مفهوم البلاغة عند بديع الزمان سعيد النورسيّ

مفهوم البلاغة عند بديع الزمان سعيد النورسيّ
- قراءة في المصطلح وأبعاده القرآنية -

- ABSTRACT -
The Concept of Rhetoric According to Bediuzzaman Said Nursi
- Exploring the Term and Its Qura'nic Dimensions
-

Prof. Dr. Aziz Muhammad Adman

This scientific paper aims at exploring the concept of rhetoric according to Bediuzzaman Said Nursi - May God bless his soul - throughout the Risale-i Nur which includes a number of concepts and rhetorical and critical views

A profound and reflective reading of the Risale-i Nur will reveal the essence of Qur'anic rhetoric compared to human rhetoric and clarify the fundamental differences between them.

On exploring the views of Bediuzzaman, we find that he tackles some problems related to rhetorical heritage. Thus, it is important to examine applied terminology, which is a corner-stone in the field of rhetoric .While we recognize the difficulty of tracking rhetorical terminology employed by Nursi in the interpretation of the Qur'an, we are aware that forbearing and prudent reading of his Risale will pave the way for achieving the objective of this study.

There is no doubt that in the comprehensive Risale-i Nur there is a wellspring of bright ideas in the field of Qur'anic rhetoric which are detected and examined by Nursi. Bediuzzaman has acknowledged the difficulty of this work for political, psychological, spiritual, educational and cognitive considerations; that is why his views appear scattered in the Risale. It takes patience and accuracy in order to collect them, and understand their meanings.

Did Nursi establish a novel theory in Arabic rhetoric? Or was it an extension of the old rhetorical heritage? What were his references that formed his rhetorical consciousness and artistic views? Did the Political and psychological conditions that embraced this timeless achievement prevent him from achieving the desired systematic discipline, and proper arrangement? Do these concepts form seeds for a theory in Qur'anic rhetoric? What are the elements and the basics of Qur'anic rhetoric?

The attempt to answer these questions has stimulated the desire to clarify the term rhetoric in the writings of Nursi as he viewed it from Qur'anic perspective in order to prove and install facts of faith. In order to detect the root of rhetorical terms, Nursi depended on the Quran and guided his search with verses of realistic and rhetorical examples. In addition, Nursi guided his work with rational judgment.

A fair and honest researcher cannot ignore the spiritual energy, and the amazing ability to call evidence in addition to Divine support which were Nursi's best tools in writing his Risale-i Nur. It is an enormous energy that resembles passionate love experienced by Sufis. For this reason, the researcher in Risale-i Nur needs to live a spiritual experience in order to combat any difficulties and explore subtle meanings, because in some places Nursi's ideas look subtle, and ambiguous. Thus, there is a lot of hidden references and wisdoms between the lines that need a clever and attentive mind to point them out and understand them.

This analytical study tries to delve into the depth of some of the views, and concepts; with the assistance of the texts of Bediuzzaman Said Nursi without exaggeration in the description, or overloading it with evidence and examples.

* * *

- ملخص البحث -

أ.د. عزيز محمد عدمان1

تهدف هذه المقاربة العلمية إلى استكشاف مفهوم البلاغة عند الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسيّ -رحمه الله- في رحاب رسائل النور التي ضمّنها جملة من المفاهيم، والآراء البلاغية، والنقدية.

ولعل قراءة واعية مبصرة لبعض رسائل النور ستكشف النقاب، وترفع الحجب عن حقيقة البلاغة القرآنية في مقابل البلاغة الإنسانية؛ لتتضح الفروق الجوهرية بينهما.

والمستقرئ لجملة آراء بديع الزمان يلفي أنها تطرح بعض الإشكاليات المتعلقة بالموروث البلاغيّ؛ ومن ثم يتطلب الأمر فحص الجهاز المصطلحيّ الذي يُشّكل لبنة في الدرس البلاغيّ الحديث. ومع إقرارنا بصعوبة ضبط شبكة المصطلحات البلاغية التي وظفها النورسيّ في تفسير القرآن الكريم؛ إلا أن القراءة الصابرة والحصيفة لرسائله ستمهّد الطريق لبلوغ الغاية المنشودة من هذه المقاربة.

ولا جدال في أن رسائل النور على ضخامتها تعدُّ معيناً لا ينضب من الأفكار المضيئة في مجال البلاغة القرآنية التي تصدى النورسيّ للبحث في تخومها، ومنعرجاتها. وقد أقرّ بديع الزمان سعيد النورسيّ بصعوبة المسلك، ووعورة المأخذ لاعتبارات سياسية ونفسية وروحية وتربوية ومعرفية؛ ومن ثم جاءت آراؤه متناثرة في رسائل النور في مواطن متباعدة محوجة لكثير من الأناة، والرفق في فهمها، وإدراك معانيها.

فهل استطاع الأستاذ النورسيّ أن يؤسس لنظرية في البلاغة العربية؟ أم كان امتداداً للموروث البلاغيّ القديم؟ وما هي المرجعية التي شكّلت وعيه البلاغيّ والجمالي؟ وهل الظروف السياسية والنفسية التي احتضنت هذا الإنجاز الخالد حالت دون بلوغ رسائل النور الغاية المنشودة من الانضباط المنهجيّ، والترتيب المعرفيّ السليم؟ وهل تُشكِّل هذه المفاهيم بذوراً لنظرية في البلاغة القرآنية؟ وما هي مقومات البلاغة القرآنية، وأسسها ومرتكزاتها؟

إن محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات مجتمعة هي التي حرّكت الرغبة في استجلاء مصطلح البلاغة عند النورسيّ من منظور قرآنيّ يستند إلى إثبات الحقائق الإيمانية، وتثبيتها؛ فقد تحرّك النورسيّ في تأصيله لبعض المفاهيم البلاغية في فضاء النص القرآنيّ؛ مسترشداً بآليات التمثيل البيانيّ والواقعيّ، والمحاكمة العقلية التي هي أعدل قسمة بين الناس.

ولا يستطيع باحث منصف أمين أن يتجاهل الطاقة الروحية، والاستدلالية الخارقة، والمدد المعرفيّ الربانيّ الذي توسل به النورسيّ في تحرير رسائل النور؛ وهي طاقة عارمة أشبه ما تكون بالوجد الروحي والعرفانيّ الذي يعايشه المتصوفة؛ ولهذا السبب يحتاج الباحث في رسائل النور إلى أن يرقى إلى هذه الفضاءات مع قلة الوسائل المعرفية، وصعوبة المأخذ، ودقة الملتمس؛ ففي بعض أفكار النورسيّ شدة خفاء، وفرط غموض؛ ومن ثم كثرت اللطائف والنكت التي لا يدركها إلا من أوتي ذهناً صافياً، وعقلاً نافذاً.

ولقد حاولتْ هذه المعالجة التشريحية على بساطتها أن تنفذ إلى عمق بعض الآراء، والمفاهيم؛ مستعينةً بنصوص بديع الزمان النورسيّ دون مبالغة في الوصف، أو إغراق في حشد الشواهد والأمثلة.

* * *

مقدمة:

تروم هذه الدراسة الأكاديمية تقديم قراءة في رسائل النور للعلاّمة الجليل بديع الزمان سعيد النورسيّ (1294هــ- 1379هـ)؛ وخليق بالإيماءة أن الطبيعة الموسوعية لفكر النورسيّ، وخصائص أسلوبه المتميز بالطابع العرفانيّ، والبيانيّ يجعلان من الصعوبة بمكان حصر أبرز القضايا البلاغية التي تناولها؛ إذ تبلغ رسائل النور مائة وثلاثين رسالة؛ وقد يقارب بعضها الألف صفحة (تبلغ الكلمات 955 صفحة)؛ ولاعتبارات منهجية خالصة تم التركيز على مصنّفيه: "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز"، و "رسالة المعجزات القرآنية".

ولعل من مقتضيات المنهجية العلمية انسجام الفرضيات، والمقدمات مع نتائج البحث؛ بيد أن طبيعة التأليف وخصوصياته عند النورسيّ قد تفضي إلى محاولة الإلمام قدر الإمكان بمفهوم البلاغة الذي تناثر في ثنايا الإشارات، ورسالة المعجزات وغيرهما؛ ومن ثم سلك بديع الزمان مسلك الاسترسال والتكرار دون التقيّد بأصول التصنيف المعرفيّ للاعتبارات الآتية التي نرى أنها من موانع التأليف المنهجيّ المتكامل:

1. اعتبارات تاريخية وسياسية (ظروف الحرب العالمية الأولى).

2. مراعاة غايات التدريس، ومقاصدها المعرفية، والتربوية.

3. مراعاة صفاء ذهن المتلقي، وعدم تكدير روحه، وتلويث عقله من خلال عرض الشبهات؛ وإنما ردّه عليها -في نظره- هو الأسلم في المحافظة على نقاء سريرة القارئ، وصفاء ذهنه.

4. حالاته الوجدانية، والنفسية المتقلبة التي قادته إلى اكتشاف شخصيته العلمية في رحاب إعادة النظر في أسلوبه "سعيد القديم، وسعيد الجديد".

ولقد أدرك بديع الزمان النورسيّ -رحمه الله- بحسه المنهجيّ والنقديّ المتفرّد أنّ مسلك النظر القويم في موضوعات الإعجاز، والبلاغة القرآنية محوج لآليات التنقيح، والترتيب، والتنسيق؛ غير أن ملابسات المحيط السياسي والنفسي والاجتماعي والروحي حالت دون بلوغ رسائل النور مبلغ الكمال الذي كان ينشده النورسيّ.

ومع إقرار النورسيّ -رحمه الله- بنقص منهجه في التحرير والتقييد، وحاجة إشاراته وتنبيهاته وفوائد تفسيره إلى إعمال الفكر، وإجالة النظر؛ إلاّ أنه لم يسلك منهج التصحيح، والتنقيح والتهذيب؛ لإحساسه الروحيّ، وصدق مقصده، وصفاء نيته.

وفي رحاب هذه الملابسات الوجدانية، والنفسية التي صاحبت التأليف يعترف النورسيّ بالتقصير مع إقراره بأن عمله مقاربة صادقة جادة تعوزها المراجعة المستمرة، والتأمل الدؤوب؛ ومن ثم فإن إنجازه يندرج ضمن مصادر ومراجع في التفسير، وليس تفسيراً متكاملاً بكل ما تحمله كلمة تفسير من وسائل علمية، وإجراءات منهجية خاصة؛ ذلك أنّ الشوق، وصدق النية وصفاء القلب والروح هو الذي قاد بديع الزمان سعيد النورسيّ إلى الخوض في بحر التفسير مع اعترافه الكامل كما تقدم بصعوبة المسلك، ودقة المأخذ.

