
مصطلح الإيمان في رسائل النور
- دراسة مفاهيمية -
- ABSTRACT -
The concept of Faith in the Risale-i Nur
- A Conceptual Study -
Dr. Najib Ali Abdullah Alsodi
Faith is the only element that is capable of uniting the nation and bonding the ties among its members and bringing them together. There is nothing else that can master reunification of the nation like faith. The Risale-i Nur presents a definition of faith and describes the easiest way to it in order to obtain and strengthen it. Moreover, the Risale differentiates between traditional faith which is followed by the public and real faith which is followed by the 'arifoon (people of piety).
Nursi has given great importance to the concept of faith and made it a priority. A thoughtful reading of The Risale-i Nur reveals that the term "freedom" is the most prominent and noticeable term throughout it. The Risale places faith at the center of life, defends it and struggles for its cause. The biography of Professor Nursi itself stands as a witness to all this. He devoted his life to defend faith. He suffered imprisonment and exile in order to keep faith intact and clear from impurities, atheism, blasphemy or heresy.
Since that faith plays an important role in the advancement of humanity, Said Nursi considers saving faith the most important mission. For him, it is the most honorable task and service of all as it is the greatest charity in this time. Thus, he devotedly dedicated himself to serve faith.
* * *
- ملخص البحث -
د. نجيب علي عبد اللّٰه السودي1
إن الإيمان وحده هو العنصر القادر على توحيد الأمة ولمّ شتاتها وتوحيد صفوفها، وليس هناك شيء آخر يستطيع أن يلم شمل الأمة من الإيمان، ورسائل النور حاضرة في مسألة التعريف بالإيمان وتنوير الطريق الأسهل إليه وتقويته وحتى في التفريق بين الإيمان التقليدي الذي هو إيمان العوام والإيمان التحقيقي الذي يدين به عارفو الأمة.
وقد أعطى النورسي أهمية كبرى لمفهوم الإيمان ومنحه الأولوية العظمى، إذ إن المتأمل في رسائل النور يجد أن هذا المصطلح هو الأكثر بروزا ووضوحا، كما يجد قارئ الرسائل أنها تجعل من الإيمان محورا لها ترتكز عليه وتحتكم إليه وتدافع عنه وتناضل في سبيله، وسيرة حياة الأستاذ النورسي نفسها تشهد على ذلك كله بحيث أنه كرس جل حياته للدفاع عن الإيمان وقاسى وعانى من أجل ذلك السجون والمنافي لكي يبقى الإيمان مصونا من شوائب الإلحاد والكفر والزندقة.
وبما أن الإيمان يلعب دورا هاما في الرقي بالإنسان أعلى الدرجات، اعتبر الأستاذ النورسي رحمه الله مهمة إنقاذه من أهم الوظائف ومن أجل الخدمات على الإطلاق كما أنها أعظم إحسان في هذا الزمان، فسعى إلى ذلك بكل ما يملك من قوة.
* * *
مدخل
إن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية اليوم سيجد أن أهم ما تعانيه الأمة هو التفكك والتمزق والشتات، وهذا هو سبب ضياع هيبتها ومكانتها الدولية؛ وذلك مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾،الأنفال:46 لقد تنازعت الأمة فيما بينها دولاً وأحزاباً وطوائف وجماعات وفئات وأجناس ففشلت وذهب ريحها وعزها ومجدها.
وإن المتأمل يجد أنه ما من حل لهذه المعضلة، ولهذا الداء الدفين إلا أن تعود الأمة إلى وحدتها بالاعتصام والتكاتف والتعاون فيما بينها، ولن يتأتى ذلك إلا يوم أن تجتمع على الحبل المتين، وتسير على هدي "القرآن الكريم".
ذلك أنّ القرآن يرشد الأمة إلى وسائل القوة والعزة والمنعة؛ فيقول آمرا ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّٰهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾آل عمران:103 يرشدهم إلى أن الاعتصام الحق لا يكون ولن يكون إلا يوم أن يكون بالإيمان، فالإيمان والإيمان وحده هو القادر على توحيد هذه الأمة ولمّ شتاتها وتوحيد صفوفها، فما من شيء من مصالح الدنيا وأسبابها قادر على أن يفعل بالأمة ما يفعله بها الإيمان.
نعم، إن الأمة بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى توحيد الكلمة على كلمة التوحيد.
فيا ترى ما هو هذا الإيمان؟ وما مفهومه؟ ما تعريفه وما هي حدوده؟ ما هي أهميته وما فائدته؟ ما أنواعه وما أقسامه؟ وكيف يمكنه توحيد الأمة وتحقيق الوحدة الإسلامية في ظل الظروف الراهنة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها الكثير والكثير نحتاج إلى نور يهدينا، وإلى مرشد يرشدنا في طريق يحثنا، ويسهل علينا مهمة الوصول إلى مبتغانا في كشف اللثام عن مثل هكذا حقيقة.
هذا النور الكاشف للحقائق والمرشد الأمين للطريق نجده في رسائل النور، ولذلك يأتي هذا البحث مسترشدا بكليات رسائل النور في تمحيص مصطلح الإيمان ودراسته دراسة مفاهيمية؛ من خلال إبراز الجوانب الآتية:
1- حضور مصطلح الإيمان في كليات رسائل النور؟ وكم هي نسبة هذا الحضور؟
2- لماذا كان لهذا المصطلح هذا الحضور في الرسائل؟ ولماذا استحق هذه الأهمية بالنسبة للمؤلف رحمه اللّٰه؟
3- ما هو مفهوم هذا المصطلح في الرسائل؟ وما هي تعاريفه وحدوده التي صاغها له المؤلف؟
4- ما معنى الإيمان التحقيقي في رسائل النور؟ وما الفرق بينه وبين الإيمان التقليدي المعروف عند العوام؟
5- ما هو دور هذا الإيمان في حياة الإنسان والمجتمع؟
6- ما هو موقف الإنسان في هذا العصر من الإيمان؟ وما هو موقف المؤلف ورسائل النور من هذا الإيمان؟
كل الجوانب السابقة سيحاول البحث أن يصل فيها إلى ما يشفي الغليل ويداوي العليل ويجلي الأمر على حقيقته، ذاكرا ما سنحت به الفرصة وتمكن الباحث من الحصول عليه من كلام للأستاذ الإمام بديع الزمان في كليات رسائل النور.
سائلا المولى عزّ وجلّ أن ينفع به طلاب النور وطلاب الحقيقة وطلاب الإيمان التحقيقي، واللّٰه المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا باللّٰه العلي العظيم.
أولا: مصطلح الإيمان في رسائل النور
المتأمل في رسائل النور يجد أن مصطلح الإيمان هو الأكثر بروزا ووضوحا، كما يجد أنها تجعل من الإيمان محورا لها، عليه ترتكز، ومنه تنطلق، وإليه تحتكم، وعنه تدافع، وفي سبيله تناضل.
