمية في جميع المجالات. وكان من بين المؤسسين طلاب الأستاذ بديع الزمان الذين خدموه في حياته وقاموا بخدمات النشر بعد وفاته. وقد قامت منذ أن تأسست وإلى يومنا هذا بفعاليات كثيرة توافق مقاصد تأسيسها داخل وطن المنشأ(تركيا) وخارجه. وساند آلافٍ من الشباب إنشاء مساكن لإيوائهم وتقديم المنح الدراسية لهم لاستكمال تعليمهم ودراستهم الجامعية، ويعدّ نشر منهج الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي وفلسفته الفكرية في الداخل والخارج قاعدة تأسيس المؤسسة، بقصد مساندة إنقاذ إيمان الإنسانية وتقويته، والمساهمة في تأمين السلام والأمان في جميع ربوع العالم.
السؤال الثاني: ما الإرهاصات الأولى لفكرة نشأة المؤسسة؟ وما دور الذين تتلمذوا على الأستاذ في بلورة فكرة المؤسسة؟
من المعلوم قبل تأسيس الوقف (المؤسسة) كانت هناك تحرشات ظالمة برسائل النور. وكان نشر رسائل النور وشراؤها من الممنوعات الى درجة ما. فتأسس الوقف لكسر هذا الحظر وهذه المعاملة الجائرة والدفاع عن حقوق الرسائل في جو قانوني مشروع. حيث كان هناك عهد ضغط واستبداد لم يسبق له مثيل على رسائل النور، فقوبل بصمود كبير. فشدد عليهم الخناق برغم من ابتعادهم عن كل ما من شأنه مخالفة القوانين الجارية بها العمل أو إثارة ما يكون مظنة ضرر على الحياة الاجتماعية والعامة.
وكانوا يبذلون في ظل هذا الوضع كل ما في وسعهم في خدمة رسائل النور قراءة ونشرا بين الناس في الداخل والخارج. وقد اكتسبت رسائل النور بفضل الفعاليات العلمية العلنية حضورا وانتشاراً وقبولا في الأوساط الأكاديمية بفضل تأسيس الوقف، الذي ساهم بشكل وافر في التعريف بها في كل البلدان تقريبا.
السؤال الثالث: ما بواكير النشاطات العلمية التي باشرتها المؤسسة؟ وإذا تفضلتم بذكر أسماء بعض الشخصيات التي استضافتهم المؤسسة.
أول ما باشرت به المؤسسة عقد اجتماعات علمية عالمية داخل تركيا وخارجها. شارك في تأطير أشغالها ثلة من الأكاديميين من الداخل والخارج، فكانت تلك هي أول مرة يبدأ فيها التعريف برسائل النور ومناقشة مضمونها. وأعقبت هذه الاجتماعات الاهتمام البحثي الجامعي، فسجلت مشاريع بحثية عن رسائل النور لنيل الدكتوراه والماجستير، فوفّرت فرصة الاجتماعات للمشاركين الجو المعرفي المطلوب لإنجاز مقالات وكتب عن رسائل النور، وتزامن هذا الجهد مع تقديم برامج عنها في مختلف وسائل الإعلام. وكانت هذه الجهود من أوائل مراحل التعريف بالأستاذ النورسي وأفكاره للمشاهدين والمستمعين في الإذاعة والتلفزيون.
استقطبت أوائل اللقاءات العلمية كثيرا من أعلام العالم الإسلامي، منهم: العلامة الأديب أبو الحسن علي الحسن الندوي، الاستاذ الدكتور عبد الودود شلبي، حسين عاشور، أحمد بهجت كاتب في صحيفة الأهرام، محمد عمارة، عبد الحليم عويس، عمار جيدل، فريد الأنصاري، عشراتي سليمان، طه عبد الرحمن، أنيس أحمد، ياسين محمد وأمثالهم كثير من رجالات العلم الموقرين والأكاديميين المحترمين الذين بدأوا بدراسة وتحليل رسائل النور، وألّفوا حولها ما يقرب من 150 كتاباً باللغة العربية، أما المقالات، فلا تكاد تحصى عدا.
واستضافت من العالم الغربي عددا غير قليل من الباحثين المميزين، منهم على سبيل المثال: توماس ميشيل، كولن تورنر، دافيد لوو، جان ماركهام، ديل أيكلمان، جانا سميث، كريث جونس، شريف ماردين، له و دفابور، لوكينده موشر وأمثالهم كثير من الأكاديميين الغربيين الذين ألّفوا كتباً فردية وأخرى جماعية في شكل مقالات عن رسائل النور والأستاذ سعيد النورسي. وقد نشرت في Suny Press و Ashgate press و Oxford Press و Gerlash Publishing وأمثالها من دور النشر كتباً حول الأستاذ النورسي وأفكاره. ثم ترجمت هذه الكتب إلى لغات شتى، فمثلاً ترجم (الإسلام في تركيا الحديثة، سيرة حياة النورسي) المنشور في Suny Press الى اللغة الروسية والألمانية والعربية والفارسية والأردية والمالايا وغيرها من اللغات.
السؤال الرابع: لا شك أن لرسائل النور حضور كبير في الفضاء العربي، فما الجامعات العربية التي استضافت نشاطات علمية ذات صلة بالموضوع، ومتى كان ذلك؟
لقد عقد أول مؤتمر عالمي في تركيا سنة 1991 اشترك فيه أكاديميون من الجامعات التركية واستمر المؤتمر لمدة ثلاثة أيام. وكان المؤتمر رائعاً بكل معنى الكلمة.