ويشهد على هذا الوعي المنهجيّ عند النورسيّ مع عدم تقيده بمقتضيات المنهجية العلمية الصارمة في التصنيف عنوان كتابه: "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز"؛ ولعل في اختيار النورسيّ لعبارة "إشارات" ما يكفي للتدليل على أن المقصد ليس التقصي الدقيق، والتأمل العميق في كلّ آيات القرآن الكريم؛ وإنما هي إشراقات، وأنوار انهالت عليه من سحائب الغيب في حالة وجدانية، ونفسية أشبه ما تكون بحالة المتعبّد في ملكوت الله بالافتقار والعجز.

إشكالية البحث:

مما اتفق العقلاء عليه أن من صنَّف استُهدِف، ومن ألفَّ فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس؛ وأكبر الظن أن بديع الزمان النورسيّ كان مدركاً تمام الإدراك لحقيقة ملاحقة كثير من الباحثين، والأنصار، والأعداء لمؤلفاته تحليلاً، واستيعاباً، ونقداً؛ كما أن المعروض الفكريّ والمعرفيّ النورسيّ المقدم للفحص، والتأمل والقراءة يعكس جملة من الحقائق:

1. تُشكّل رسائل النور في مجملها رؤية فكرية، وحضارية في منتهى التحقيق والعرفان والإتقان.

2. من الدواعي التي حرّكت رغبة التأليف، والتصنيف عند النورسيّ إثبات الحقائق الإيمانية وتثبيتها في رحاب مدد روحيّ، وعرفانيّ قلّ نظيره.

3. أسّسَ النورسيّ بأفكاره البلاغية والإعجازية لبنة في صرح الإعجاز اللغويّ، والبيانيّ؛ ذلك أنه تمثّل التراث البلاغي القديم تمثّلاً علمياً راقياً ساقه إلى بناء كيان معرفيّ مستقل بذاته.

4. شيّدَ بديع الزمان النورسيّ قاعدة جمالية، ونقدية تستند إلى نظريات تحليل الخطاب، والأسلوبية الحديثة.

والمستقرئ لإشارات الإعجاز، ورسالة المعجزات القرآنية خاصة يلفي أن بديع الزمان النورسيّ بذل جهداً علمياً لافتاً للنظر في مجال البلاغة القرآنية، والإعجاز البيانيّ؛ وهو جهد يتجاوز القراءة النمطية الجاهزة إلى أبعاد جمالية رحيبة. وفي هذا المقام خليق بنا عرض جملة من الأسئلة نراها المدخل المنهجي للبحث في مفهوم البلاغة القرآنية عند النورسيّ. فهل كان مجدداً مبدعاً في مقاربته لقضايا البلاغة العربية أم ناقلاً جمّاعاً؟ وهل استطاع أن يتجاوز سابقيه ومعاصريه أم كان امتداداً لثقافة الدرس البلاغيّ القديم؟ وما المصادر التي شكّلت وعيه البلاغيّ والفنيّ؟ وهل تُشكِّلُ جملة الإشارات، والتنبيهات التي ذكرها بذوراً لنظرية بلاغية ونقدية في التراث البلاغيّ؟ وما الآليات التي استعان بها في ضبط مفهوم البلاغة القرآنية؟

أولاً: علاقة البلاغة بالإعجاز القرآنيّ عند بديع الزمان سعيد النورسيّ:

لا جدال في أن البحث عن مفهوم البلاغة عند النورسيّ يتطلب جهداً مضنياً، ورحلة شاقة في مضمون رسائل النور؛ وأغلب الظن أن مكمن المشقة في ضخامة الرسائل، وتناثر هذا المفهوم بين جنباتها وصفحاتها -كما تقدم تقريره سالفاً-؛ مما يستوجب قراءة هادفة؛ كما أن أسلوب بديع الزمان النورسيّ قد يُعقّد مسلك الظفر بهذا المصطلح؛ ويفضي إلى ضياع المطلوب. فقارئ رسائل النور يجد نفسه أمام شخصية متعددة المشارب، والاختصاصات، والمناهل؛ فهناك سعيد النورسيّ الزاهد السابح في فضاء العرفان، وهناك شخصية سعيد البلاغيّ الغارق في بحر البيان والمعاني وكأننا أمام شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجاني؛ -وقد استلهم بديع الزمان النورسيّ كثيرا من أفكاره؛ بل اقتفى أسلوبه في كثير من المواضع تلميحاً أو تصريحاً-؛ وهناك شخصية سعيد العسكريّ الذي خاض غمار الحرب العالمية الأولى مما جعله يستند إلى أسلوب التمثيل العسكري؛ وهناك شخصيات أخرى.

ولا نزاع في أن من متطلبات المنهجية أن يتم الفصل بين كل هذه الجوانب المتعددة والمتداخلة في شخصية رجل واحد؛ ليتم التركيز على البعد البلاغيّ الذي هو مطمحنا ومرادنا من هذه المقاربة التشريحية.

ولا يمكن لباحث حصيف أن يظفر بمفهوم البلاغة القرآنية عند النورسيّ بمعزل عن فكرة الإعجاز القرآنيّ؛ ذلك أن مباحث البلاغة العربية قد ارتبطت ارتباطا تاريخياً وعضوياً بإعجاز القرآن؛ إذ يرى بديع الزمان سعيد النورسيّ أن الإعجاز هو خلاصة اللطائف البلاغية والنكت الجمالية؛ وفي سياق تفسيره لسورة البقرة يقول: "إن الإعجاز قد تنّفس من أفق" الم "لأن الإعجاز نور تجلى من امتزاج لمعات لطائف البلاغة".2

فاللمسات البلاغية، والأسرار الجمالية لسورة البقرة هي منبع الإشراق، ومصدر انبثاق الإعجاز؛ ولعل في تشبيه النورسيّ للإعجاز بالنور المتجلي ما يوحي بأنّ بلوغ مكمن النكت البلاغية من خصوصيات ناظر أمين، ومبصر مدقق لا يكتفي بالنظرة العابرة العجلى؛ ذلك أنّ اللطائف مما دقّ سبيله، ولطف مسلكه؛ فهي إشارات وإيماءات خاطفة لا يراها إلاّ الحاذق الماهر بفن البلاغة وأصولها؛ ومن تعذّر عليه إدراك لطائف سورة البقرة فهو فاسد المزاج يحتاج إلى علاج؛ أو في أسوأ الحالات هو مقلّد عاجز عن معاينة فضاء التجلي البلاغي: "ومن لم ير نقشاً عالياً من انتساج هذه الخيوط -وإن دقّ البعض- فهو دخيل في صنعة البلاغة فليقلّد فتاوى أهلها".3

ولقد حصر العلاّمة النورسيّ -رحمه الله- الإعجاز في البلاغة؛ وهو حصر أجمع عليه أهل الصناعة والاختصاص؛ إلا أن الوجه البلاغيّ هو من صناعة المحققين؛ بخلاف بقية الوجوه الأخرى التي قد يدركها العوام والخواص؛ ومن ثم يُفهم اشتراط النورسيّ المكنة البلاغية العالية، والملَكة الراسخة لفك ما استغلق من قضايا الإعجاز البلاغيّ. يقول النّورْسيّ: "إن قيل: إن إعجاز القرآن في البلاغة. ومن حقّ كل الطبقات أن توجد حصصهم في إعجازه، مع أن إعجازه في البلاغة إنما يفهمه في الألف، عالم محقق فقط..."4

ثانياً: مفهوم البلاغة الإرشادية:

لاريب أن مفهوم البلاغة كما هو مقرر في التراث البلاغيّ القديم لا يبعد عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال؛ مع بعض التفصيلات التي ذكرها علماء البلاغة، وتفننوا في شرحها وتفسيرها؛ بيد أن مفهوم النّورسيّ للبلاغة يعّدُ في نظرنا نقلة ناضجة، وقفزة نوعية في تجديد جهاز المصطلحات البلاغية؛ إذ ربط البلاغة بالإرشاد وهو مفهوم كونيّ وروحيّ، وتربويّ؛ وهذا ما يفسّر علاقة البلاغة بالمقاصد الإيمانية. فالبلاغة هي آلة الإرشاد، والتوجيه إلى مسالك الحقائق النورانية؛ وبعبارة أكثر إشراقاً: فإن تقييد النورسيّ للبلاغة بالوظيفة الإرشادية يحدّد مصدر البلاغة ووظيفتها القرآنية؛ بيان ذلك أنه استقرّ في عرف القدماء أن البلاغة بمفهومها الواسع هي التي تقوم بوظيفة نقل المعنى إلى المتلقي مع فصاحة اللفظ وجماله دون مراعاة البعد التوجيهيّ. وفي هذا المضمار يعرّف بديع الزمان النّورسيّ البلاغة الإرشادية قائلاً: "إن القرآن لأنه مرشد لكل طبقات البشر تستلزم بلاغة الإرشاد أن لا يذكر ما يوقع الأكثر في المغالطة والمكابرة مع البديهيات في نظرهم الظاهري، وأن لا يغيّر بلا لزوم ما هو من المتعارفات المحسوسة عندهم، وأن يهمل أو يجمل ما لا يلزم لهم في وظيفتهم الأصلية."5

ومقتضى كلام النورسيّ أن من إعجاز القرآن أن يترك التعبير القرآنيّ الخوض في بعض القضايا الكونية والفلسفية، ويجنح إلى الإبهام تارة أخرى، والإجمال في بعضها الآخر. ولهذا المسلك الإعجازيّ ما يسوغه انطلاقاً من أسمى مقاصد القرآن؛ وهو الإرشاد الشامل لكل البشرية؛ ولعل من موجبات الإرشاد البلاغيّ مراعاة أسلوب البعد عن التفاصيل التي هي محل إقرارٍ عند البشر كما أن تغيير ما استقرّ في عرف المألوف، والمعهود مدعاة لتشويش فكر العامة.