فالإمام النورسي يرى أن الإيمان هو أسّ أساس كل العلوم، فنجده يقول: "فأساسُ كلِّ العلوم الحقيقية ومعدنها ونورُها وروحها هو 'معرفة اللّٰه تعالى' كما أن أسّ هذا الأساس هو 'الإيمان باللّٰه جل وعلا'."2
ولذلك فقد ناضل في حياتها ليجعل الإيمان أولا، وقد أدرك -رحمه اللّٰه- ذلك، وأدرك أنه ينبغي أن يتدارك ما بقي من عمره في العمل لحياة أبدية، وكذا منفعة الناس بتعليمهم طريق الإيمان وإرشادهم إليه، فقال: "إنني أتقدم في الشيب، ولا علم لي كم سأعيش بعد هذا العمر، لذا فالأولى لي العمل لحياة أبدية، وهذا هو الألزم، وحيث إن الإيمان وسيلة الفوز بالحياة الأبدية ومفتاح السعادة الخالدة، فينبغي إذا السعي لأجله".
ثم يؤكّد المعاني نفسها من حيث وظيفته الاجتماعية والتربوية المنتظرة، فقال: "بيد أني عالم ديني مكلف شرعاً بإفادة الناس، لذا أريد أن أخدمهم من هذه الناحية أيضا إلا أنّ هذه الخدمة تعود بالنفع إلى الحياة الاجتماعية والدنيوية، وهذه ما لا أقدر عليها، فضلاً عن أنّه يتعذّر القيام بعمل سليم صحيح في زمن عاصف، لذا تخليت عن هذه الجهة وفضّلت عليها العمل في خدمة الإيمان التي هي أهم خدمة وألزمها وأسلمها، وقد تركت الباب مفتوحاً ليصل إلى الآخرين ما كسبته لنفسي من حقائق الإيمان وما جربته في نفسي من أدوية معنوية؛ لعلّ اللّٰه يقبل هذه الخدمة ويجعلها كفّارة لذنوب سابقة".3
لقد أدرك -رحمه اللّٰه- أن خدمة الإيمان هي المهمة الجليلة التي يجب أن يلتفت إليها الإنسان، فيقول في الملاحق: "إن المهمة الجليلة في هذا الوقت هي خدمة الإيمان؛ إذ هي مفتاح السعادة الأبدية".4
ويجعل خدمة الإيمان فوق كل شيء فيقول في الملاحق: "خدمة الإيمان فوق كل شيء"،5 ولأن الإيمان كذلك، فهو ينزهه من أن يكون أداة لأي شيء آخر يقول -رحمه اللّٰه-: "إن خدمة الإيمان وحقائق الإيمان هي أجلّ من كل شيء في الكون، فلا تكون أداة لأي شيء كان".6
كما نجده يشير إلى أن تنزيه هذه الخدمة تتمثل في عدم البحث عن أي مقامات معنوية شخصية، أو مجرد التفكير فيها، فيقول -رحمه اللّٰه- في الملاحق "أقول إن القيام بخدمة الإيمان في هذا الزمان -تلك الخدمة التي تستند إلى سر الإخلاص وتأبى أن تستغل لأي شيء كان- تقتضي عدم البحث عن مقامات معنوية شخصية، بل يجب ألّا تومئ حتى حركات المرء إلى طلبها والرغبة فيها، بل يلزم عدم التفكير فيها أصلا، وذلك لئلا يفسد سر الإخلاص الحقيقي".7
ويجعل من خدمة الإيمان مقدمة لإصلاح الشريعة والحياة، لأنه يرى أن الاهتمام بالإيمان أهم وأولى فيقول -رحمه اللّٰه- في "الملاحق": "إن الإيمان والشريعة والحياة ثلاث مسائل عظيمة في العالم الإسلامي والإنساني، وأعظم هذه الثلاثة هي الحقائق الإيمانية".8
ثم يذكر في الموضع نفسه: "وأنّ مسألة 'الإيمان' هي أهم هذه المسائل الثلاث وأعظمها في نظر الحقيقة، بيد أن 'الحياة' و 'الشريعة' تبدوان في نظر الناس عامة وضمن متطلبات أوضاع العالم أهم تلك المسائل، ولما كان تغيير أوضاع المسائل الثلاث كلها دفعة واحدة في الأرض كافة لا يوافق سنة اللّٰه الجارية في البشرية، فإن ذلك الشخص المنتظر لو كان موجوداً في الوقت الحاضر لاتخذ أعظم تلك المسائل وأهمها أساسا له دون المسائل الأخرى، وذلك لئلا تفقد خدمة الإيمان نزاهتها وصفاءها لدى الناس عامة، ولكي يتحقق لدى عقول عوام الناس -الذين يمكن أن يُستغفلوا ببساطة- إن تلك الخدمة ليست أداة لأي مقصد آخر".