أما في سنة 1992 وما بعدها فقد اشترك أكاديميون جامعيون من مصر كالأزهر الشريف والزقازيق وعين شمس والمنوفية، ومن المغرب الرباط والدار البيضاء ووجدة وتطوان وفاس ومكناس واغادير وغيرهم كثير، ومن مختلف الجامعات الجزائرية، منها جامعة الجزائر وباتنة وأدرار وقسنطينة ووهران، ومن جامعات الأردن وجامعات كل من اليمن ولبنان وسوريا والعراق وإيران والهند والباكستان وماليزيا واندونيسيا... وغيرها كثير من الجامعات العالمية في البلاد العربية والأعجمية والغربية. فكانت الفرصة مواتية لتنوع الرؤى ومسالك المعالجة والتثاقف المعرفي والمنهجي.
السؤال الخامس: رافق الحضور في الجامعات الغربية استضافة الرسائل في البلاد العربية والشرقية عموماً، فما الجامعات التي كان لها السبق في هذا المجال.
هناك كثير من الطلبة المسلمين وغير المسلمين قدموا دراسات حول الأستاذ سعيد النورسي في جامعات انكلترا والولايات المتحدة الامريكية وغيرها كثير من جامعات بلدان العالم الغربي. وقدّم هؤلاء الأكاديميون أبحاثهم في مؤتمرات عقدت في كثير من جامعات العالم. وعلى سبيل المثال يشترك اكاديميون من كندا من جامعة مونتريال وجامعة ألبرتا، ومن امريكا من جامعة جورج تاون وجامعة كاثوليك وجامعة وتس هارتفورد في ولاية كنتاكي، وجامعة نيويورك، وجامعة دارتموث، وجامعة يوتا، ومن انكلترا من جامعة دورهام، وجامعة مانشستر، وجامعة كريست جورج، ومن المانيا جامعة بون، وأيضا ً من فرنسا وبلجيكا وهولندا، والسويد وإيطاليا وأمثالها كثير من جامعات البلدان الغربية.
السؤال السادس: لاحظنا اهتماماً بحثياً كبيراً برسائل النور في الجامعات الغربية والشرقية، فبم تفيدون في هذا المجال؟
في البداية لم تكن رسائل النور لمصنفها سعيد النورسي تجلب إليها الأنظار، أو بالأحرى كان الإعلام والأوساط الأكاديمية تولي اهتماماً للمسائل السياسية والاجتماعية الدولية، فتولي اهتماما بالحركات التي اصطدمت بحكومات بلدانهم أو التي من المحتمل أن تقع في ذلك، وكذا الاهتمام بالفئات المهتمة بالجوانب السياسية، لذا لم تكن تهتم بالنورسي كثيراً. فتقاعس الإعلام والأوساط الأكاديمية عن الاهتمام بها، كما قد يعود إلى تأخر تبني التعريف برسائل النور في الوقت المطلوب. وبمرور الزمن بتوفيق من الله ثم بجهود المخلصين جذبت رسائل النور إليها الأنظار بتأثيراتها العميقة والمستدامة على تنمية المجتمع معنويا والدفع إلى النمو المادي من خلال المساهمة بالحلول المسالمة الفعّالة، فبادرت لا سيما الأوساط الجامعية القيام بالأبحاث العلمية والأكاديمية حول رسائل النور. ولقد كان للمؤتمرات العالمية التي عقدت في تركيا وخارجها تأثير إيجابي كبير في مختلف جانب الحياة العامة.
سارع الأكاديميون المساهمون في هذه المؤتمرات إلى تشجيع الطلبة على دراسة رسائل النور وتقديم بحوث لنيل الدكتوراه والماجستير عنها في جامعاتهم. فأجلوا بجهودهم للأنظار أهمية رسائل النور وعمقها، وارتفعت وتيرة هذا المسعى مع مرور الزمن، فانتشرت المؤتمرات على نطاق واسع وبسرعة فائقة، وكان من نتائجها تعدد النشاطات الأكاديمية وتنوعها. وبهذا الصدد نسجل أنّ هناك أكثر من 200 رسالة أكاديمية بعضها أنجز، وبعضها الآخر قيد الإنجاز، لأجل نيل الدكتوراه أو الماجستير.
السؤال السابع: ما دور رسائل النور وطلابها في التطور المعرفي والاستقرار الاجتماعي في تركيا؟
تأثير تيار طلاب النور عميق في المجتمع من حيث الأخلاق والاستقرار والوقار من خلال اهتمامهم بتربية النفس وتطوير الأخلاق الشخصية المستندة على العلم والمعرفة من أضيق دوائرها إلى أوسعها. ويشتغل طلاب النور بالتفكير في أنفسهم وإصلاحها بدل الانشغال عنها بعيوب الآخرين. ويحاولون التخلص من نقائصهم وتعديل أخطائهم عوض نقد غيرهم. وهذا يولّد بطبيعة الحال الاجتماع حول القيم المشتركة والاتفاق عليها في المجتمع، وهذا ما يُعبّر عنه بثقافة العمل الإيجابي والحركة الايجابية بقصد استقرار المجتمع.