فالإهمال والإجمال والتفصيل منوط بمراعاة نظر العامة؛ ذلك أن المقصد من بعض الظواهر الكونية هو التركيز على الصانع لا الولوج في جزئيات الظاهرة؛ ومن ثم يرى بديع الزمان النورسيّ أن من عوائق الإرشاد، وموانع التبليغ التفصيل في غير مجاله؛ لأن ذلك قد يفضي إلى ضياع المقصد من النظر في المسائل من الناحية الوظيفية. وفي هذا السياق يقول بديع الزمان النورسيّ -رحمه الله -: "إن من شأن البلاغة الإرشادية مماشاة نظر العموم، ومراعاة حسّ العامة ومؤانسة فكر الجمهور؛ لئلا يتوحش نظرهم بلا طائل ولا يتشوش فكرهم بلا فائدة، ولا يتشرد حسهم بلا مصلحة فأبلغ الخطاب معهم والإرشاد: أن يكون بسيطاً سهلاً لا يعجزهم، وجيزاً لا يملهم، مجملاً فيما لا يلزم تفصيله لهم".6

فالبلاغة الإرشادية بهذا المفهوم هي السهل الممتنع الذي يحقق المقاصد الآتية:

1. مراعاة مستويات المتلقين من حيث اختيار أنسب الأساليب السهلة المأنوسة.

2. انتقاء أسلوب الإيجاز الذي يقرّب البعيد، ويحذف فضول الكلام، وزائده.

3. الإجمال الذي يراعي قدرة العوام الاستيعابية أنسب من التفصيل المملّ الذي يضيّع المطلوب، ويبدّد المقصود.

4. من ثمرات البلاغة الإرشادية حصول الأنس لدى العامة، واستبعاد الوحشة، والتشويش والشرود الحسيّ الذي يسبّبه سوء التصرف في مخاطبة الجمهور، وتوظيف الأساليب البلاغية غير المأنوسة التي لا تراعي آليات الإدراك، وأدوات الاستيعاب والنظر.

ثالثاً: البلاغة القرآنية والبلاغة الإنسانية:

من المصطلحات المركزية التي كان للنورسيّ فيها قصب السبق، وسعة الذراع في بيانها وإضاءتها هو الوقوف على الفوارق الجوهرية بين الخطاب القرآنيّ في تجلياته البلاغية، والخطاب الإنسانيّ بوصفه تعبيراً أدبياً عن تجربة وجدانية في صورة موحية.

وللتدليل على أن البلاغة القرآنية من كلام الله تعالى؛ عقد النورسيّ مقارنة بين الخطاب الإلهيّ، والخطاب البشريّ لينتهي إلى أن البلاغة القرآنية تحمل خصوصيات البقاء الفنيّ، والخلود الجماليّ في أصل وجودها مع ملاحظة النقص التعبيريّ، والأسلوبيّ في أصل نشأة الخطاب البشريّ. يقول بديع الزمان النورسيّ: "إن من شأن صنعة البشر أنها تظهر أول ما تظهر خشنة ناقصة من وجوه، يابسة من الطلاوة، ثم تتكمل وتحلو. مع أن أسلوب القرآن لما ظهر ظهر بطلاوة وطراوة وشبابية، وتحدّى مع الأفكار المعمرين -بتلاحق الأفكار وسرقة البعض عن البعض- وغلبهم فأعلن بالغلبة: 'إنه من صُنع خالق القوى والقدر'."7

وفي هذا النص إشارة واضحة إلى ألوهية مصدر القرآن، بوصفه منبع الجمال والكمال اللغويّ، والأدبيّ؛ ذلك أن أدبية القرآن متأصلة فيه، وليست طارئة أو عرضية، وهي سمة جوهرية ملازمة للخطاب القرآنيّ منذ الأزل لا تنفك عنه، ولا تزايله؛ فهي امتداد لهذا الجمال الإلهيّ الذي تقصر قوى البشر عن إدراكه.

ويشير النورسيّ في موضع آخر إلى موقع التعبير الأدبيّ في تهذيب النفوس، وتليين القلوب؛ ذلك أن الأدب القرآنيّ ألصق بالنفس الإنسانية التي تأنس بجمال العبارة، وحسن التعبير. وفي هذا المضمار يقول النورسيّ -رحمه الله-: "وكذا تأمل في خاصية المعجزة الكبرى التي هي خاصية الناطقية التي هي خاصية الإنسانية وهي الأدب والبلاغة، ثم تدبر في أن أعلى ما يُربي روح البشر وألطف ما يصفّي وجدانه وأحسن ما يزّين فكره وأبسط ما يوسع قلبه إنما هو نوع من الأدبيات. ولأمر ما ترى هذا النوع أبسط الفنون وأوسعها مجالاً وأنفذها وأشدها تأثيراً وألصقها بقلوب البشر حتى كأنها سلطانه. فتأمل!"8

فالأدب الرفيع هو الأدب الذي يسمو بالنفس البشرية إلى مراتب الطهر الروحيّ، والصفاء الوجدانيّ، والنقاء النفسيّ؛ فالبلاغة بهذا المفهوم تتجاوز إطار المعجزة إلى التوجيه التربويّ، والإرشاد العقليّ؛ وكأن النورسيّ أراد أن يميز بين الأدب القرآنيّ الموجّه إلى منابع الأريحية، والسعادة القلبية، والأدب بمفهومه البشريّ الذي قد لا يخلو من عبثية ظاهرة.

ويستند النورسيّ في التدليل على أدبية القرآن، وتفوّقه الجماليّ، والروحيّ إلى مقارنته بأجمل وثيقة فنية خالدة في التراث العربيّ والإسلاميّ؛ وهي شعر المعلقات؛ إذ يقول: "إن القرآن الكريم قد أظهر بلاغة أيما بلاغة، منذ ذلك العصر إلى زماننا هذا، حتى إنه حطّ من قيمة 'المعلقات السبع' المشهورة وهي قصائد أبلغ الشعراء".9

ويبرز النورسيّ ملمحاً آخر من ملامح تفرد البلاغة القرآنية من جهة التسلسل الإجماليّ للآيات؛ وهو تتابع تلقائي عفويّ في منتهى الإيجاز والإعجاز. وفي هذا المقام يشير النورسيّ قائلاً: "إذا أنعم النظر في آيات القرآن الكريم بعين الإنصاف لشوهدت أنها لا تشبه فكراً تدريجياً متسلسلاً يتابع مقصداً أو مقصدين كما هو الحال في سائر الكتب بل إنها تُلقى إلقاءً، ولها طور دفعي وآني، وإن عليها علامة أن كل طائفة منها ترد معاً إنما ترد مستقلة وروداً وجيزاً منجّماً ومن مكان قصي ضمن مخابرة في غاية الأهمية والجدية".10

فطريقة عرض النظم القرآنيّ للآيات القرآنية تختلف عن العرض الأدبيّ الذي يتقيد بتسلسل مدروس مصطنع؛ وإنما العرض تتجلى فيه الحكمة فترد آياته القرآنيّ دفعة واحدة متآخية يأخذ بعضها بعنق بعض متلاحقة في سياق تعبيريّ وزمانيّ منسجم؛ إذ ترد الآيات بما يراعى فيه التميز والإيجاز.

رابعاً: أسس البلاغة القرآنية وخصائصها:

لا مناص لنا من الإقرار بأن رسائل النور زاخرة بالحديث عن خصائص البلاغة القرآنية ومقوماتها؛ ولاعتبارات منهجية بحتة سنتناول أبرز هذه الخصائص؛ لأن المقام لا يسمح بالمزيد من البسط والاستفاضة والإشباع.

1. السلاسة الفطرية: إن من أبرز إنجازات بديع الزمان سعيد النورسيّ في مجال البلاغة القرآنية أنه ربط وسائل التعبير القرآنيّ بالإرشاد البليغ؛ وهو ربط يوحي بمتانة العلاقة الوثيقة بين البلاغة بوصفها وسيلة للإقناع العقليّ والعاطفيّ، وبين المقاصد الإيمانية. ولعل من أبين أسس البلاغة القرآنية سلاسة الأسلوب الذي ينساب كالماء الصافي الرقراق دون تكلف أو تعقيد أو غرابة أو غموض؛ فهو سلس منساب تنقاد مطيعة له الألفاظ والمعاني. ولا شك أن هذه السلاسة فطرية متأصلة في الأسلوب القرآنيّ، وليست دخيلة عليه مقحمة على فضائه. وقد روعي في هذه السلاسة محدودية مستوى المتلقين والمخاطبين به؛ فتلقته العوام بالقبول والاستحسان والإعجاب. يقول بديع الزمان: "ويظهر إعجازه الجميل أيضا في 'أسلوب إرشاده البليغ' حيث راعى أحسن الرعاية أمية مُبَلِّغه الكريم باحتفاظه التام على سلاسته الفطرية، فهو أجلّ من أن يدنو منه تكلف أو تصنّع أو رياء -مهما كان نوعه- فجاء أسلوبه مستساغاً لدى العوام الذين هم أكثرية المخاطبين، ملاطفاً بساطة أذهانهم بتنزلاته الكلامية القريبة من أفهامهم..."11

2. الجامعية: انفرد بديع الزمان النورسيّ -رحمه الله- بالحديث عن شمولية الخطاب القرآنيّ لمختلف الأساليب البلاغية والمعارف الكونية والعلمية؛ وبهذه الجامعية اعتُبر فِهرساً جامعاً وافياً لمختلف العلوم والآداب وفضائل الأخلاق. وقد لفت نظر النورسيّ في هذا الجمع الدقة المتناهية، والعرض المتسلسل الذي لا يشوبه اضطراب أو نشاز أو انقطاع. وفي هذا المضمار يقول النورسيّ: "إن القرآن المعجز البيان قد جمع أنواع البلاغة، وجميع أقسام فضائل الكلام، وجميع أصناف الأساليب العالية وجميع أفراد محاسن الأخلاق، وجميع خلاصات العلوم الكونية، وجميع فهارس المعارف الإلهية، وجميع الدساتير النافعة للحياة البشرية الشخصية والاجتماعية، وجميع القوانين النورانية السامية لحكمة الكون (...) إن جمع جميع هذه الأجناس المختلفة الكثيرة في موضع واحد من دون أن ينشأ منه اختلال نظامٍ أو اختلاط وتشوش، إنما هو شأن نظام إعجاز قهّار ليس إلا".12

ويفصّل بديع الزمان النورسيّ مفهوم الجامعية الذي يتكون من خمسة أسس؛ منها ما هو ألصق بمفهوم البلاغة القرآنية. وهذا ما أشار إليه قائلاً: "للقرآن جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده. لفظه: يتضمن احتمالات واسعة ووجوهاً كثيرة بحيث إن كل وجه تستحسنه البلاغة، ويستصوبه علم اللغة العربية، ويليق بسّر التّشريع".13

فالتوسع هو الغنى اللفظيّ، وثراء الدوال هو أحد مرتكزات مفهوم الجامعية؛ وهو ثراء يدلّل على أن الخطاب القرآنيّ مرن يستجيب لكل الاحتمالات اللفظية الممكنة التي تقرّها البلاغة، وتعضّدها أساليب العرب. فالشمول سمة اللفظ القرآنيّ الذي يفضي إلى امتداد دلاليّ، واتّساع لفظيّ منتج لخطابٍ مكثّف أسلوبياً.