وأمام هذا الإدراك الجلي لحقيقة الأمر، وما ينبغي القيام به، نجده يسلم للّٰه ويطمئن بما منحه اللّٰه من مرتبة نورانية، فيعلن ذلك قائلا في "الملاحق": "فما دامت خدمة الإيمان والقرآن أسمى من أية خدمة في هذا العصر، وأن النوعية تفضل الكمية، وأنّ التيارات السياسية المتحولة المتغيرة وأحداثها المؤقتة الزائلة لا أهمية لها أمام خدمات الإيمان الثابتة الدائمة، بل لا ترقى لمقارنتها ولا يمكن أن تكون محوراً لها، فينبغي الاطمئنان بما منحنا ربنا سبحانه وتعالى من مرتبة نورانية مفاضة علينا من نور القرآن المبين".9
ويقرر الإمام النورسي أمام كل هذه المعطيات أن وظيفته ستكون هي خدمة هذا الإيمان، فيعلن عن ذلك قائلا: "وأنا أقول مقتدياً بذلك البطل: إن وظيفتي هي خدمة الإيمان، أما قبول الناس للإيمان والرضى به فهذا أمر موكول إلى اللّٰه، فأنا عليّ أن أؤدي ما عليّ من واجب، ولا أتدخل فيما هو من شؤونه سبحانه".10
وينادي في إخوانه وطلابه ومحبيه، طالبا منهم أن يجعلوا وظيفتهم كذلك خدمة الإيمان، فيقول لهم: "إخواني، إن وظيفتنا هي خدمة الإيمان والقرآن الكريم بإخلاص تام، أما توفيقنا ونجاحنا في العمل وإقبال الناس إلينا ودفع المعارضين عنا، فهو موكول إلى اللّٰه سبحانه، فنحن لا نتدخل في هذه الأمور، وحتى لو غُلبنا فلا ينقصنا هذا شيئاً من قوتنا المعنوية ولا يقعدنا عن خدمتنا، فعلينا بالثقة والاطمئنان والقناعة انطلاقاً من هذه النقطة".11
ثم يحدد معالم دعوته لهم وللعالم بأسره بقوله: "إن دعوتنا هي الإيمان، والجهاد يلي الإيمان، وإن زماننا هذا هو زمان خدمة الإيمان، ووظيفتنا هي الإيمان، وخدمتنا تنحصر في الإيمان..."12
ويجعل هذه الدعوة وهذه الخدمة لهدف واحد يحدده بوضوح وتجرد قائلا: "ابتغاء مرضاة اللّٰه، فإذا رضي هو سبحانه فلا قيمة لإعراض العالم أجمع ولا أهمية له، وإذا ما قبل هو سبحانه فلا تأثير لردّ الناس أجمعين، وإذا أراد هو سبحانه واقتضته حكمته بعد ما رضي وقبل العمل، جعل الناس يقبلونه ويرضون به، وإن لم تطلبوه أنتم، لذا ينبغي جعل رضى اللّٰه وحده دون سواه القصد الأساس في هذه الخدمة.. خدمة الإيمان والقرآن".13
ويدعوهم إلى الإعلان والتبليغ في كل جهة، وخدمة الإيمان من خلال نشر رسائل النور، ويضع أمامهم احتمالية دخول السجن في سبيل ما يخدمونه ويدينون به، فيخاطبهم قائلا: "إنه لابدّ من الإعلان والتبليغ في كل جهة في وقتنا هذا عن خدمة الإيمان برسائل النور، ولفت أنظار المحتاجين إليها في كل مكان، فدخولنا السجون يلفت الأنظار إلى الرسائل، فيكون إذن بمثابة إعلان عنها، فيجدها أعتى المعاندين والمحتاجين فتكسر بها شوكة عنادهم وينقذون بها إيمانهم، وينجون من المهالك، وتتوسع دائرة مدارس النور".14
وأمام هذا الواقع الذي واجهوه، يثبّتهم في المواقف العصيبة، ويذكرهم بالإخلاص في خدمة الإيمان الذي لم ينسه وهو في أحلك الظروف، فيقول لهم: "علينا الشكر للّٰه على ظروفنا العصيبة هذه في السجن وذلك لما فيها من زيادة الثواب حسب المشقة، ونسعى في الوقت نفسه لأداء وظيفتنا التي هي خدمة الإيمان بإخلاص، أما التوفيق في أعمالنا أو الحصول على نتائج خيّرة فيها فموكولة إلى اللّٰه سبحانه وتعالى ولا نتدخل فيها، بل نظل صابرين شاكرين للّٰه إزاء هذه المعتكفات قائلين: خير الأمور أحمزها".15
ويشير إلى أن طلاب رسائل النور الحقيقيين هم أولئك الذين جعلوا من خدمة الإيمان غاية لهم، ويرون أن خدمة الإيمان فوق كل شيء، ولا يرتضون مقابل ذلك شيئا من حطام الدنيا، فيصفهم قائلا: "إن طلاب رسائل النور الحقيقيين يرون خدمة الإيمان فوق كل شيء، بل حتى لو مُنحوا درجة القطبية يرجحون عليها خدمة الإيمان حفاظاً على الإخلاص".16
لقد كان -رحمه اللّٰه- يشعر أن الإيمان في عصرنا الحاضر في أزمة، وأنه -أي الإيمان- بحاجة إلى إنقاذ، فنجده يكرر ويعيد هذه المسألة، فيقول: "إن أعظم خطر على المسلمين في هذا الزمان هو فساد القلوب وتزعزع الإيمان بضلال قادم من الفلسفة والعلوم".17
ويشعر أنه لابد من إنقاذ الإيمان، فيقول في الملاحق "إن ألزم شيء في مثل هذا الوقت وأجدى عمل وأجدر وظيفة هو إنقاذ الإيمان..."18
ويجعل -رحمه اللّٰه- مهمة إنقاذ الإيمان أعظم إحسان في هذا الزمان فيقول في نفس الموضع: "إنقاذ الإيمان أعظم إحسان في هذا الزمان".
ويعلل لذلك بقوله: "ذلك لأن خدمة إنقاذ الإيمان في مثل هذه الأحوال الصعبة والشروط القاسية هي فوق كل شيء".19
وتأكيدا لهذه المعاني نجده نابذا كل أمور الحياة، وناذر نفسه ووقته وأنفاسه في سبيل هذه المهمة الغالية والصعبة ألا وهي مهمة إنقاذ الإيمان فيقول -رحمه اللّٰه-: "فنبذت أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل إنقاذ الإيمان فقط".20
واستعد لأن يضحي بكل ما يملك في سبيل هذا الإيمان، ولقد كان -رحمه اللّٰه- صريحا وواضحا في هذه المسألة، وكان ثابتا ثبات الجبال الرواسي، فنجده يعلن بكل وضوح وصراحة ويقول: "ألا فلتعلموا جيداً بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفُصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن ينحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها".21