يشتغل طلاب النور بما يكون نفعه متعديا، فيشغلون أنفسهم عن نقد الآخرين في المسائل الدينية والاختلافات السياسية والفكرية بنشر محاسن أفكارهم. فيغلقون بهذا الاسلوب الطرق المؤدية الى الاختلاف وعدم الاستقرار والتنافر. وقد أوصى الأستاذ النورسي طلابه في آخر رسائله التي كتبها إليهم حول منهاج الخدمة على (الحركة الإيجابية) والعمل على أساس حب مسلكهم، وحذّرهم عن نقد الآخرين دوماً.
السؤال الثامن: هل يمكن الحديث عن دور رسائل النور في الرؤية الحضارية والتربوية والسياسية؟
يتضمن هذا السؤال ثلاثة أسئلة متداخلة. لذا لو سمحتم سيكون جوابي عنها طويلة الى حد ما.
الحضارة:
يختلف مفهوم الحضارة في رسائل النور عن النظرة الحضارية التحليلية بالمعنى الكلاسيكي اختلافاً كبيراً. وعموماً عند ذكر الحضارة يكون القياس فيها بحسب التطورات التكنولوجية والعمارات الشامخة والطرق السريعة، والمواصلات وغيرها من الأمور المادية. وموازياً لذلك يتبادر الى الذهن الدخل القومي والتصنيع والآلات المذهلة في عالم الترفيه والمفاهيم. بينما يقدم النورسي الحضارة من زاوية نظر مخالفة للمألوف، فيركّز في كثير من رسائله على الموضوعات والمفاهيم. فيميّز بين قسمين من الحضارة، أولاهما حضارة قرآنية مستندة إلى الوحي، وحضارة فلسفية مستندة إلى العقل. لهذا تناول الحضارة من حيث العلاقة المطلوبة والموجودة بين الإنسان والمجتمع والشيء والدنيا والكون والوجود.
يقارن الأستاذ بين الحضارتين في (الكلمة الثالثة عشرة) و(الكلمة الخامسة والعشرين)، فيذكر فيهما أنّ الحضارة المستندة إلى العقل فقط تتخذ القوة أساساً لها. فالقوي هو المحق. لذا يجب أن تصرف المساعي والهمم كلها لأجل الحصول على القوة. ويجب الحصول على القوة والمال والسلاح مهما كلف الأمر. فالهدف هو المنفعة، والبقاء لديها مرتبط بالصراع ومجادلة الآخرين. فالحياة عند أصحاب هذا التصور للحضارة جدال وصراع. لذا يسعون لكسب عناصر القوة لأجل الصراع. والعلاقات الاجتماعية عندهم أساسها العنصرية. وترى جميع أنواع الملذات والهوى والطيش ثماراً لها.
أما الحضارة القرآنية المستندة إلى الوحي: فهي تستند على الحق بدلاً عن القوة، وتتخذ الفضيلة وطلب مرضاة الله أساساً لها بدل المنفعة، وترى أنّ الحياة لا تقوم على الصراع والجدل بل تقوم على التعاون. ولأجل ذلك تتخذ العلاقة الدينية والوطنية أساساً في العلاقات الاجتماعية بدلاً عن العلاقة العنصرية. وتولي الترقي المعنوي والحياة الباقية أهمية عظمى. وحُقَّت لها هذه الأولوية لأنّ شأن الحق الاتفاق بينما شأن القوة التجاوز. وعندما تكون المنفعة هدفاً فلا مهرب من الخصام لعدم تلبية رغبات الكل من حيث المنفعة. وفضلا عن ذلك فإنّ العنصرية تحاول القضاء على الآخرين، فيتولّد عنها كثير من أنواع الشجار والصدام في المجتمع.
الحضارة القرآنية التي يتبناها النورسي، يكون الحق نتيجته الاتفاق والفضيلة، والفضيلة من شأنها التعاون، والتعاون من شأنه إسعاف الآخرين. والخلاصة: يملك النورسي تصوراً للحضارة يأخذ الاتفاق والتآزر والتعاون والأخوة وأمثالها من الخصال السامية أساساً للحصول على سعادة الدارين وهذا ما يسميه بالحضارة القرآنية.
التربية:
يفكر الأستاذ النورسي بالتربية والتعليم معاً، ويشكل تربية النفس أساس أفكاره في العلم والتربية. ولا يؤيد الفصل بين علوم الشريعة والعلوم الصرف. فعلوم الشريعة نابعة من صفة الكلام الإلهي، بينما العلوم الصرف مرتبطة بالكون وهي نابعة من صفة القدرة الإلهية. ويتناول النورسي جميع العلوم المشار إليها لأجل فهم وتعريف أسماء الله الحسنى وصفاته الجليلة. ويؤكّد على أنّ قابلية التعلّم وفهم الأسماء عند الإنسان مستندة إلى أبيه آدم عليه السلام، بمعنى أنّها من أصل الخلقة (الفطرة). ومن المعلوم أن مسألة تعليم الأسماء وفهم العلوم والحصول على التربية مهمة لدى الأستاذ النورسي. وفي هذا المقام، قال (رحمه الله): (أعداؤنا ثلاثة: الجهل والاختلاف والفقر) ويستشف من هذه العبارة ما يوليه من عناية لفهم وإدراك العلوم. ولا يكتفي بهذا الحد بل يؤيد استناد العلم الى العقل والقلب معاً، ووجوب النظر إليه بالمعنى الحرفي. وإلا لا يتمكن الإنسان من أن يرتقي إلى مرتبة (أحسن تقويم) بالعبارة القرآنية. فهو يؤمن أن المجتمع السليم يتشكل من أفراد سليمين. وعندما يقول أنّ الإنسان يرتقي بالعلم والمعرفة يقصد بها فضلا عما سبق العلوم الإيمانية والروحية، ويؤكد أن سلطان العلوم هي العلوم الإيمانية.