ومن ينعم النظر، ويستقصي التأمل في مفهوم الجامعية يلفي أن بديع الزمان يقدم مفهوماً لجامعية اللفظ يكاد يطابق ما استقر في الدراسات اللسانية والأسلوبية الحديثة التي تركزّ على القيمة التعبيرية للحرف أو ما يسمى بالرمزية الصوتية (Symbolisme du son)؛ إذ يرى أن الجامعية الخارقة في لفظ القرآن تتجاوز اللفظة إلى الحركات الإعرابية. وفي هذا المعنى يقول: "إن الألفاظ القرآنية قد وُضعت وضعاً بحيث: إن لكل كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى لسكون أحياناً وجوهاً كثيرة جداً، تمنح كل مخاطب حظّه ونصيبه من أبواب مختلفة".14

وأما الجامعية في المعنى؛ فهي التوسع الدلاليّ الذي يميز المعاني القرآنية؛ ويجعل المعنى زاخراً بإيحاءات دلالية، وظلال مشرقة؛ ويرى بديع الزمان النورسيّ أن هذه الجامعية الدلالية شاملة لكل الطوائف والبيئات والمذاهب؛ وفي هذا المقام يقول: "في معناه: لقد أحاط ذلك البيان المعجز بمشارب الأولياء وأذواق العارفين ومذاهب السالكين، وطرق المتكلمين، ومناهج الحكماء، بل قد تضمن كلَّها. ففي دلالاته شمولٌ وفي معناه سعة".15

ويوظف بديع الزمان النورسيّ عبارة الخزينة التي لا تنضب في وصف جامعية المعنى في القرآن الكريم؛ إذ يرى أن الجامعية تتعدى عتبة الدال والمدلول إلى الأسلوب القرآنيّ، وإيجازه. وفي هذا الصدد يشير قائلاً: "إنّ لأسلوب القرآن جامعية عجيبة، حتى إن سورة واحدة تتضمن بحر القرآن العظيم الذي ضم الكون بين جوانحه، وإن آية واحدة تضم خزينة تلك السورة. (...) فمن هذا الإيجاز المعجز ينشأ لطف عظيم للإرشاد وتسهيل واسع جميل. لأن كل إنسان على الرغم من حاجته إلى تلاوة القرآن كل وقت، فإنه قد لا يتاح له تلاوته، إما لغباوته وقصور فهمه أو لأسباب أخرى".16

وقد استرعى نظري هنا أن النورسيّ يتحدث عن مفهوم الاختزان أو التكثيف الأسلوبي ّ الذي يتشكل من معين لا ينضب من المفردات والمعاني؛ وقد ربط النورسيّ مفهوم الاختزان بالإرشاد وتيسير التلاوة؛ إذ يرى أن الآية الواحدة قد تفي بالغرض المقصود من التلاوة؛ لأنها مغنية ومشبعة، وفاضلة عن الكفاية.

ويعزو النورسيّ جامعية الأسلوب القرآنيّ إلى الصورة الفنية المركبة من جزئيات تُشكّل في مجموعها صورة جمالية يشارك الخيال في نسجها وتركيبها وتشكيلها؛ بحيث: "إن حلل الكلام أو جماله وصورته: بأسلوبه، أي بقالب الكلام. إذ الأسلوب يتنور ويتشرب ويتشكل باتخاذه تلاحق قطعات الاستعارة التمثيلية، المركبة من الصور، الحاصلة بخصوصيات من تمايلات الخيال، المتولدة بسبب تلقيح الصنعة 'البيانية'."17

فالأسلوب هو الإطار العام الذي ينمو بداخله الكلام، ويترعرع، ومنه تتشكّل صيغته التعبيرية والنهائية؛ كما أن مفهوم الجامعية يستمد مشروعيته من الإيجاز الذي يتعلق بجزئية واحدة تنضوي في رحابها كليات عامة؛ إذ: "إن إيجاز القرآن جامع ومعجز، فلو أنعم النظر فيه لشوهد بوضوح أنّ القرآن قد بيّن في مثال جزئي وفي حادثة خاصة، دساتيرَ كلية واسعة وقوانينَ عامة طويلة، وكأنه يبيّن في غرفة ماءٍ بحراً واسعاً".18

3. شبابية القرآن وفتوته: من إبداعات النورسيّ، وإنجازاته الخالدة التي انفرد بها في مشروعه المعرفيّ والإصلاحيّ في جانبه البلاغيّ مفهوم الشبابيّة والفتوة.

ولعل خصوبة مادة التنزيل، وتدفقها الدلاليّ اللانهائي، هو مكمن هذه الشبابية التي تتجدّد كلما تقدم الزمان، وتوسّعت دوائر المعارف الكونية والشرعية. وأغلب الظن أن المراد بفتوة القرآن التجدد المستمر لمعانيه، واستجابته الدائمة لما جادت به قرائح البشر، مما جعله مالكا لقدرة الاستجابة لكل القراءات -المعتبرة- الممكنة والعادلة؛ وفي هذه الاستجابة ما يزكي صلاحيته لكل زمان ومكان؛ وتطور الحضارة الإنسانية كافٍ لاستجلاء حقيقة قابلية الخطاب القرآنيّ للتفسير والتأويل والتحليل؛ لأن مادة الوحي لا تنضب ولا تجف؛ فهي متجدّدة بتجدد الزمان والمكان؛ وهذا ما عبّر عنه النورسيّ قائلاً: "شبابيته الخارقة شاملة محيطة، وأنسيته جعلته محبوب الإنس والجان، وذلك بالتنزلات الإلهية إلى عقول البشر لتأنيس الأذهان، والمتنوعة بتنوع أساليب التنزيل".19

فالشبابية هي الأنس الذي رغَّب البشر والجان في محبة القرآن وعشقه؛ لأن الأنس موجب للمعرفة الإنسانية؛ كما أنّ الجهل مسبب للوحشة وجالبٌ لها. وقد ربط النورسيّ مفهوم الشبابية بمراعاة القرآن لطبيعة البشر النفسية والاستيعابية والإدراكية؛ وبهذه المراعاة يحصل الأنس، وتنتشر الأريحية والبِشر الذي يستشعره المتلقي لهذا القرآن الذي يحمل في ذاته بذور العطاء المستمر، والتدفق غير المنقطع.

فالفتوّة والنُضرة صفتان أزليتان ملازمتان للقرآن الكريم؛ وهما علامتان فارقتان على غنى دلالاته، وثراء معينه الفياض الذي بقي متدفقاً يافعاً منذ الأزل إلى يوم القيامة؛ وهو تدفق روعي فيه مستويات المتلقين ومراتبهم. ولتجسيد مفهوم الشبابية عرض النورسيّ لفكرة التغير البيولوجيّ الذي يعتري الموجودات؛ في حين أن التغيّر الحاصل في الكون لن يطال القرآن الكريم؛ لأنه محصنّ بشبابية لا تشيخ، وبفتوة لا تشيب؛ ومن ثم فإن: "القرآن الكريم قد حافظ على شبابيته وفتوته حتى كأنه ينزل في كل عصر نضراً فتياً. نعم! إنّ القرآن الكريم لأنه خطاب أزليّ يخاطب جميع طبقات البشر في جميع العصور خطاباً مباشراً يلزم أن تكون له شبابية دائمة كهذه. فلقد ظهر شاباً وهو كذلك كما كان (...) إنّ آثار البشر وقوانينه تشيب وتهرم مثله، وتتغير وتُبدّل. إلاّ أن أحكام القرآن وقوانينه لها من الثبات والرسوخ بحيث تظهر متانتها أكثر كلما مرت العصور".20

ولا محالة أن ما اختص به القرآن من النضرة والفتوة والشبابية من شأنه أن يرسخ مفهوم ثبات المفاهيم القرآنية، ورسوخها؛ ذلك أن الخلود الأبديّ هو منبع الشبابية، ومعدن الفتوة؛ والزمن هو كشّاف هذه الفتوة.

4. السلاسة والسلامة والتساند والتعاضد والتناسب بين الجُمل: من مميزات البلاغة القرآنية أخذ الآيات القرآنية بعضها بحُجز بعض؛ ذلك أن التعاضد والتعاون الوثيق هو سمة مركزية في الخطاب القرآنيّ؛ وأكبر الظن أن سلامة الأسلوب القرآنيّ من الركاكة، والاضطراب والقلق مصدره هذا التآزر الخلاّق بين الآيات الذي يحدثه تعاون الجُمل وأهدافها دون تقاعس أو تخاذل؛ ليظهر النص في هيئة بديعة من الانسجام والتناغم والاتفاق. وقد استند النورسيّ في تأكيد هذه الخصائص إلى شهادة علماء البيان والمعاني؛ حيث انتقى منهم الفطاحل والأفذاذ والشيوخ المشهود لهم بالإمامة العظمى في صناعة القول، وفن التعبير. يقول النورسيّ: "إن القرآن الكريم قد جمع السلاسة الرائقة والسلامة الفائقة والتساند المتين والتناسب الرصين والتعاون القوي بين الجُمل وهيئاتها، والتجاوب الرفيع بين الآيات ومقاصدها، بشهادة علم البيان وعلم المعاني وشهادة ألوف من أئمة هذه العلوم كالزمخشري والسكاكي وعبد القاهر الجرجاني".21

ويظهر من كلام النورسيّ أن من مقتضيات البلاغة القرآنية التلاؤم الذي يتجلى في آيات القرآن الكريم وتناسبها؛ وحسن انتظامها وتناسقها؛ ولعل في هذا التناسب ما يدلّل على أن القرآن الكريم رغم أنه نزل متفرقاً لأسباب مختلفة، ولعلاج نوازل متباينة، وتحقيق مقاصد متفاوتة ومخاطبة متلقين تتفاوت مداركهم وقدراتهم الاستيعابية؛ إلاّ أنّ هذا التباين انصهر في مقصد واحد جامع لكل مقاصد القرآن وأحكامه وأسباب نزوله. ويفهم من هذا أن التجاوب والتعاون والتعاضد بين الآيات هو مكمن هذا الانصهار، ومصدره. فمثلا نجد أن القرآن يخاطب شرائح بشرية متفاوتة الإدراك والفهم والاستيعاب؛ إلاّ أنّ سلاسته وجمال أسلوبه يجعلان المخاطَب كأنّه واحد.