ويخاطب أولئك الذين يتوهمون أنه يسعى من وراء خدمته للإيمان إلى مصلحة دنيوية أو مكسب شخصي فيوضح لهم أنه ليس من أولئك الذين يسعون لمكاسب شخصية دنيوية لأنه يعلم حقيقة الحياة الدنيا، ويعلم حقيقة الإيمان الذي ضحى في سبيلها بحياته الدنيا، وأعلن لهم عن استعداده لأن يضحي بحياته الأخروية كذلك في خدمة الإيمان إن لزم الأمر، فيقول: "أَ يَتَوَهَّمُ هؤلاء التعساء أن الدنيا باقية وأبدية؟ أم يتوهمون أن الجميع مثلهم يستغلون الدين والإيمان في مصالح دنيوية؟ إن هذا التوهم يقودهم إلى الهجوم على شخص تحدى أهل الضلالة في الدنيا وضحى في سبيل خدمة الإيمان بحياته الدنيوية، وهو مستعد للتضحية بحياته الأخروية إن لزم الأمر في سبيل هذه الخدمة، وأنه غير مستعد لأن يستبدل ملك الدنيا كلها بحقيقة إيمانية واحدة".22
ولذلك يعلنها صريحة أمام كل من يعمل في خدمة الإيمان من الطوائف الأخرى أن الزمان زمان حفظ الإيمان وليس حفظ الطرق فيقول لهم: "إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة الصوفية بل زمان إنقاذ الإيمان، وللّٰه الحمد فإنّ رسائل النور قد أنجزت وما تزال تنجز هذه المهمة وفي أصعب الظروف".23
وقد كان يعلنها لكل من زاره طلبا للفائدة، فهذا أحد طلبته يخبر عنه قائلا: "في أول زيارتي للأستاذ وأنا أحسبه شيخاً من شيوخ الصوفية بادرني بالقول وقبل أن أتكلم بشيء: أخي أنا لست شيخاً، أنا إمام كالغزالي والإمام الرباني، فأنا مثلهم إمام، فعصرنا عصر حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة".24
أمام هذا التجرد وهذا الوضوح في الفكرة والهدف يبدأ النورسي في كتابة رسائله التي جعلها رسائل للنور، لأنه وجد أن إنقاذ الإيمان يكون من خلال إراءة النور، فيقول: "إن أعظم خطر على المسلمين في هذا الزمان هو فساد القلوب وتزعزع الإيمان بضلال قادم من الفلسفة والعلوم، و إن العلاج الوحيد لإصلاح القلب وإنقاذ الإيمان إنما هو النور وإراءة النور، فلو عُمل بهراوة السياسة وصولجانها و اُحرز النصر، تدني أولئك الكفار إلى درك المنافقين، والمنافق -كما هو معلوم- أشد خطراً من الكافر وأفسد منه، فصولجان السياسة إذاً لا يصلح القلب في مثل هذا الوقت، حيث يُنزل الكفر إلى أعماق القلب ويتستر هناك وينقلب نفاقاً".25
وجعل خدمة هذه الرسائل ووظيفتها هي إنقاذ الإيمان فيقول عنها في الملاحق "إن خدمة رسائل النور هي إنقاذ الإيمان، أما الطريقة و المشيخة فهي تكسب المرء مراتب الولاية، وأن إنقاذ إيمان شخص من الضلال أهم بكثير وأجزل ثواباً من رفع عشرة من المؤمنين إلى مرتبة الولاية؛ حيث إن الإيمان يمنح للإنسان السعادة الأبدية يضمن له ملكاً أوسع من الأرض كلها، أما الولاية فإنها توسّع من جنة المؤمن وتجعلها أسطع وأبهر، وكما أن رفع مرتبة إنسان اعتيادي إلى سلطان أعظم من رفع عشرة من الجنود إلى مرتبة القائد، كذلك الثواب أعظم وأجزل في إنقاذ إيمان إنسان من الضلالة، من رفع عشرة من الناس إلى مرتبة أولياء صالحين".26
ولذلك وبذلك تميزت رسائل النور عن غيرها من الكتابات والمؤلفات وحتى الجامعات، ولذلك نجده يوضح ذلك بقوله: "إن قراءة رسائل النور وتحصيل العلم فيها شيء مبتكر وأصيل في الحقيقة ولا يوجد ما يشابهه؛ ذلك لأن أي تحصيل علمي آخر تكون الغاية من الاستمرار فيه هي المنفعة المادية أو الحصول على موقع ما، أي أن الدوام لهذه الدروس لا تكون عن رغبة بل في الغالب للحصول على منافع مادية أو على شهرة، أما رسائل النور فتشبه جامعة حرة غير منظمة، والذين يداومون في هذه الجامعة بقراءة رسائل النور لا يبتغون أي هدف دنيوي بل يبتغون خدمة الإيمان والقرآن فقط لا غير".27
ولهذا يطلب -رحمه اللّٰه- من موظفي العدالة الذين يدققون النظر في هذه الرسائل بهدف نقدها وتمحيصها، أن يقووا إيمانهم من خلالها، وإن وجدوا فيها شيئا غير تقوية الإيمان وحكموا عليه بسببها بالإعدام فهو متنازل عن جميع حقوقه، لا لشيء إلا لأنه يعلم أنهم لو نظروا في هذه الرسائل بتجرد لتقوى إيمانهم، وهو في سبيل ذلك مستعد لأن يعدم مقابل أن ينقذوا هم إيمانهم وأنفسهم، لا لشيء إلا لأنه خادم للإيمان، وهذه قمة التضحية وقمة الحب الذي جسده الإمام النورسي -رحمه اللّٰه- في أروع صوره، وإليك هذا النص المهيب كما ورد: "إذا استطاع موظفو العدالة الذين يدققون رسائل النور بهدف النقد والتقييم، أن يقووا إيمانهم وينقذوه، ثم حكموا عليّ بالإعدام، اشهدوا بأنني قد تنازلت لهم عن جميع حقوقي؛ لأننا خدام الإيمان ليس إلّا، وأن المهمة الأساس لرسائل النور هي: تقوية الإيمان وإنقاذه، لذا نجد أنفسنا ملزمين بالخدمات الإيمانية، دونما تمييز بين عدوٍ وصديق، ومن غير تحيّز لأية جهة كانت".28
لقد وجد -رحمه اللّٰه- من خلال التجارب العديدة التي مر بها عظيم الأثر الذي تتركه رسائل النور في قارئيها، فنجده يجعل منها أقصر طريق لإنقاذ الإيمان وتقويته، فيقول: "ولقد عُلم بتجارب كثيرة قاطعة أن أقصر طريق وأسهله لإنقاذ الإيمان وتقويته وجعله تحقيقياً هو في رسائل النور".29
ويقول -رحمه اللّٰه-: "إن هذه تسع سنوات ومئات الرسائل التي نسعى لنشرها، قد أثبتت تأثيرها في هذا الشعب الصديق المبارك الطيب، وأظهرت مفعولها الفعلي والمادي في حياته الأبدية وفي دعم قوة إيمانه وسعادة حياته، ومن غير أن تمسّ أحداً بسوء أو تولد أي اضطراب أو قلق كان، إذ لم يشاهد منها ما يومئ إلى غرض سياسي ونفع دنيوي مهما كان".30
مفهوم الإيمان في رسائل النور
المتأمل في رسائل النور يجد أنها تكسب المصطلح -في كثير من الأحيان- كثيرا من المعاني التي قد لا نجدها في غيرها من الكتب والمؤلفات سواء في ذلك المتخصصة أو العامة.