السياسة:
كلمة خطيرة. ينبغي عند السؤال عن مفهوم السياسة عند النورسي تحري الدقة دوماً. وذلك أنّه اشتهر بمقولته (أعوذ بالله من الشيطان والسياسة) والتي قد تفهم في كثير من الأوقات بصورة خاطئة أو مغرضة. لقد أطلق النورسي مقولته هذه في عصر انحطاط الدولة العثمانية، عندما رمى أحد المتدينين المنسوبين إلى حزبٍ، المنتمين إلى حزب آخر -بالرغم من إخلاصهم للدولة العثمانية- باتهامات خطيرة. وهذا أوجب من الأستاذ التعليق على الوضع الجديد، متوجها بتلك المقولة إلى أهل هذا العصر قائلاً: مَن رجح رجلاً سيئاً في حزبه على رجل صالح في حزب معارض فينبغي الاستعاذة بالله من مثل هذه السياسة. وهنا ينبغي السؤال كيف تجري السياسة الحاضرة اليوم. والذين يدخلون أو لا يدخلون ضمن هذا التعريف.
وهناك أمر آخر ألا وهو أن النورسي يمنع منعاً باتاً السياسة لمَن يريد أن يتخذ خدمة الإسلام دعوة له. فهو يرى أن السياسة أمر دنيوي قد تصدر منه مجموعة من الأغلاط، والسياسة تحتمل الأخطاء ولكن الدين لن يتحمل الأخطاء بتاتاً. فهو يبين أنّ الحكمة الإلهية وراء المصائب والبلايا التي أصابت أهل البيت كانت لأجل منعهم من القضايا السياسية وتهيئة أرضية كي يقوموا بخدمة القرآن الكريم في المستقبل بشكل صاف وطاهر من كل دنس. ويفيد أن الدخول بالسياسة باسم الدين يُحمّل الدين أخطاء الأشخاص المنتسبين إليه، ويزيد من احتمال إبعاد الناس عن الدين أكثر فأكثر. سيما في هذا الزمان الذي ضعفت التربية الإسلامية وازدادت نسبة الأخطاء في الحياة الاجتماعية. ويوجّه الأنظار إلى سهولة العثور على كثير من الأشخاص العاملين في السياسة والحياة الاجتماعية، إلاّ أنّه من الصعوبة العثور على العاملين في خدمة الإيمان والقرآن. فيبين صعوبة الاشتغال بالسياسة وأهمية العمل في خدمة الإيمان والقرآن. ويؤكد على خطورة احتمال جعل العاملين في السياسة الدين آلة بيد الساسة في بعض جوانبها. إلا أنّ خدمة الدين من الخارج دون الدخول في السياسة، والقيام بإرشاد السياسيين باستمرار قد يزيد من احتمال جعل السياسة في خدمة الدين. وخاصة قد منع طلابه الدخول في السياسة، وقد رجّح وأيّد من بين الأحزاب الأحزابَ العاملة على أحسن وجه لأجل الإنسانية والدين واعتبرهم أهون الشرين.
السؤال التاسع: كيف تعرّفتم على رسائل النور؟
لا زلتُ اعترف أنني لم أتعرف على رسائل النور بحق بعد. فأسأل الله القبول وأن يمنحني إمكانية الاستفادة منها. وأنا مداوم على قراءتها والتعرف عليها بعمق.
وإن كنتم تسألونني عن تعرّفي عليها لأول مرة، فقد كان ذلك في الحياة الجامعية بواسطة أصدقائي عندما انتسبت إلى الجامعة سنة 1972، وإن كنت قد سمعت عنها شيئا يسيراً في المرحلة الثانوية من دراستي.
السؤال العاشر: علاقة تخصصكم العلمي الجامعي برسائل النور، هل من علاقة؟
الحياة مليئة بالعجائب، لقد اخترت اختصاصي في هندسة المكائن، ودرست أربع سنوات ثم أتممت الماجستير والدكتوراه وباشرت كعضو هيئة التدريس في الجامعة لمدة خمس وعشرين سنة. ثم اقتنعت كإنسان على ضرورة فهم الدين، والقيام بتطبيقه، حتى سلب مني العمل في الوقف قلبي. وبعد مدة بدأ يصعب عليّ القيام بالعملين معاً فرجحت العمل في الوقف وتقاعدت عن عضوية هيئة التدريس. والآن أعمل وأدرس في الوقف متفرغاً ومتطوعاً.
وكما يقال إن للناس مجالين مجال الاهتمام ومجال التأثير. ويبدو أن مجال اهتمامي كان في الموضوعات الاجتماعية، فقد حاولت أن أكون مؤثراً في مجال الهندسة، ولم أستطع، فرجحت مجال الاهتمام على مجال التأثير.