"فالتساند والتعاون المثمر بين الآيات محرّكه قوة الانتظام والاتحاد الكامل بين طبيعة النزول وخصوصيتها، ومنهج القرآن في الإجابة عن الأسئلة المكررة، وتبيان المقاصد الإرشادية، وبيان الأحكام التشريعية، وأسباب النزول، وأسلوب المخاطبة، وطبيعة المتلقين".22

ويحدّد النورسيّ -رحمه الله- مفهوم التعاضد والتجاوب من خلال صورة تشبيهية تجعل المقصد الأصليّ هو المصب المركزيّ، وبقية طرق التعبير المختلفة، والأسباب السبعة المتفاوتة روافد فرعية لهذا المصب الرئيسيّ الذي لا ينضب. فمثلاً من مقاصد القرآن أنّه نزل لتبيان الحكم الشرعي في نوازل مختلفة، إلاّ أنّ طريقة الاستنباط الشرعيّ وانتظامها وتناسقها توحي بأنّه بيان لنازلة واحدة؛ فظاهر الأمر تعدد النوازل، وباطنه أحادية الحوادث. وفي هذا الصدد يقول النورسيّ: "إن قوة الكلام وقدرته: أن تتجاوب قيوده، وتتعاون كيفياته، ويمد كلٌّ بقدره مشيراً إلى الغرض الأصليّ ويضع أصبعه على المقصد. فيكون مثالاً ومصداقاً لدستور:

عباراتنا شتى وحسنك واحدٌ وكلٌّ إلى ذاك الجمال يشير".23

وظاهر كلام النورسيّ أن تعدد المقاصد، والغايات، والأهداف يفضي إلى أحادية المقصد والغاية؛ فطرق التعبير متباينة، وفنون القول مختلفة؛ إلاّ أنّها خادمة للغرض الأصليّ. ولتوضيح مفهوم التجاوب بين الآيات، ومقاصدها نسوق الشاهد الآتي: من المعلوم في علوم القرآن أن مسلك المخاطبة يختلف باختلاف المخاطَبين؛ مراعاة لمستوياتهم في التأمل والاستيعاب والنظر؛ إلاّ أنّ سلاسة القرآن، ورونق أسلوبه، وطلاوة ألفاظه، وتعاضد آياته تجعل من تعدد طبقات المتلقين طبقة واحدة؛ وكأن هذه الطبقات المتباينة اجتماعياً وثقافياً وإدراكياً طبقة واحدة؛ وهذا بفضل تعاضد آليات التعبير القرآنيّ لخدمة المقصد العام؛ ومن ثمّ: "ينشأ التناسب ويتولد الحسن ويلمع الجمال بنشوء الانتظام".24

ويومئ بديع الزمان النورسيّ إلى مفتاح السلاسة والسلامة والتعاضد بين الآيات المتمثّل في موقع كل معنى من المعاني وقربه من المعنى الأصليّ، والغرض المحوريّ للكلام. وللتعبير عن معنى القرب المفضي لحسن المعاشرة بين المعاني يستعين بصورة واقعية معيشة للتدليل على أن الأجر الماديّ للموظف يناسب طبيعة الجهد المبذول في العمل، ومستوى القدرات والمؤهلات العلمية والنفسية التي يمتلكها العامل؛ وهذه الصورة التمثيلية هي التي تجسّد الفارق الجوهريّ بين معنى وآخر في أسلوب الكلام؛ بيان ذلك أن مراتب الكلام تزداد قوة وحسناً وسمواً برفعة المعاني وقربها من المدلول الأساسي. وفي هذا الصدد يقول النورسيّ: "كما يلزم في نظام أية دولة كانت، أن يكون أجر الموظف حسب وظيفته وبمقدار خدماته وعلى وفق قابليته واستعداده، كذلك يلزم تقسيم العناية وتوزيع الاهتمام توزيعاً عادلاً، بحيث يأخذ كل معنى من المعاني المتزاحمة في مثل هذه المراتب المتفاوتة نصيبه وحظه بنسبة قربه من مركز الغرض الكلي الذي سيق له الكلام، وبنسبة خدمته للمقصود الأساس. وذلك ليحصل بتلك المعادلة: الانتظام، ومن الانتظام: التناسب، ومن التناسب: حسن الوفاق، ومن حسن الوفاق: حسن المعاشرة، ومن حسن المعاشرة: ميزان التعديل لكمال الكلام".25

فمصدر التوزيع العادل لمواقع المعاني في النسيج اللغوي يحدّده القرب والبعد من الدلالة المركزية؛ ذلك أنّ اختلال هذا التوازن في توزيع المراتب يورث الوحشة والغربة بين المعاني التي تتجاور في سلسلة تعبيرية متلاحقة ومتتابعة؛ وكأنّ النورسيّ -رحمه الله- أراد أن يشير إلى مفهوم الأنس والألفة الحاصلة بين المعاني في مراتبها المحددة التي تعمل في إطار دلاليّ موحّد يخضع لسيطرة المعنى المركزيّ المراد؛ وبهذا الاعتبار لا بد من مراعاة الأوطان والمواقع التي تنزل فيها المعاني والدلالات حتى تشعر بالأمن والاستقرار؛ وقد شاع في الثقافة البلاغية عند العرب أن مواقع المعاني ومراتبها كالأوطان التي تجمع البشر؛ ولهذا السبب كان المعنى الغريب والبعيد عن المقصد الأساسيّ للكلام كالغريب الذي ينزل في غير وطنه وأهله؛ ومن ثم يوصف المعنى بالقلق والاضطراب.

5. التجميع بعد النشر: من جماليات البلاغة القرآنية كما يرى النورسي أنها تعتمد أسلوب الجمع بعد البسط والنشر؛ وهي ميزة من مميزات الأسلوب القرآنيّ؛ ولعل من تجليات هذه الخاصية ذكر القرآن في نهاية الآيات خلاصات جامعة لما تقدم ذكره؛ مضمّناً إياها أسماء الله الحسنى أو بعض القضايا الحاثّة على إلطاف النظر، أو بعض القواعد الكلية. وقد بيّن النورسيّ معالم هذه الخاصية في قوله: "فالقرآن الكريم يذكر في أكثر الأحيان قسماً من الخلاصات والفذلكات في خاتمة الآيات. فتلك الخلاصات: إما أنها تتضمن الأسماء الحسنى أو معناها، وإما أنها تحيل قضاياها إلى العقل وتحثه على التفكر والتدبر فيها.. أو تتضمن قاعدة كلية من مقاصد القرآن فتؤيد بها الآية وتؤكدها".26

وهنا نلحظ أن بديع الزمان النورسيّ يحدد مستويات الخاصية التجميعية وفق الآتي:

- خلاصات متضمنة لأسماء الله الحسنى، وغالباً ما ترد في نهاية الآيات.

- فذلكات جامعة لقضايا محوجة لإعمال النظر، والتأمل الحصيف.

- خلاصات تتضمن قاعدة كلية تزيد في حجية الآية، ومشروعيتها.

فالإيجاز يرِد بعد التفصيل الذي يتضمن قاعدة كلية ثابتة ضمن أسماء الله الحسنى، أو إحالتها إلى العقل البشريّ الذي هو مناط الـتأمل العميق. وقد فصّل النورسيّ خاصية الجمع واللفّ والطي؛ فالنشر والفرش في عشر نكت بلاغية؛ نذكر منها مزية الجزالة الخامسة على سبيل التمثيل لا الحصر. يقول بديع الزمان النورسيّ: "إن القرآن قد يذكر الجزئيات المادية المعرّضة للتغير والتي تكون مناط مختلف الكيفيات والأحوال، ثم لأجل تحويلها إلى حقائق ثابتة يقيدها ويُجملها بالأسماء الإلهية التي هي نورانية وكلية وثابتة. أو يأتي بخلاصة تسوق العقلَ إلى التفكر والاعتبار".27

وقليل من الشواهد القرآنية يغني عن الإفاضة في شرح سمة اللفّ بعد البسط في صورتين اثنتين:

أ- في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.البقرة:29

فهذه الآثار الجليلة (خلق السماء والأرض) دالة على قدرة الله تعالى، وناطقة بجبروته وعظمته؛ فهي الكتاب المنظور الذي يجسد التجلي الإلهيّ في أجمل صوره، وأبهى حلله؛ ولعل هذا التفصيل هو الممهّد للغاية الكبرى المتجلية في اسم من أسماء الله الحسنى "عليم". ويمكن توضيح هذه الخاصية التجميعية في المخطط الآتي:

تفصيل لفعل من أفعال الله تعالى← خلاصة تتضمن اسماً من أسماء الله الحسنى.

ب- قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.البقرة:169 نلاحظ في الصورة الثانية أن الجمع واللفّ وردا بعد التفصيل؛ حيث تحدث القرآن عن هذه الظواهر الكونية المعبّرة عن عظمة الله تعالى، وقدرته المطلقة في الخلق؛ لينتهي إلى المقصد الأسمى من هذا الخلق؛ وهو دعوة العقل للتأمل في هذه المخلوقات العجيبة. ويمكن تبيان هذه السمة التجميعية في الترسيمة الآتية:

تفصيل لأفعال الله تعالى في الخلق والإنزال والتصريف← خلاصة تتضمن إشارة واضحة إلى التفكر والتدبر.

فما الحكمة من سلوك البلاغة القرآنية مسلك الجمع، والإجمال بعد النشر والتفصيل؟

إن الفحص الواعي لمفهوم البلاغة القرآنية عند النورسيّ يقودنا إلى إدراك متزايد لفكرة هيمنة المقاصد الإيمانية على مشروعه؛ حيث إنه وظفّ الآليات البلاغية لتثبيت الحقائق الإيمانية؛ ذلك أن الإيجاز أو الإجمال بعد التفصيل يفضي إلى تمثّل معاني الأسماء الحسنى، والاستئناس بدلالاتها وهي تجسيد حيّ للحقيقة النورانية؛ كما أن العقل وسيلة الاهتداء لفهم هذه الخلاصات المتضمنة لأسماء الله تعالى.