ومن هذه المصطلحات التي اكتسبت معاني جديدة من خلال رسائل النور مصطلح الإيمان، فنجد أن الإمام النورسي -رحمه اللّٰه- يتفرد بذكر معاني خاصة لم ترد عند غيره من الأئمة أو العلماء، هذه المعاني تضفي على المصطلح خصوصية قد لا تجدها في غير رسائل النور، ونحن بدورنا سنحاول في هذه العجالة أن نلقي الضوء على مفهوم الإيمان عند الإمام النورسي من خلال رسائل النور، وهي على النحو الآتي:
1- الإيمان هو التصديق: يقول-رحمه اللّٰه-: "إن الإيمان هو التصديق مع اليقين".31
2- الإيمان هو النور الحاصل بالتصديق: يقول -رحمه اللّٰه-: "واعلم! أن الإيمان هو النور الحاصل بالتصديق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام تفصيلا في ضروريات الدين وإجمالا في غيرها".32
3- الإيمان هو المنور والمبشر: يقول -رحمه اللّٰه-: "الإيمان هو المنوّر لنا الحياة الأبدية، والمبشر المضيء لنا السعادة الأبدية، وهو المحتوي على نقطتي الاستناد والاستمداد، وهو الدافع لحجاب المأتم العمومي عن وجه الرحمة المرسَلة على وجه الكائنات، وهو المزيل للآلام الفراقية عن اللذائذ المشروعة بإراءة دوران الأمثال، ويديم النعم معنىً بإراءة شجرة الإنعام".33
4- الإيمان هو نور الكون والوجود: يقول -رحمه اللّٰه-: "الإيمان الذي هو نور الكون والوجود".34
5- الإيمان هو حياة الحياة: يقول -رحمه اللّٰه-: "الحمد للّٰه على نعمة الوجود الذي هو الخير المحض، وعلى نعمة الحياة التي هي كمال الوجود، وعلى نعمة الإيمان الذي هو كمال الحياة بل 'حياة الحياة...' وهو حياة للحياة؛ لأنه يشع فيها من نوره فتضيء جنباتها".35
ويقول -رحمه اللّٰه-: "ولكن إذا ما أصبح الإيمان حياةً للحياة، وشعّ فيها من نوره، استنارت الأزمنة الماضية واستضاءت الأزمنة المقبلة، وتجدان البقاء وتمدان روح المؤمن وقلبه من زاوية الإيمان، بأذواق معنوية سامية وأنوار وجودية باقية، بمثل ما يمدّهما الزمن الحاضر".36
6- الإيمان هو المنار على الذات: يقول -رحمه اللّٰه-: "الإيمان هو المنار على الذات قد تضاءلت تحته سائر الصفات".37
7- الإيمان هو مناط الحكم: يقول -رحمه اللّٰه-: "الإيمان هو مناط الحكم وإن الذات مع سائر الصفات تابعة له ومغمورة تحته".38
8- الإيمان هو الدواء المقدس: يقول -رحمه اللّٰه-: "الإيمان الذي هو دواء مقدس لكل داء".39
9- الإيمان هو منبع الخلق الحسن والخصال الحميدة: يقول -رحمه اللّٰه-: "ذلك لأن الإيمان الذي هو منبع الخُلُق الحسن والخصال الحميدة ومنشؤها، لن يخلّ بالأمن بل يحققه ويضمنه، أما ما يخل بالأمن فهو عدم الإيمان بسوء خُلُقه وسجيته".40
10- الإيمان هو أسمى العلوم وأدقها: يقول -رحمه اللّٰه- "إن القرآن الحكيم يخاطب كل طبقة من طبقات البشر في كل عصر من العصور، وكأنه متوجه توجهاً خاصاً إلى تلك الطبقة بالذات، إذ لما كان القرآن يدعو جميع بني آدم بطوائفهم كافة إلى الإيمان الذي هو أسمى العلوم وأدقها، وإلى معرفة اللّٰه التي هي أوسع العلوم وأنورها، وإلى الأحكام الإسلامية التي هي أهم المعارف وأكثرها تنوعاً، فمن الألزم إذاً أن يكون الدرس الذي يلقيه على تلك الطوائف من الناس درساً يوائم فهم كلٍ منها، والحال أن الدرس واحد، وليس مختلفاً، فلابد إذاً من وجود طبقات من الفهم في الدرس نفسه، فكل طائفة من الناس -حسب درجاتها- تأخذ حظها من الدرس من مشهد من مشاهد القرآن".41
11- الإيمان هو أسّ أساس الحياة: يقول -رحمه اللّٰه-: "نعم، إن الإنسان الضعيف الذي ينشد فطرةً الحياة الدائمة الخالدة، والعيش الأبدي الرغيد، والذي له آمال بلا حدود وآلام بلا نهاية، لابد أن تكون جميع الأشياء و الكمالات هابطة تافهة بالنسبة إليه، بل ليس لأكثرها أية قيمة تذكر، ما عدا الإيمان باللّٰه ومعرفته، وما عدا الوسائل التي تأخذ بيده إلى ذلك الإيمان الذي هو أسّ الأساس لتلك الحياة الأبدية ومفتاحها".42
12- الإيمان هو محور سعادة الدارين: يقول -رحمه اللّٰه-: "الإيمان الذي هو محور سعادة الدارين".43
13- الإيمان هو منبع جميع السعادات: يقول -رحمه اللّٰه-: "الإيمان الذي هو منبع جميع السعادات".44
14- الإيمان هو منبع النعم: يقول-رحمه اللّٰه- "إنني أقدم إلى الخالق ذي الجلال حمداً لانهاية له على ما وهبني من نور الإيمان الذي هو منبع جميع هذه النعم الإلهية غير المحدودة، بما حوّل تلك اللوحة المرعبة التي اُظهرتْ لنفسي الغافلة فأوهمتها الغفلة -المتولدة من شدة التأثر على تلك الحالة المؤلمة- أن قسماً من موجودات الكون أعداء أو أجانب، وقسماً آخر جنائز مدهشة مفزعة، وقسماً آخر أيتام باكون حيث لا معين لهم ولا مولى، حوّل ذلك النور كل شيء حتى شاهدت بعين اليقين إن الذين كانوا يبدون أجانب وأعداء إنما هم إخوة وأصدقاء... وإن ما كان يَظهر كالجنائز المرعبة؛ قسمٌ منهم أحياء مؤنسون، أو هم ممن أنهوا وظائفهم ومهماتهم... وأن ما يتوهم أنها نواح الأيتام الباكين، ترانيم ذِكر وتراتيل تسبيح".45
15- الإيمان نور يقذفه اللّٰه في قلب من يشاء من عباده: يقول-رحمه اللّٰه-: "ثم إن الإيمان نور يقذفه اللّٰه تعالى في قلب من يشاء من عباده، أي بعد صرف الجزء الاختياري، فالإيمان نور لوجدان البشر وشعاع من شمس الأزل يضئ دفعةً ملكوتيةَ الوجدان بتمامها، فينشر اُنسية له مع كل الكائنات... ويؤسس مناسبة بين الوجدان وبين كل شيء... ويلقي في القلب قوة معنوية يقتدر بها الإنسان أن يصارع جميع الحوادث والمصيبات..."46
كان هذا بعض مضامين مفهوم مصطلح الإيمان من خلال رسائل النور، وقد ظهرت جليا سعة هذه المعاني لهذا المصطلح المهم.