السؤال الحادي عشر: بعد الجولات في الغرب والشرق ما الذي استوقف الباحثين في رسائل النور وهل كان لها ذات الصدى الذي كان عندكم عنها؟
ربما يكون السؤال صحيحاً عند القول عالم الإسلام وعالم غير الإسلام بدلاً عن الغرب والشرق. وقد استنكف عالم الإسلام بداية أمره شيئاً ما، ببقائه تحت تأثير بعض التيارات. حتى بخسوا الأستاذ حقه بالقول أنّه كان صوفيا. إلا أنهم فهموا أهمية رسائل النور فيما بعد من خلال الترجمة العربية والمؤتمرات والندوات وغيرها. وأيضاً رأوا الحركات السياسية وشاهدوا ما يمكن أن تسببه من فوضى وعنف، فأدركوا قيمة المنهج الإصلاحي المستند على أساس الإيمان وأهميته. وقد بدأ الأكاديميون في العالم الإسلامي يولون الأهمية في الآونة الأخيرة على مفاهيم كثيرة من أمثال القرآن والتربية والنبوة والأخلاق والعلاقات مع الأديان الأخرى والسلام والجهاد المعنوي وغيرها من المفاهيم. أما العالم الخارج عن نطاق الإسلام فإنهم يعيرون السمع لصوت النورسي الداوي بالإيمان وخاصة يبهرون أمام سعة معرفته بالله وتعريفه إياه. ويسعون لمعرفة الله والدين والدنيا والآخرة من منظور النورسي. وحتى إنهم يوسعون دائرة هذا المفهوم بقولهم: لابد أن يكون لكل دينٍ نورسياً. ولكون النصرانية لا تملك نورسياً فهم يقرأون النورسي لأجل التعرّف على الله والقيم الإلهية بعمق أكثر. هذا ما يعبرون عنه في كتبهم ومؤلفاتهم.
السؤال الثاني عشر: ما أساليب العناية برسائل النور من ناحيتي المنهج والموضوع؟ وإن قلتم ما هو منهج رسائل النور بجملة قصيرة؟
نقول: الحركة الإيجابية البناءة؛ أي صرف الوقت لإفهام الناس الصحيح والحسن بدلاً عن الاشتغال بِتعداد أخطائهم، وهذا يفرض أسلوبا لينا يبتعد عن الأساليب القاسية الهدّامة. والكلام عن الحسن والجميل والصحيح دوماً. وعدم صرف الوقت والنفَس في الكلام عن سيئات المسيئين؟ وعند الحصول على نفَس وإمكانية ينبغي صرفها في الحقائق الإيمانية كما ورد في رسائل النور. هذا هو أوضح أسلوب للحركة الايجابية. ومثل هذا الأسلوب يجلب أنظار القراء. وقد سئم الناس من المراء والجدال، ويبحثون عن جو يتنفسون فيه. والنورسي يمنح مثل هذا الجو.
أما بالنسبة للموضوعات التي تطرقت إليها رسائل النور، فكل أنواع الموضوعات موجودة فيها. وكل إنسان من أية فئة كان باستطاعته أن يجد موضوعاً يحل به مشاكله ومشاكل محيطه. ففي رسائل النور توضيحات حول السنة المطهرة ومعجزات الأنبياء ونماذج ممتعة حول طريقة فهم قصص الأنبياء بصورة أصيلة مطابقة لروح القرآن. وفي مقدمة هذه الموضوعات التوحيد والنبوة والحشر والعدالة والعبادة والملائكة والروحانيات، والإنسان وتربية النفس. ومواضيع حول الأطفال والشباب والشيوخ والنساء والمرضى. كما أن هناك موضوعات حول القدر والمسائل العميقة لعلم الكلام، والصحابة رضي الله عنهم، ورسالة المعجزات الأحمدية، ورسالة المعجزات القرآنية والطريقة الصحيحة لفهم كتاب الكون وكثير من الموضوعات الممتعة. فالرسائل تتشكل من 6000 صفحة. كما أن هناك الرسائل التي كتبها إلى طلابه أو كتبها طلابه إليه حول المسائل الدقيقة من الخدمة. وقد كتبت مثل هذه الرسائل أيام تأليف رسائل النور لأول مرة ومرحلة توسع دائرة النور ومرحلة انعكاسها على الحياة الاجتماعية. وحسب الترتيب كتبت رسائل ملحق بارلا 1926 - 1934 ورسائل ملحق قسطوني 1934 - 1943 ورسائل ملحق أميرداغ 1943 - 1960. وهناك المدافعات التي ترافع بها الأستاذ النورسي أمام المحاكم وهي جديرة بالقراءة ومليئة بالعبر، وهي وثائق تاريخية زاخرة بالأمثلة الإرشادية حول كيفية الخدمة في طريق القرآن والإيمان.
السؤال الثالث عشر: ماذا تعرفون عن مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية؟
مجلة النور مولود جديد أخرج رأسه للتو من التراب ليتفتح في حديقة النور. نسأل الله أن يجعله صاحب حظ، ويهب محرره القوة والمتانة. فهو في تقدم في كل عدد من أعداده باقات أزهار من رسائل النور، ويشكل وسيلة اتصال ورابطة نورانية بين المتحابين في طريق خدمة النور. وأنا على علم بالذين ينتظرون كل عدد من أعدادها بفارغ الصبر. كما أرى ان محتوياتها في توسع دائم، وبدأت بقبول المقالات، وأنا على ثقة إن حافظت المجلة على جديتها هذه وعلى مستواها الأكاديمي فسوف تبحث عنها كثير من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية.