6. مراعاة مستويات المتلقين: يُشكّل المتلقي حجر الزاوية في مشروع النورسيّ البلاغيّ؛ إذ عدّه أحد ركائز بلاغة القرآن، وروافده، وحسن جماله وسموه. وفي هذا المضمار يقول: "إن منابع علو طبقة الكلام، وقوتَه وحسنه وجمالَه أربعة: المتكلم، والمخاطَب، والمقصد، والمقام، لا المقام فقط كما ضلّ فيه الأدباء".28

ولا ريب أن سمو بلاغة الخطاب القرآنيّ، وعلوها في اجتماع هذه العناصر الأربعة قاطبة؛ ولعل أبرز عنصر فيها المخاطَب الذي يتلقى الخطاب. والناظر في هذه السمة الجوهرية من سمات البلاغة القرآنية يجد أن النورسيّ يقدّم مفهوماً لمراعاة مقتضى حال المخاطبين أكثر نضجاً مما هو معهود في الدرس البلاغيّ القديم. ولاستجلاء حقيقة هذه الإضافة المعرفية ننقل نص بديع الزمان النورسيّ القائل: "إن البلاغة هي مطابقة مقتضى الحال. والحال: إن المخاطَبين بالقرآن على طبقات متفاوتة، وفي أعصار مختلفة. فلمراعاة هذه الطبقات، ولمجاورة هذه الأعصار، ليستفيد مخاطَب كل نوعٍ ما قُدِّر له من حصته، حذف القرآنُ في كثير للتعميم والتوزيع، وأطلق في كثيرٍ للتشميل والتقسيم، وأرسل النظم في كثير لتكثير الوجوه، وتضمين الاحتمالات المستحسنة في نظر البلاغة والمقبولة عند العلم العربي ليفيض على كل ذهن بمقدار ذوقه. فتأمل!..."29

ويبدو من كلام النورسيّ أن مراعاة مستويات المخاطَبين في القرآن مصدره توسيع مجال التوظيف الأسلوبيّ؛ ليفسح المجال لاستثمار إمكانات اللغة التي تناسب مختلف الطبقات والأصناف والمستويات؛ وقد قُيّد هذا التوسع بقيود البلاغة العربية وأصول اللغة؛ لكي لا يتسع الفضاء إلى الاحتمالات غير الممكنة التي لا تراعي درجة استيعاب المتلقي؛ ومن ثم تصطدم بذوقه وإحساسه.

فكل تصرف في العبارة القرآنية محكوم بحسّ المتلقي، وحقّه في الإفهام والإبانة وفق ضوابط اللغة وسننها.

ولا جرم أن في ربط النورسيّ التلقي بحس المتلقي ما يكشف عن البعد الروحي للمخاطَب الذي يفترض فيه صفاء السريرة لتقبّل الحق، والانصياع لشرف الانتماء للحقيقة الإيمانية. يقول العلاّمة بديع الزمان سعيد النورسيّ -رحمه الله-: "إن جامعية القرآن ووسعته، ومراعاته لحسيات طبقات المخاطبين، لا سيما: تنزّلاته لتأنيس العوام -الذين هم الأكثر المطلق والمخاطبون أولا وبالذات- مع أنها سببٌ لكماله. فالنفس المريضة تضلّ بها؛ إذ تتحرى في أدنى طرزِ تفهيمِه المناسب للمقام أعلى وأزينَ صور الإفادة، وتصيّر الأسلوب -الذي هو ميزانٌ ومَعكَسٌ لحسّ المخاطب وفهمِه- ميزاناً ومرصاداً تنظر منه إلى المتكلم، فتضل ضلالاً بعيداً!..."30

لا مرية في أن تحويل مسار النظر من المتكلم إلى المخاطَب هو عدول عن مدار الاستقامة البلاغية، وخروج عن مفهوم الجامعية؛ وأغلب الظن أن مصدر هذا الانحراف هو بلادة حسّ المتلقي؛ فجامعية القرآن شاملة لكل طبقات البشر، ومختلف معارف الكون؛ إلا أنها ألصق بالعوام؛ تأنيساً لهم، ونزولاً عند رغباتهم، ومراعاة لمداركهم. وفي موطن آخر يربط النورسيّ البلاغة القرآنية بوضوح الدليل؛ لأنه من مقتضيات إرشاد البشر إلى الحقيقة النورانية التي تتطلب قدراً كبيراً من النصاعة والإقناع حيث: "إن القرآن الكريم الذي هو معجز، وفي أسمى بلاغة وأرفعها، يسلك بلا ريب أوضح طرق الاستدلال وأصوبها وأقصرها وأوفقها لأساليب اللغة العربية، أي أنه يراعي حسّيات العوام لأجل إفهامهم وإرشادهم، أي يذكر الدليل وهو انتظام الكون بوجه يكون معروفاً لديهم وتأنس به عقولهم.. وبخلافه يكون الدليل أخفى من المدّعى مما ينافي طريق الإرشاد ومنهج البلاغة ومذهب الإعجاز".31

ومن المتفق عليه في البلاغة العربية أن بلوغ المعنى إلى القلب في أجمل صورة لفظية هو المقصد الأسمى، والغاية المثلى من كل تركيب بلاغيّ يروم الإقناع والإمتاع؛ وأكبر الظن أن من موانع حدوث التأثير الوجداني في عملية التوصيل هو غموض مسلك الإقناع الذي يفتقر إلى الدليل القويّ، والحجة الناصعة؛ ومن ثم فإن ضبابية منهج الإرشاد تنافي حقيقة البلاغة القائمة في جوهرها على الإبانة والوضوح.

7. بلاغة المكيّ والمدنيّ: يعرض بديع الزمان النورسي لأسلوبية المكيّ والمدني من منطلق فكرة الإرشاد والتبليغ التي يراها العلامة الفارقة بين السور المكية، والمدنية؛ وهو في هذا الفرق لا يبعد عن الخصائص الأسلوبية التي عادة ما تُذكر في مصنفات علوم القرآن. إلا أن حديث النورسيّ عن بلاغة المكيّ، والمدنيّ يقترن بأساليب التبليغ، ومنهج الإرشاد والتوجيه إلى المقاصد الإيمانية.

يطرح بديع الزمان النورسيّ ثنائية المكيّ، والمدنيّ في بعدها البلاغيّ من منطلق الحقيقة الإيمانية، التي تعدُّ مركز الاستقطاب الأسلوبيّ، ومدار التمييز بين خصائص المكي والمدني التعبيرية؛ ومن ثم فهو يرى أنّ: "الصف الأول من المخاطَبين والمعارضين في مكة كانوا مشركي قريش وهم أميون لا كتاب لهم، فاقتضت البلاغة أسلوباً عالياً قوياً وإجمالاً معجزاً مقنعاً، وتكراراً يستلزمه التثبيت في الأفهام؛ لذا بحثت أغلب السور المكية أركان الإيمان ومراتب التوحيد بأسلوب في غاية القوة والعلو، وبإيجاز في غاية الإعجاز".32

فلما كان المقصد إثبات الحقائق الإيمانية، وتثبيتها سلكَ النظم القرآنيّ مسلك الإيجاز المعجز الذي يتحّرى الإجمال دون التفصيل؛ وأغلب الظن أن بلاغة الإيجاز أنسب لأمية قريش؛ حيث تم التركيز على التوحيد.

وفي مقابل السور المكية تقف السور المدنية مجملة قضايا الإيمان والتوحيد بأسلوب فيه الكثير من التفصيل، والإسهاب الذي تستوجبه طبيعة أهل الكتاب الإيمانية؛ وبهذا الاعتبار فإن أصول البلاغة العربية هي المحدِّدة لنوع الأسلوب المختار. وفي هذا السياق يقول النورسيّ: "أما الآيات المدنية وسورها فالصف الأول من مخاطبيها ومعارضيها كانوا من اليهود والنصارى وهم أهل كتاب مؤمنون بالله. فاقتضت قواعد البلاغة وأساليب الإرشاد وأسس التبليغ أن يكون الخطاب الموجه لأهل الكتاب مطابقاً لواقع حالهم، فجاء بأسلوب سهل واضح سلس، مع بيان وتوضيح في الجزئيات - دون الأصول والأركان 'الإيمانية'."33

وإذا تقرر الفرق الجوهريّ بين الأسلوب المكيّ، والأسلوب المدنيّ؛ وجب النظر في مرتكزات هذا الفرق من وجهة نظر بديع الزمان التي حصرها في أربعة مقومات هي:

أ - اختلاف المقامات

ب- تنوع مقاصد الإرشاد

ت - تعدد أسس التبليغ

ث- مراعاة مقتضيات قوانين البلاغة العربية وأصولها.34

ويتفاوت الأسلوب القرآنيّ بين الجزالة والسلاسة، والوضوح وَفق واقع الحال أو المقام؛ ذلك أن الملابسات التاريخية، والمناسبات الظرفية تؤثر في اصطفاء طبيعة البلاغة الملائمة لمقتضى الحال؛ آية ذلك أنّ منهج بلوغ الحقيقة الإيمانية موجب للإسهاب أو الاختصار؛ ومن هنا نفهم سرّ تعدد أساليب التوجيه القرآنيّ، وطرق التسديد البيانيّ.

خامساً: البلاغة القرآنية بين الحقيقة والمجاز:

قد لا نعدو الصواب حين نقول: إن بديع الزمان سعيد النورسيّ لامس حقيقة معضلة المجاز ملامسة فنية فيها كثير من الإبداع والابتكار؛ وهي ملامسة تعكس وعياً سامياً بملابسات هذه القضية في تجلياتها العقدية، والتاريخية، والسياسية، والنقدية، والجمالية.