مصطلح الإيمان التحقيقي
من الأمور اللافتة للانتباه في رسائل النور اشتمالها على مصطلح "الإيمان التحقيقي" وهو خاص برسائل النور، أورده ضمن الحديث عن مصطلح الإيمان؛ جعل هذا النوع من الإيمان هو القضية العظمى، وهو وثيقة الفوز وشهادته فيقول: "إن رسائل النور قد أكسبت تسعين في المائة منهم تلك القضية العظمى، وهي التي سلمت وثيقة الفوز وشهادته وهي الإيمان التحقيقي".47
وهو كذلك أجل العلوم قاطبة، وهو قمة المعرفة وذروة الكمال الإنساني، يقول: "اتفق أهل الحقيقة على أن أجلّ العلوم قاطبة وقمة المعرفة وذروة الكمال الإنساني إنّما هو في الإيمان والمعرفة القدسية السامية المفصلة والمبرهنة النابعة من الإيمان التحقيقي".48
هذا الإيمان التحقيقي يراه الأستاذ في صورة متفردة، والتعامل معه يجب أن يكون أيضا بشكل متفرد، فنجده يقول: "الإيمان التحقيقي خدمة قدسية للغاية لا يجوز أن تُفسد بأي ثلمة وأن إضعافها بالغرض السياسي جناية".49
كل ذلك لأن هذا الإيمان التحقيقي بدروسه يحقق مصلحتي الدنيا والآخرة، فيقول: "إن دروس الإيمان التحقيقي مع توجيهها الأنظار إلى الآخرة تُعلّم أنّ الدنيا مزرعةٌ للآخرة وسوقٌ ومعملٌ لها، وتدفع إلى السعي الحثيث في الحياة الدنيا، ثم إنها تُكسب القوة المعنوية المنهارة في غياب الإيمان قوةً، وتسوق اليائسين الساقطين في العطالة واللامبالاة إلى الشوق والهمة وتحثهم إلى السعي والعمل، فهل يرضى الذين يريدون أن يحيوا في هذه الدنيا بوجود قانون يمنع دروس الإيمان التحقيقي الذي يضمن لذة الحياة الدنيوية والشوق للعمل والقوة المعنوية للصمود بوجه مصائب الدنيا الكثيرة، وهل يمكن أن يوجد قانون مثل هذا؟"50
ولذلك نجد أن الأستاذ قد جعل أساس رسائل النور وغاية هدفها هو العمل من أجل هذا النوع من الإيمان فقال: "إن أساس رسائل النور وهدفها هو إظهار الحقيقة القرآنية والعمل من أجل الإيمان التحقيقي".51
ويقول في موضع آخر مبينا وظيفة رسائل النور وكيف أنها تربي طلابها على حمل الإيمان التحقيقي في قلوبهم: "فـرسائل النور تؤدي هذه الوظيفة، وفي أحلك الحالات وأرهبها، وفي أحوج الأوقات، وأحرجها فتؤدي خدمتها الإيمانية بأسلوب يفهمه الناس جميعاً، وأثبتت أعمق حقائق القرآن والإيمان وأخفاها ببراهين قوية حتى أصبح كل طالب نور وفيّ صادق يحمل في قلبه الإيمان التحقيقي كأنه قطب مخفي من أقطاب الأولياء وركيزة معنوية للمؤمنين".52
بل نجد الأستاذ -رحمه اللّٰه- يرى أنما يتعلمه طلاب النور من رسائل النور هو أرفع بكثير من الكرامات والكشفيات والأذواق فيقول -رحمه اللّٰه-: "إن الكرامات و الكشفيات إنما هي لبث الثقة في نفوس السالكين في الطريقة من الناس العوام الذين يملكون إيمانا تقليديا ولم يبلغوا مرتبة الإيمان التحقيقي...، أما الإيمان التحقيقي الذي تمنحه الرسائل فهو أرفع بكثير من الكرامات والكشفيات والأذواق، لذا لا يتحرى طلاب رسائل النور الحقيقيون أمثال هذه الكرامات".53
ولذلك فهم ينعمون براحة بال وسلامة قلب نتيجة نظرهم إلى الأمور بمنظار نور دروس الإيمان التحقيقي الذي تلقوه من رسائل النور؛ فيقول -رحمه اللّٰه-: "إنني أخال أنه في خضم هذه الأهوال والحرائق التي نشبت في الكرة الأرضية لا يقدر على الحفاظ على سلامة قلبه وراحة روحه إلّا أهل الإيمان وأهل التوكل والرضى الحقيقي ومنهم أولئك الذين انضموا إلى دائرة رسائل النور بوفاء تام، فهم مصانون من تلك الأهوال أكثر من غيرهم، وذلك لأنهم يرون أثر الرحمة الإلهية وزبدتها ووجهها في كل حادثة وفي كل شيء، لمشاهدتهم الأمور بمنظار نور دروس الإيمان التحقيقي الذي تلقوه من رسائل النور".54
هذا العمل وهذا الإيمان التحقيقي تحققه الرسائل في فترة وجيزة مقارنة بغيرها من الوسائل، يقول الأستاذ: "نعم، إن الإيمان التحقيقي الذي يمكن أن يُكسَب خلال خمس عشرة سنة تُكسبه رسائل النور في خمسة عشر أسبوعا وإلى بعضهم في خمسة عشر يوما، يشهد على هذا عشرون ألفاً من الشهود بتجاربهم في غضون عشرين سنة".55
ولذلك يشدد على ضرورة قراءة رسائل النور بطريقة تختلف عن قراءة غيرها فيقول -رحمه اللّٰه-: "لذا ما ينبغي قراءة رسائل النور كسائر العلوم والكتب، لأن ما فيها من علوم الإيمان التحقيقي لا يشبه العلوم والمعارف الأخرى".56
وقد رسم الأستاذ النورسي طريق الوصول إلى هذا النوع من الإيمان بقوله "إن إحدى طرق الوصول إلى هذا الإيمان التحقيقي هو بلوغ الحقيقة بالولاية الكاملة بالكشف والشهود، وهذا الطريق إيمان شهودي يخص أخص الخواص.
أما الطريق الثاني فهو تصديق الحقائق الإيمانية بعلم اليقين البالغ درجة البداهة والضرورة، وبقوة تبلغ درجة حق اليقين، وذلك بفيض سر من أسرار الوحي الإلهي من جهة الإيمان بالغيب وبطراز برهاني وقرآني يمتزج فيه العقل والقلب معاً".57
فهذا الطريق الثاني هو أساس رسائل النور، وخميرتها، وروحها وحقيقتها، نعم أن طلابها الخواص يشاهدون ذلك، بل إذا ما نظر الآخرون أيضا بإنصاف فإنهم يرون أن رسائل النور تبين استحالة الطرق المخالفة للحقائق الإيمانية، وإنها غير ممكنة وممتنعة.