ولادة مجلة ونموها ونشأتها واستمراريتها كما هي مرتبطة بالزمن فهي مرتبطة أيضاً بجديتها. أجل مجلة النور مجلة جادة إلى أقصى الحدود، وينبغي أن تكون كذلك.
السؤال الرابع عشر: ما السبيل إلى تطوير أحسن للمجلة، وما ينشر باللغتين التركية والانجليزية.
لست بناشر ولا اتقن مهنة النشر جيداً، إلا أنني أستطيع القول من هذا الجانب، الناس يهتمون بالجودة ويبحثون عن مجلة وكتاب يستفيدون منه. لذا ينبغي على مجلة النور إن أرادت أن تكون مجلة يبحث عنها الناس ويقبلون عليها، فعليها الاهتمام بجودة المقالات التي تنشرها. وينبغي أن تكون مراجعة المحكمين وتصحيحاتهم المقالات مستمرة، وتكون نتاج بحثٍ أصيل وتكون صاحبة ميزات نشر علمية مرتقبة من كل الجهات. وقد سارت مجلة النور منذ ولادتها حتى اليوم على نجاح. وآمل إن استمرت المجلة على هذا المنوال من الجدية سوف ترتقي خلال سنوات قليلة في أنظار أهل العلم والمعرفة الى مستوى مرموق وتكسب إقبال الجامعات عليها. نسأل لها التوفيق والنجاح دوماً.
السؤال الخامس عشر: بعد المؤتمر العاشر، ما الحصيلة، وما الملاحظات على الأوراق المقدمة في مجمل المؤتمرات منذ البداية الى المؤتمر الأخير؟
من المعلوم كان موضوع المؤتمر العاشر (النبوة). وقد اشترك رئيس تحرير المجلة في هذا المؤتمر، وشاهد الإقبال من جميع أنحاء العالم. وشاهدنا واقعياً أهمية النورسي ورسائله بالمعنى العام في موضوع النبوة وتفاصيلها وأبعادها. وقد لقى مفهومه للنبوة قبولاً من منتسبي بقية الأديان بوجه ما. حتى اعترف كثير من أكاديميي بقية الأديان سيما منهم النصارى بأنهم عرفوا نبيهم من خلال رسائل النور. وبالمعنى العام يمكن القول إن الأبحاث التي قدمت في المؤتمر قد أظهرت موضوعات النبوة في رسائل النور بأطرافها وأعماقها للأوساط. وإن لم تكن هذه الأبحاث بنفس العمق والمستوى، غير أنه من الممكن أنْ نقيّم مجموعها بالقول بأنها كانت ملاحظة مهمة على وجوه صفحات التاريخ.
وقد تمخّضت عن أشغال المؤتمرات والاجتماعات الدراسية المنعقدة في مختلف المراحل خارج تركيا وداخلها مئات المقالات والأبحاث والملفات الضخمة. تناولت مضمون الرسائل ودققت الأبحاث في قسم كبير منها. فشكلت هذه الجهود ثقافة واسعة حول رسائل النور ووعيا بها لدى الأساتذة والأكاديميين الشباب. ونشرت هذه المقالات في مختلف المجلات في تركيا وخارجها. وطبعت هذه المقالات أيضاً ضمن كتب بمختلف اللغات في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وانكلترا وألمانيا وكندا وغيرها من البلدان ونشرت كثير من دور النشر الغربية وفق ما أشرنا إليه في الإجابة عن الأسئلة السابقة. كما لها حظ وافر في العالم الإسلامي. ولا تزال أعمال مؤتمرات الهند وإيران وغيرها من البلدان قيد الجمع والترتيب أملا في تقديمها للقارئ في أسرع وقت ممكن.
السؤال السادس عشر: ما المكاسب وما النقائص، وبمَ توصون؟ وقد نظمت مؤسسة اسطنبول للثقافة والعلوم (ندوات الأكاديميين الشباب). فما النتائج المحصلة من هذه المؤتمرات؟ وما هي الجوانب الناقصة منها؟ وما تقترحون في هذا الخصوص؟
لقد كان اهتمام الأكاديميين الشباب نتيجة مرتقبة. إلا أن ارتفاع العدد إلى هذا الحد لم يكن متوقعاً بهذه السرعة. واليوم سعيد النورسي وآثاره موضع بحث في كل بلدان العالم. ولا يزال 200 شاب مستمرون في إتمام رسالتهم الجامعية. ونحن نسعى لجمع هؤلاء الشباب الأكاديميين بخبراء الموضوع من الأساتذة الكرام، لنعينهم في مستهل حياتهم الأكاديمية ونسعفهم لأجل إنجاز الأحسن والأفضل في ميادين البحث الأكاديمي. وبهذا الصدد نذكر أنّه عُقدت إلى حد الآن ست ندوات أكاديمية للشباب خلال السنين الست الماضية على شكل مجموعتين باللغة العربية والإنكليزية. والحقيقة كانت هذه الندوات ندوات مباركة. نوفّر للشباب فرصة استكمال رسائلهم الجامعية بعمق وأمانة. كما نقصد بهذه اللقاءات الحيلولة دون تكرار المشاريع المقدمة لنيل الماجستير أو الدكتوراه. ونأمل أن تصل هذه النشاطات خلال سنوات قليلة الى مستوى راق ومرموق، وتثمر دراسات عميقة وكثيرة حول رسائل النور.