ومن المعروف في تاريخ البلاغة العربية أن كثيراً من الباحثين قديماً وحديثاً قد درجوا على معالجة قضية المجاز من منطلقات أبعد ما تكون عن البلاغة القرآنية؛ إذ أنكر بعضهم المجاز من منطلق الحرص على العقيدة الإسلامية، والتحرج الدينيّ من توسيع مجال النظر في جماليات العبارة القرآنية كما فعل ابن تيمية -رحمه الله-؛ فكان من أشد المنكرين للمجاز في القرآن الكريم 35؛ كما اتخِّذ المجاز عند بعض العلماء كالمعتزلة سلاحاً فكرياً ومذهبياً؛ ومال آخرون إلى توسيع توظيف المجاز لدرجة من المبالغة والتمحل كالفِرق الضالة والمبتدعة. في حين نظر النورسيّ إلى المجاز من زاوية فنية، وجمالية نابعة من روح البلاغة القرآنية التي هي منبع الإعجاز، وينبوعه الصافي. ولقد أدرك بديع الزمان النورسيّ هذه الحقيقة من خلال استقراء آراء السلف الصالح، ومختلف المذاهب الإسلامية التي طرحت معضلة المجاز طرحاً لا يبعد عن التفريط، والإفراط.

ولقد اكتسب رأي النورسيّ درجة عالية من الثقة العلمية والسلطان المعرفيّ في تناول مسألة المجاز؛ لأنه قارب الموضوع مقاربة موضوعية؛ مدركاً أبعاد إنكار الإعجاز القرآني؛ ومبرزاً خطورة الاعتداء على حرمة النص القرآني وقداسته؛ كمحاولات الكثير من الباحثين استنطاقه استنطاقاً فجاً غليظاً يأباه النقل، وترفضه الفطرة اللغوية السليمة، وينكره الفهم الرشيد. وفي هذا المقام يقول النورسيّ: "واعلم أن مفتاح حجة الله المتجلية في أساليب العرب هو: البلاغة التي هي أصل الإعجاز والمؤسسة على الاستعارة والمجاز، لا ما يلتقط من خرز -بالحدس الكاذب- من المشهورات وتختبئ في أصداف الآيات دون رضاها".36

فالتأويل الأعدل هو التأويل المنضبط على البلاغة القرآنية الذي يسعى لكشف قناع المعنى، لا التأويل القائم على مغالطات الألفاظ، وألاعيب الحذلقة والتمويه؛ وكأن النورسيّ يضيء مسلك التأويل المنصف الذي يراعي النسيج اللغويّ للنص، ولا يقتحم سياجه؛ معتدياً على حرمته كما فعل الباطنية وغلاة الشيعة والمعتزلة في تفسير آيات القرآن الكريم؛ بل إن مفتاح الولوج إلى عمق النص، وروحه هو الاستئذان الذي يسمح به النص للمؤول، ويرضى عن أدوات تشريحه، ووسائل استنطاقه؛ بعيداً عن التمحل والقهر والاستبداد والتحكم والإكراه، والاستعلاء. وأكبر الظن أن الحدس الكاذب -على حد تعبير النورسيّ- الذي يستشعره بعض المفسرين والمؤولين هو منهج عقيم؛ لأنه يفتقر لحدس صادق أمين يروم كشف جماليات النص، ومحاورته محاورة واعية مبصرة تفضي إلى مكمن الدفين.

ولا شك أنّ التأويل الممجوج، هو قفز على حقائق النص القرآنيّ، ومحاولة لاغتيال حقيقته الأبدية، وإنكار لبلاغته التي هي مدار استقامته، وأصل إعجازه. وقد بيّن النورسيّ مزالق التأويل الفاسد، وعلة قصوره في استدلال عقليّ من خلال أمرين:

أ- الإعجاز سمة القرآن الكريم، والبلاغة قطب رحاه، ومدار طلبه؛ والبلاغة تحكمها قوانين تعبيرية وفنية منها: المجاز؛ وتناول التأويل بمعزل عن الاستعارة، والمجاز هو تجاوز لهذه القوانين، وخرق لمبادئها، وأسسها.

ب- من موجبات البلاغة القرآنية مراعاة أفهام المتلقين، ومستوياتهم الإدراكية؛ قصد تحقيق غاية الإرشاد، وتجسيد مقصد الإعجاز؛ بيد أن الاحتكام إلى تفسيرات غريبة عن هدي البلاغة القرآنية، والاستئناس بتأويلات نافرة متكلفة موحشة سيفضي إلى عالم من النفور بين النص والمتلقي. وقد صوّر النورسيّ ذلك على النحو الآتي فقال: "إن الخاصية المميزة للتنزيل، الإعجاز، والإعجاز يتولد من ذروة البلاغة، والبلاغة مؤسسة على مزايا وخصائص، لا سيما الاستعارة والمجاز. فمن لم ينظر بمنظارهما لا يفوز بمزاياها..فكم في التنزيل من: 'تنزلات إلهية إلى عقول البشر' تسيّل ينابيع العلوم في أساليب العرب تأنيساً للأذهان. والتي تعبّر عن مراعاة الأفهام واحترام ومماشاة الأذهان. ولما كان الأمر هكذا..فلا بد لأهل التفسير ألاّ يبخسوا حق القرآن بتأويله بما لم تشهد به البلاغة".37

فالاستئذان مطلوب عند عتبة النص القرآنيّ؛ لأنه محكوم بإجراءات صارمة للدخول؛ وكل محاولة لاقتحامه هي اعتداء على بلاغته، وهيبته ووقاره، وعدم احترام متلقيه.

ويعمّق بديع الزمان النورسيّ من مفهوم الاستئذان في تأويل النص من خلال صورة تمثيلية شاعرية في منتهى التألق التعبيريّ، والأسلوبيّ؛ إذ يقول: "اللفظ يُزيّن ولكن إذا اقتضته طبيعة المعنى وحاجته.. وصورة المعنى تُعظّم وتُعطى لها مهابة ولكن إذا أذِن بها المعنى... والأسلوب يُنوّر ويُلمّع ولكن إذا ساعده استعداد المقصود.. والتشبيه يلطّف ويجمّل ولكن إذا تأسس على علاقة المقصود وارتضى به المطلوب.. والخيال يُنشط ويُسيّح ولكن إذا لم يؤلم الحقيقة، ولم يثقل عليها، وأن يكون مثالاً للحقيقة متسنبلاً عليها".38

إن الالتزام بالمقصود، والتقيد بالمطلوب هو مفتاح الولوج إلى خبيات المعاني، وأداة لرفع الأستار عن حقائق النص القرآنيّ ومكنوناته؛ فالحركة بين جنباته محسوبة، ولا مجال للحركة العشوائية الدائرية القائمة على رأي جاف طليق غير مقيد بإذن النص. فكل سلوك داخل إطار النص القرآنيّ يخضع لمراقبة المقصود، وموافقة المدلول؛ فالقيود حارسة لحدود النص من كل انزلاق أو جنوح نحو خيال بعيد عن الحقيقة؛ ومن ثمّ فالمجاز وسيلة جمالية تستمد فعاليتها من فلسفة الالتزام بمقتضيات المعنى، وضوابطه.

ولا مرية في أن البلاغة القرآنية هي العاصم من كل انفلات دلاليّ، أو مغامرة خيالية يقودها إحساس غامض، أو شهوة جامحة؛ وبهذا الاعتبار قيّد بديع الزمان النورسيّ توظيف المجاز بشروط قاسية، سنكتفي بوقفات عند بعضها: "أما جواز المجاز فيجب أن يكون على وفق شروط البلاغة وقواعدها، وإلا فرؤية المجاز حقيقة والحقيقة مجازاً، أو إراءتهما هكذا، إمدادٌ لسيطرة الجهل ليس إلاّ. إن ميل التفريط من شأنه حمل كل شيء على الظاهر.. حتى لينتهي الأمر تدريجياً إلى نشوء مذهب الظاهرية مع الأسف. وإن حب الإفراط من شأنه النظر إلى كل شيء بنظر المجاز، حتى لينتهي الأمر تدريجياً إلى نشوء مذهب الباطنية الباطل (...) والذي يبين الحد الأوسط ويحد من الإفراط والتفريط إنما هو فلسفة الشريعة مع البلاغة، والحكمة مع المنطق".39

ومن المتفق عليه في فلسفة الجمال النقديّ ملازمة الوسطية في توظيف المجاز؛ ذلك أن ميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط بعيد عن الحزم والاحتياط؛ ولعل الاقتصاد في الاستعانة بالمجاز في تحليل الخطاب القرآني نابعة من روح الدين؛ ذلك أن ملازمة الحكمة للمنطق كملازمة البلاغة للشريعة؛ لا تفريط، ولا إفراط.

فالظاهرية الذين وقفوا عند حدود ظاهر النص القرآني فرّطوا في جمالياته، وغيبّوا حقائقه؛ كما أن غلاة الباطنية أفرطوا في توظيف المجاز ووسّعوا مجال النظر فيه لدرجة من التأويل النافر، والتمحل، والمبالغة السقيمة. فمراعاة سنن البلاغة العربية، وضوابطها هو الحد المانع من التوظيف الإيديولوجيّ للتأويل.

سادساً: التكرار مظهر من مظاهر البلاغة القرآنية:

من القضايا التي أثارت اهتمام بديع الزمان سعيد النورسيّ قضية التكرار التي تناولها من زاوية نفسية وروحية؛ وهو في معالجتها تجاوز ما هو مألوف في كتب البلاغة التراثية من إشادة بموقع التكرار في الإعجاز البياني؛ والرد على المستشرقين الذين يرون في التكرار خللاً بلاغياً، ونقصاً جمالياً.

وقد فسّر بديع الزمان ورود التكرار في مواضع كثيرة من القرآن الكريم بفلسفة تجدد اللذة البيولوجية والروحية؛ وفي هذا المقام يقول: "فكما أن في غذاء الإنسان ما هو قُوت كلما تكرر حَلاَ وكان آنس، وما هو تفكّه إن تكرر مُلّ وإن تجدد استُلذّ، كذلك في الكلام ما هو حقيقة وقوت وقوّة للأفكار وغذاء للأرواح كلما استعيد استحسن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس. وفيه ما هو من قبيل الزينة والتفكه، لذتُه في تجدّد صورته وتلوّن لباسه".40

فالتكرار ليس عيباً في الكلام؛ وإنما هو من قبيل التلوين الذي تأنس به النفوس، وتطمئن إليه القلوب؛ ذلك أن التمسك باللون الواحد مما تأباه النفوس البشرية، وتنفر منه الطباع السليمة؛ فالنفوس جُبلت على اللذة المتجددة. وقد لامس بديع الزمان النورسيّ هذه الحقيقة النفسية من خلال الاستئناس بكلام القدماء الذين شبّهوا تجدد المعنى بالتمثيل بضياء الشمس؛ وهو معنى مستفاد من شعر أبي تمام:

"وطولُ مقام المرءِ في الحي مخلِقٌ لديباجتيهِ فاغترب تتجدد

فإني رأيتُ الشمسَ زِيدتْ محبةً إلى النَّاس أن ليست عليهم بسرمَد".41

فالنفس البشرية مفطورة على حب التجدّد؛ لأن في كل تجدّد لذة زائدة، ولهذا السبب النفسيّ تتكرر الآيات في مواضع مختلفة؛ ولكل تكرار إضافة فنية، وجمالية، ونفسية.