كما نجد الأستاذ سعيد النورسي يفرق بين ما يسميه بالإيمان التقليدي والإيمان التحقيقي، فيقول: "نعم إن الإيمان التقليدي معرّض لهجمات الشبهات والأوهام، أما الإيمان التحقيقي فهو أوسع منه وأقوى وأمتن".58
ويقول -رحمه اللّٰه- كذلك: "لقد قضى أهل الكشف والتحقيق أن الإيمان التحقيقي كلما ارتقى من علم اليقين إلى حق اليقين يستعصي على السلب، فلا يُسلب، وقالوا: إن الشيطان لا يستطيع أن يورث أحدا في سكرات الموت إلا إلقاء الشبهات بوساوسه إلى العقل فحسب، أما هذا النوع من الإيمان التحقيقي، فلا يتوقف في حدود العقل فحسب بل يسرى إلى القلب و إلى الروح و إلى السر و إلى لطائف أخرى فيترسخ فيها رسوخاً قوياً بحيث لا تصل يد الشيطان إليها أبدا، فإيمان أمثال هؤلاء مصون من الزوال بإذن اللّٰه".59
ويبين أن رسائل النور قد تولت إيضاح هذه الأقسام المختلفة للإيمان؛ فيقول -رحمه اللّٰه- "ثم إن أقسام الإيمان المتضمنة للإيمان التحقيقي والتقليدي والإجمالي والتفصيلي وثبات الإيمان أمام جميع الشبهات والهجمات الشرسة التي يشنها الكفر.. قد تولت رسائل النور إيضاحها".60
وأثناء تفريقه بين الإيمان التقليدي والتحقيقي يشير إلى مراتب الإيمان التحقيقي بقوله:
"نعم إن الإيمان التقليدي معرّض لهجمات الشبهات والأوهام، أما الإيمان التحقيقي فهو أوسع منه وأقوى وأمتن وله مراتب كثيرة جدا.
ومنها: مرتبة علم اليقين التي تقاوم الشبهات المهاجمة بقوة ما فيها من براهين، بينما الإيمان التقليدي لا يثبت أمام شبهة واحدة. ومنها مرتبة عين اليقين التي تضم مراتب كثيرة جداً بل لها مظاهر بعدد الأسماء الإلهية حتى تجعل الكون يتلو آيات اللّٰه كالقرآن الكريم. ومرتبة أخرى منها هي مرتبة حق اليقين.. وهذه تضم مراتب كثيرة جداً، فصاحب هذا الإيمان لا تنال منه جيوش الشبهات إذا هاجمته".61
دور الإيمان في حياة الإنسان
يتحدث الإمام النورسي -رحمه اللّٰه- عن الدور الذي يؤديه الإيمان في حياة البشرية، وذلك من خلال رؤية عميقة ودقيقة، فنجده يلخص دور هذا الإيمان في حياة الإنسان في النواحي الآتية:
1- الإيمان يجعل الإنسان سلطانا: يقول -رحمه اللّٰه-: "إن الإيمان يجعل الإنسان إنسانا حقاً، بل يجعله سلطاناً؛ لذا كانت وظيفتُه الأساس: 'الإيمان باللّٰه تعالى والدعاء إليه، بينما الكفرُ يجعل الإنسان حيواناً مفترساً في غاية العجز'."62
2- الإيمان يسمو بالإنسان ويكسبه قيمة: يقول-رحمه اللّٰه-: "إن الإنسان يسمو بنور الإيمان إلى أعلى عليين فيكتسب بذلك قيمةً تجعلُه لائقاً بالجنة، بينما يتردّى بظلمةِ الكفر إلى أسفل سافلين فيكون في وضعٍ يؤهّلُه لنار جهنم، ذلك لأنّ الإيمان يربطُ الإنسان بصانعهِ الجليل، ويربطه بوثاق شديد ونسبةٍ إليه، فالإيمان إنما هو انتسابٌ؛ لذا يكتسب الإنسان بالإيمان قيمة سامية من حيث تجلِّي الصنعةِ الإلهية فيه، وظهورِ آيات نقوشِ الأسماء الربانية على صفحةِ وجوده، أما الكفرُ فيقطع تلك النسبةَ وذلك الانتسابَ، وتغشى ظلمته الصنعةَ الربانية وتطمِس على معالمها، فَتنقُص قيمة الإنسان حيث تنحصر في مادّته فحسب؛ وقيمةُ المادة لا يُعتدّ بها فهي في حكم المعدوم، لكونها فانية، زائلة، وحياتُها حياةٌ حيوانيةٌ مؤقتة".63
3- الإيمان يمنح الإنسان قوة: يقول -رحمه اللّٰه-: "كما أن الإيمان نورٌ وهو قوةٌ أيضا، فالإنسان الذي يظفر بالإيمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائناتِ ويتخلصَ من ضيق الحوادثِ، مستنداً إلى قوةِ إيمانه فَيبحرُ متفرجاً على سفينة الحياة في خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام قائلاً: تَوكَّلتُ على اللّٰه، ويسلّم أعباءه الثقيلةَ أمانةً إلى يدِ القُدرةِ للقدير المطلق، ويقطعُ بذلك سبيلَ الدنيا مطمئنّ البال في سهولةٍ وراحةٍ حتى يصل إلى البرزخ ويستريح، ومن ثم يستطيع أن يرتفعَ طائراً إلى الجنة للدخول إلى السعادة الأبدية".64
4- الإيمان ينير الإنسان وينير الكائنات: يقول -رحمه اللّٰه-: "كما أن الإيمان نور يضئُ الإنسان وينوِّرُه ويُظهر بارزاً جميعَ المكاتيب الصمدانية المكتوبة عليه ويستقرِئُها، كذلك فهو يُنير الكائنات أيضاً، وينقذ القرون الخالية والآتية من الظلمات الدامسة".65
5- الإيمان يجعل الإنسان لائقا بحمل الأمانة، ويؤهله لأن يكون خليفة وأمينا على الأرض: يقول -رحمه اللّٰه-: "فالإنسان بمثل هذه العبادة والتفكر يصبح إنسانا حقاً ويُظهر نفسه أنه في 'أحسن تقويم' فيصير بيُمن الإيمان وبركته لائقاً للأمانة الكبرى وخليفة أميناً على الأرض".66
6- الإيمان ينقذ الإنسان من ظلمات العدم والانعدام والعبث: يقول -رحمه اللّٰه-: "إن الإيمان مثلما ينقذ الإنسان من الإعدام الأبدي أثناء الموت، فهو ينقذ دنيا كل شخص أيضا من ظلمات العدم والانعدام والعبث، بينما الكفر -ولاسيما الكفر المطلق- فإنه يعدم ذلك الإنسان، ويعدم دنياه الخاصة به بالموت، ويلقيه في ظلمات جهنم معنوية محولا لذائذ حياته آلاما وغصصاً".67
7- الإيمان يرفع من مكانة الإنسان عند ربه: يقول -رحمه اللّٰه-: "فذلك الإنسان الذي ما كان له أن يرقى إلى مستوى عصفور في تذوقه الحياة، أصبح الآن -بفضل الإيمان بالآخرة- ضيفا مرموقاً في الدنيا، وكائنا سعيدا، ومخلوقاً ممتازا فيها، يرقى فوق جميع الحيوانات، بل يصبح أحب مخلوق، وأكرم عبد عند رب الكون ومالكه".68
8- الإيمان يمنح الإنسان الأدب الجم والتربية الراقية: يقول -رحمه اللّٰه-: "لكي يملك الإنسان المزايا السامية كالأدب الجم والتربية الراقية فان عليه أن يملك إيمانا قوياً"،69 ويقول -رحمه اللّٰه-: "فمن كان يريد السرور الخالص الدائم والفرح المقيم في الدنيا والآخرة، عليه أن يقتدي بما في نطاق الإيمان من تربية".70