السؤال السابع عشر: عود إلى التاريخ، مَن مِن الشخصيات التي التقت النورسي، وبقيت تحمل همّ البلاغ بثبات وفق مسلك الأستاذ نفسه؟
كان لكثير من الناس علاقة وصلة بالأستاذ النورسي عندما كان على قيد الحياة، وقد أيّدوا خدمته وناصروا دعوته. أو بالأحرى تأثر به كثير من الناس الذين احتكوا أو التقوا به، ونالوا منه عشق خدمة القرآن والإسلام والإيمان. إلا أن الذي نذر حياته لخدمة الأستاذ ورسائل النور واستمر عليها قليل، ومن هؤلاء الذين خدموه في حياته وتوفوا من بعده: زبير كندوز آلب، طاهري موطلو، خسرو آلتنباشاق، مصطفى صونغور، خلوصي يحيى كيل، بيرام يوكسل، بكر برق، عبد القادر بادللي وغيرهم. والذين خدموه في حياته ولا يزالون على قيد الحياة هم: عبد الله يكن، حسني بيرام، سعيد اوزدمير، محمد فرنجي، أحمد أيتيمور، رأفت قاوقجي، علي جقماق، ومحمد قرقنجي وأمثالهم. وقد خدم قسم من هؤلاء الطلبة الأستاذ بالذات وقسم قد زاروه في حياته واستمروا على الخدمة من بعده. ولم يجد كل هؤلاء الطلبة الفرصة على نفس المستوى ليخدموه بالذات. ومع هذا هناك كثير من طلبة النور رغم أنهم لم يتعرفوا عليه في حياته بل تعرفوا على رسائله من بعده إلا أنهم قد خدموا أو لا يزالون يخدمون رسائل النور بكل عزم وهمة. والأستاذ يقول أصلاً رؤيتكم أياي ليس بشرط. بل يعد كل من يرتبط برسائل النور سواءً من الذكور أو الإناث باقتناع من خلال قراءته ولو رسالة من رسائل النور طالب نور.
السؤال الثامن عشر: الجواب السابق يؤكد أن للأستاذ مسلكه الخاص في البلاغ والموقف من التزاحم الفكري والسياسي والاجتماعي. فما أهم ميزات منهج الأستاذ النورسي؟
ليست رسائل النور ونظام الدرس والمدرسة التي وضع أسسها الأستاذ النورسي بموازين دقيقة وعاشها في حياته ورعاها طلابه حق رعايتها أمراً بسيطاً. بل هي بالمعنى العام حركة تجديد قرآنية وإيمانية، لها علاقة بالإنسانية ولها تأثير على أبعاد كثيرة ومختلفة. ويمكن القول إنها نهج نابع من القرآن والسنة على ديمومة الهدي النبوي صلى الله عليه وسلـم في ارشاد البشرية حسب شروط ومتطلبات الزمان. ومن المعلوم أن رسائل النور تفسير لمفاهم القرآن الكريم ومعانيه، أهم أهدافها تقوية الإيمان وإثباته. وتتشكل رسائل النور من الموضوعات الإيمانية والمحاكمات والمدافعات ومن اللواحق. ففي الموضوعات الإيمانية يستفاد منها كيفية خدمة القرآن والإيمان بالحقائق القرآنية. أما تفاصيل دقائق الخدمة فقد وضحت في الملاحق. والمدافعات يهب لأهل الخدمة العشق والشوق والحماس لعدم تعطيل الخدمة القرآنية مهما كانت الظروف صعبة. أما الدروس والمدارس فتعطي الخدمة بالتفكر الإيماني المنسجم مع الروح الجماعية قوة ومتانة. ومن المعلوم أن الشروط الزمانية والمكانية تولد تشتتاً في الحياة المعنوية وهزالا في الروح. فالدروس والمدارس النورية تقف حيال التخريبات المعنوية وتصلحها يومياً. وموضوع المدارس موضوع أساس في الهدي النبوي مهما اختلفت الأسماء والأدوار. فمثلاً: يقول الله تعالى أمّة موسى (عليه السلام) في القرآن الكريم ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾يونس:86 ودار الأرقم أيضاً هدي نبوي لأمة محمد صلى الله عليه وسلـم. ومثلاً يقول النورسي لطلابه إن لم تجدوا أحداً لتتدارسوا معه رسائل النور فحولوا بيوتكم الى مدرسة نورية، وتدارسوها مع أهلكم وعيالكم.
وقد أبدى طلاب بديع الزمان في مثل هذه النقطة اخلاصاً وصدقاً بإعطائهم الأولوية على الدروس والمدارس. ويمكن تلخيص أهم مميزات هذه الخدمة فيما يأتي:
عدم الدخول في السياسة مطلقاً، ويمكن الإدلاء بالصوت وقت الانتخابات، من غير تشكيل حزب سياسي باسم الجماعة. ولا مكانة لجعل السياسة من أولويات الأعمال في خدمة النور. والعمل بحركة إيجابية بناءة وعدم الانشغال بأخطاء الآخرين، والابتعاد عن العنف والاشتباكات. وينبغي الصبر والشكر على كل الضغوط ومواجهاتها بالسلم والصبر مهما كان الأمر، وعدم التوسل بالفوضى والإرهاب داخل البلد مهما كلف الوضع. والقيام بالخدمة من خلال المحافظة على الإخلاص بكل عزيمة. وتفويض الأمر والنتيجة الى الله بعد القيام بالواجب. وعدم التحرك وفق النتيجة. والابتعاد عن الملابسات الدنيوية، واتخاذ القناعة والاقتصاد أساساً في الحياة، والتحرك حسب قواعد الجهاد المعنوي وعدم الانفكاك عنها. فيجب أن يكون الجهاد بالأقلام والكلام، سيما في الداخل أي يكون الجهاد قائماً على الإصلاح والارشاد أي على الجهاد المعنوي مهما كانت الظروف. ولا يكون الميل إلى الجهاد المادي إلا إذا كان القصد دفع الهجمات الخارجية على البلد.