9- الإيمان هو اللذة الحقيقية للحياة: يقول -رحمه اللّٰه- "واعلمن يقيناً! أن اللذة الحقيقية في هذه الدنيا إنما هي في الإيمان وفي حدود الإيمان، وأن في كل عمل صالح لذة معنوية، بينما في الضلالة والغيّ آلاما منغصة في هذه الدنيا أيضا".71
ويكرر هذا المعنى قائلا: "فالحياة إن كانت خالية من الإيمان، أو فَقَد الإيمان تأثيره فيها لكثرة المعاصي، فإنها مع متاعها ولذتها الظاهرية القصيرة جداً تذيق الآلام والأحزان والهموم أضعاف أضعاف تلك المتع والملذات، ذلك لأن الإنسان -بما مُنح من عقل وفكر- ذو علاقة فطرية وثيقة بالماضي والمستقبل فضلاً عما هو عليه من زمان حاضر حتى إنه يتمكن من أن يذوق لذائذ تلك الأزمنة ويشعر بآلامها، خلافاً للحيوان الذي لا تعكر صفو لذته الحاضرة الأحزان الواردة من الماضي ولا المخاوف المتوقعة في المستقبل، حيث لم يمنح الفكر".72
ثم يعلن الحكم النهائي فيقول: "هكذا الحياة.. فان كنتم تريدون أن تستمتعوا بالحياة وتلتذوا بها فأحيوا حياتكم بالإيمان وزيّنوها بأداء الفرائض، وحافظوا عليها باجتناب المعاصي".73
موقف إنسان هذا العصر من الإيمان
بعد أن وضّح الإمام النورسي معنى الإيمان ودوره في حياة البشر والبشرية، نجده يتحدث عن موقف إنسان هذا العصر من هذا الإيمان، فها هو ذا يذكر: "أن الإنسان الذي أحسّ في هذا العصر بحاجته الماسة إلى قوة معنوية وصلابة وثبات وإلى عزاء وسلوان، قد ترك حقائق الإيمان التي هي أعظم ركيزة استناد له والتي تضمن له القوة المعنوية والسلوان والسعادة، و استهواه التغرب فاستند إلى الضلالة والسفه، فبدلاً من أن يستفيد من الملة الإسلامية أخذ يحطم القوة المعنوية تحطيماً كاملا، فأزال عنه السلوان وأوهن صلابته بإنسياقه وراء الضلال والسفه والسياسة الكاذبة، ألا ترى أن هذا بعدٌ شاسع عن مصالح الإنسان ومنافعه؟ ألا إن الإنسانية ستدرك يوماً -إن بقي لها من العمر بقية- حقيقة القرآن، وستعتصم به، وفي مقدمتها المسلمون".74
إنها بشارة يسوقها الإمام لكل العالم وبخاصة العالم الإسلامي وهي أنه سيأتي يوم تعلم فيه البشرية أن فوزها وفلاحها هو باتباع خط سير الإيمان للوصول إلى بر الأمان، وبغيره ستبقى البشرية تتخبط في عالم التيه والضلال.
وكفى بهذه المقولة ختاما.
* * *
الهوامش:
1 أستاذ اللغويات المشارك، جامعة تعز، اليمن.
2 النورسي: "الكلمات" ص 355.
3 النورسي: "المكتوبات" ص 78.
4 النورسي: "الملاحق" ملحق بَارْلا ص 80.
5 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 145.
6 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 159.
7 النورسي: "الملاحق" ملحق أميرداغ 1، ص 311.
8 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 136.
9 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 135.
10 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 529.
11 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 529.
12 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 542.
13 النورسي: "اللمعات" ص 242.
14 النورسي: "اللمعات" ص 408.
15 النورسي: "الشعاعات" الشعاع الرابع عشر، ص 525.
16 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 145.
17 النورسي: "اللمعات" اللمعة السادسة عشرة، ص 158.
18 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 114.
19 النورسي: "الشعاعات" ص 362.
20 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 394.
21 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 394.
22 النورسي: "الشعاعات" ص 459.
23 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 369.
24 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 524.
25 النورسي: "اللمعات" ص 158.
26 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 133.
27 النورسي: "الشعاعات" ص 593.
28 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 401.
29 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 128.
30 النورسي: "اللمعات" ص 256.
31 النورسي: "إشارات الإعجاز" ص 67.
32 النورسي: "إشارات الإعجاز" ص 51.
33 النورسي: "المثنوي العربي النوري" ص 135.
34 النورسي: "المثنوي العربي النوري" ص 136.
35 النورسي: "المثنوي العربي النوري" ص 135.
36 النورسي: الكلمات" ص 161.
37 النورسي: "إشارات الإعجاز" ص 50.
38 النورسي: "إشارات الإعجاز" ص 57.
39 النورسي: "الملاحق" ملحق قَسْطَمُونِي، ص 108.
40 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 258.
41 النورسي: "الكلمات" ص 478.
42 النورسي: "الشعاعات" ص 135.
43 النورسي: "الشعاعات" ص 323.
44 النورسي: "إشارات الإعجاز" ص 77.
45 النورسي: "اللمعات" ص 384.
46 النورسي: "إشارات الإعجاز" ص 51.
47 النورسي: "الشعاعات" ص 254.
48 النورسي: "الملاحق" ص 278.
49 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 261.
50 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 266.
51 النورسي: "الشعاعات" ص 439.
52 ملحق قسطموني، ص224.
53 النورسي: "الملاحق" ص 272.
54 النورسي: "الملاحق" ص 152.
55 النورسي: "الملاحق" ص 151.
56 النورسي: "الملاحق" ص 262.
57 النورسي: "الملاحق" ص 111.
58 النورسي: "الملاحق" ص 278.
59 النورسي: "الملاحق" ص 110.
60 النورسي: "الملاحق" ص 277.
61 النورسي: "الملاحق" ص 278.
62 النورسي: "الكلمات" ص 354.
63 النورسي: "الكلمات" ص 348.
64 االنورسي: "الكلمات" ص 352.
65 النورسي: "الكلمات" ص 350.
66 النورسي: "الكلمات" ص 373.
67 النورسي: "الكلمات" ص 540.
68 النورسي: "الشعاعات" ص 279.
69 النورسي: "الشعاعات" ص 591.
70 النورسي: "الكلمات" ص 159.
71 النورسي: "اللمعات" ص 313.
72 النورسي: "الكلمات" ص 160.
73 النورسي: "الكلمات" ص 161.
74 النورسي: "صيقل الإسلام" ص 521.