السؤال التاسع عشر: هل من أهمية للمرأة والشباب في رسائل النور؟
أجل لهما أهمية كبيرة. فرسائل النور تهتم كل ما يهتم به القرآن الكريم. فهناك رسائل تخاطب النساء والأطفال والشباب والشيوخ والمرضى. وحتى هناك رسائل تحافظ على حقوق أدنى الحشرات كالذباب وبقية الأحياء. فهناك رسالة (مرشد أخوات الآخرة) تتناول مسؤولية النساء ووظيفتهن في الحياة الاجتماعية. وهناك رسالة (مرشد الشباب) تبيّن كيف يكون الشاب فرداً صالحاً للمجتمع بالمعنى الحقيقي. وتواسي (رسالة المرضى) هموم المرضى، وتسلي وتطيب (رسالة الشيوخ) نفوس الشيوخ وتكشف ما بهم من سأم وضيق. فهذه الرسائل غاية في الأهمية. وقد أطلق النورسي على النساء بطلات الشفقة والرحمة ونبههن إلى ثقل مهامهن في تربية المجتمع وإصلاحه وحثهن على ذلك.
السؤال العشرون: ما دور رسائل النور في القضايا الفكرية المستجدة: الحداثة، الديمقراطية، الانتخابات، الحضارة، التربية، قضايا الإنسان، البيئة...؟
لقد اهتم سعيد القديم (سعيد الأول) على الأكثر بالقضايا السياسية والاجتماعية والحداثة. وقد عاش بديع الزمان هذه الفترة بالذات. وسؤالكم طويل وينبغي الإجابة عن كل عنوان منها بمقالة طويلة. وقد تطرقنا شيئاً لموضوع الحضارة والتربية في السؤال الثامن. وهنا نقف على موضوع الحداثة والديمقراطية.
يرى النورسي أنّ الحداثة واقعة بشرية. ويقف على الناحية الإيجابية والسلبية للحداثة. حتى إنه يؤيد الحداثة ويقول قد استفادت واستنارت الحداثة من الأديان السماوية وسهلت حياة البشرية بالصناعات النافعة. ومن ناحية أخرى يرد الجانب السلبي من الحداثة في تخريب أخلاق البشرية وإلحاق المضرة بها من الناحية المادية والمعنوية. وحتى إنه يدعو الإنسانية جمعاء للوقوف حيال النواحي السلبية للحداثة الناجمة من تعاون الإنس والجن معاً.
أما بالنسبة لموضوع الديمقراطية والانتخابات: فهو يؤيد نظاماً مستنداً على هيمنة القانون وسلطته. ويعرف هذا المفهوم بالمشروطية المشروعة. ويتناول الموضوع بصورة تفصيلية في كتابه (المناظرات) ومن المعلوم يمكن عد العناصر الأساسية للديمقراطية بالشكل الآتي:
الانتخابات: تعني أداء الأمر إلى أهله في الإسلام. وعلى أساسه تم تولية الخلفاء الراشدين. وكانت الانتخابات في عهدهم تجري حسب الأهلية في تولية الأمر. ويأمرنا القرآن بإداء الأمر إلى أهله. ويتناول الأستاذ هذا الموضوع ضمن صفات المهارة والصلاح. فهو يقول المهارة أساس في الأمور الدنيوية. وما أجمل ما يجتمع الصلاح والمهارة معاً، وإلا ترجّح المهارة على الصلاح في إدارة شؤون الدولة.
أما الخاصة الثانية: البرلمان أو المجلس النيابي. وهذا أيضاً له ما يقابله في الإسلام من المفاهيم. فالقرآن يأمرنا بالشورى والرسول صلى الله عليه وسلـم قد أمرنا بالشورى وطبقها في حياته. والنظم الديمقراطية تطبق الأمر القرآني هذا بأحسن وجه من قبل البرلمان أي المجلس النيابي المنتخب.
والمبدأ الثاني للديمقراطية هو الهيمنة القانونية، أي أن الناس وإن كانوا أغنياء أو فقراء، علماء أو جهلاء، ملوكاً أو عبيداً فهم سواء أمام القانون. وهذا أيضاً من أهم مبدإ من مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام. وقد أكد القرآن الكريم والأحاديث الشريفة على حماية الحقوق والمساواة أمام القانون، وتم تطبيقها عملياً من قبل الرسول صلى الله عليه وسلـم. وكما نرى الديمقراطية في الأصل ليست نظاماً معاكساً للإسلام. وقد رجح النورسي ضمن هذه المبادئ الديمقراطية المشروعة على السلطنة وعلى الملكية.
* * *