إن القراءة الاستكشافية لمفهوم التكرار عند النورسيّ تؤكد أن لذة التجدّد في الخطاب القرآنيّ هي طبيعة فنية تنسجم مع الفطرة الإنسانية. وقد أشار الإمام الزركشيّ في سياق حديثه عن النكت البلاغية لتكرار القصص القرآنيّ إلى هذه الحقيقة النفسية قائلاً: "المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ -لما فيها من التغيير- ميلاً إلى سماعها، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة".42

ومقتضى كلام الزركشيّ -رحمه الله- أن التكرار تجديد لنسيج النص، وإثراء لمعانيه ومقاصده؛ فالتجدد حاصل، واللذة مستأنفة؛ ولعل في هذا التواصل الدلاليّ، والنفسيّ للنص القرآنيّ ما يكفي للتدليل على موقع التكرار في الإعجاز البلاغيّ.

فالتجديد مرغوب في كل الأشياء؛ ذلك أن التغيير، والانتقال من مقام إلى آخر محبّب للنفس البشرية التي ترغب في المستجد، وتنفر من المألوف المعهود الذي يفقد شحنة التجديد نتيجة كثرة الاستعمال لدرجة من الاستهلاك؛ فيغدو جاهزا نمطياً محنّطاً. والمستقرئ للتراث النقديّ، والأدبيّ يلفي تركيز الكثير من الأدباء، والنقاد على مفهوم اللذة المتجدّدة، والمستأنفة. يقول أبو الفرج الأصبهانيّ: "وفي طباع البشر محبة الانتقال من شيء إلى شيء، والاستراحة من معهود إلى مستجدّ. وكل منتقل إليه أشهى إلى النفس من المنتقل عنه، والمنتظر أغلب على القلب من الموجود".43

ولقد اشترط بديع الزمان النورسيّ لحصول اللذة المتجدّدة في التكرار رهافة الحس، ورقة الذوق، حيث: "إن القرآن الكريم قد أظهر عذوبة وحلاوة ذات أصالة وحقيقة بحيث إن التكرار الكثير -المسبّب للسآمة حتى من أطيب الأشياء- لا يورث الملال عند من لم يفسد قلبه ويبلد ذوقه، بل يزيد تكرار تلاوته من عذوبته وحلاوته. [...] وكذا فقد أظهر القرآن الكريم من الطراوة والفتوة والنضارة والجدّة بحيث يحتفظ بها وكأنه قد نزل الآن (...) فكل عصر قد تلقاه شاباً نضِراً وكأنه يخاطبه".44

فمصدر التجدد هو شبابية القرآن الكريم الذي يتجدّد عند كل تلاوة أو قراءة؛ فثراء مادة الوحي وخصوبتها هي التي تعطي لكل تلاوة متجددة تجدداً روحياً ونفسياً ودلالياً. وقد قيّد النورسيّ حصول اللذة بالطبيعة النفسية للمتلقي الذي يتلو القرآن في رحاب سريرة نقية صافية، ومعدن شريف وذوق سليم؛ ذلك أن بليد الفكر، وجامد القريحة، ومظلم القلب لا حظ له من هذه اللذة المستأنفة.

ولا ريب أن ضعف الاستئناس بمقاصد التكرار، وسوء إدراك جمالياته، وأسراره هو مكمن الاعتراض على التكرار الوارد في القرآن عند بعض الباحثين الذين يرون فيه نقصاً في بلاغته. والتحقيق أن المقام هو الموجب لهذا التكرار، والمناسبة الدلالية هي التي تطلبه دون تعنت أو إكراه أو تحكم. وفي هذا الاستدعاء مراعاة لمقام الحال، ومتطلبات الصياغة اللغوية، والتعبيرية. ومن ثم نجد القرآن الكريم: "يعبّر أكثر من عشرين مرة عن حقيقة التوحيد -صراحة أو ضمناً- في صحيفة واحدة من المصحف وذلك حسب اقتضاء المقام، ولزوم الحاجة إلى الإفهام، وبلاغة البيان، فيهيج بالتكرار الشوق إلى تكرار التلاوة، ويمدّ به البلاغة قوة وسمواً من دون أن يورث سأماً أو مللاً".45

فالتكرار موجب للفضيلة الفنية، والجمالية والبلاغية، ومُذهِب للملل والسآمة التي تنتج عن تكرار مجانيّ لا يحرّك شوق المتلقي للتلاوة، ولا يدفعه إلى استشراف فضاء المعنى، وأفقه الدلاليّ. فحاجة القرآن للتكرار حاجة بلاغية ومقامية يقتضيها السياق، وهو اقتضاء تولّده طبيعة النص القرآنيّ المتدفقة بالمعاني.

ومن هذا الطريق ثبتَ وجوب الإقرار بمركزية التكرار في الإعجاز القرآنيّ، لانسجامه مع بلاغته؛ فهو تكرار فنيّ تحرّكه دواعي البيان، وتقتضيه ملابسات المقام؛ ذلك أن التكرار قريب المأخذ، سهل الملتمس عند ذوي الفطرة الصافية التي لم تختلط بأدران الرذيلة؛ وبهذا الاعتبار أدرج النورسيّ -رحمه الله- التكرار ضمن المعجزة المعنوية التي لا ينكرها إلا جاحد مكابر؛ عليل البصر، قليل النظر. وفي هذا الصدد يقول بديع الزمان: "وهكذا فلأن حقائق القرآن المكررة تملأ هذه القيمة الراقية وفيها من الحِكم ما فيها، فالفطرة السليمة تشهد أنّ في تكراره معجزة معنوية قوية وواسعة، إلاّ من مرِض قلبه وسقم وجدانه بطاعون المادية فتشمله القاعدة المشهورة:

قد ينكر المرءُ ضوء الشمس من رَمَد ويُنكر الفمُ طعم الماء من سَقَم".46

خاتمة:

وجماع الأمر أن العلاّمة بديع الزمان سعيد النورسيّ عرض جملة من المفاهيم، والأفكار التي نرى أنها محوجة لمزيد من التأمل والبحث المستفيض؛ فقد تمثّل الموروث البلاغيّ القديم تمثلاً عالياً في رحاب منهجية معرفية أقرب إلى فضاء العرفان والبرهان والبيان؛ مستثمراً آليات النظر الحصيف، وأدوات المقاربة العلمية الرصينة. ومازالت الرغبة قائمة في نفسي إذا ما تهيأت الأسباب لمعاودة النظر في كثير من جوانب شخصية الأستاذ النورسيّ التي حاولتُ في هذا العرض الموجز، والمكثّف استجلاء مكنوناتها واستكشاف جوانبها الخفية.

وقد قصدتُ من هذا البحث المختصر أن أكشف عن مفهوم البلاغة القرآنية عند النورسيّ؛ مبرزاً أسسها ومقوماتها؛ مسترشداً بنصوص بديع الزمان وفق مقاربة تشريحية تسعى لاستكناه منهجه في إثبات الحقائق الإيمانية، وتثبيتها بآليات مختلفة بعضها ألصق بالبلاغة العربية، والبيان القرآنيّ.

وينبغي أن نشير إلى ملاحظة تستحق التسجيل، وهي تلك الروح النقدية المتألقة، والطاقة الإيمانية المتأجّجة التي سيطرت على فكر بديع الزمان النورسيّ؛ فجعلته منارة هادية لعشاق البلاغة القرآنية؛ وهي روح لا تُنال إلا بفضل الروية، وطول التأمل، وحصافة العقل.

* * *

قائمة المصادر والمراجع:

1. ابن تيمية، تقي الدين أحمد عبد الحليم، 1925م، كتاب الإيمان، مصر، مطبعة السعادة.
2. أبو تمام، حبيب بن أوس الطائيّ، 1889م، ديوان شعر، وقف على طبعه وضبطه وعلّق شرحه شاهين عطية، بيروت، طبع في المطبعة الأدبية.
3. الأصبهاني، أبو الفرج، (د.ت)، كتاب الأغاني، بيروت، لبنان، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، المجلد الأول.
4. البوصيري، شرف الدين محمد بن سعيد بن حمّاد، (د. ت)، الكواكب الدرية في مدح خير البرية، طبعة ضبطها أحمد علي حسن وعلّق بهامشها مختصر شرح شيخ الأزهر، إبراهيم الباجوري، القاهرة، مكتبة الآداب.
5. الزركشي، بدر الدين، (د.ت)، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان، دار المعرفة للطباعة والنشر، الجزء الثالث.
6. النورسي، بديع الزمان سعيد،(د. ت)، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق إحسان قاسم الصالحي، تقديم محسن عبد الحميد، طبعة 1420هــ - 1999م، الثالثة، إسطنبول، شركة سوزلر للنشر.
7. النورسي، بديع الزمان سعيد، (د.ت)، كليات رسائل النور، الشعاعات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة 1414هــ - 1993م، الثانية، فرع القاهرة، دار سوزلر للنشر.
8. النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة 2002م، الثالثة، القاهرة - مصر، شركة سوزلر للنشر.
9. النورسي، بديع الزمان سعيد، (د.ت)، كليات رسائل النور، الكلمات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة 1419هــ - 1998م، الثالثة، إسطنبول، دار سوزلر للنشر.
10. النورسي، بديع الزمان سعيد، (د.ت)، المثنوي العربي النوري، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة 1415هــ/ 1995م، الأولى، فرع القاهرة، دار سوزلر للنشر.
11. النورسي، بديع الزمان سعيد، (د.ت)، مجموعة المكتوبات من كليات رسائل النور، عني بترجمتها عن التركية وصحّحها وبيّضها الملا محمد زاهد الملازكردي، طبعة 1406هــ/ 1986م، الأولى، بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة.
12. النورسي، بديع الزمان سعيد، (د.ت)، كليات رسائل النور، الملاحق في فقه دعوة النور، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة 1999م، الثالثة، فرع القاهرة، دار سوزلر للنشر.

* * *

الهوامش:

1 أستاذ البلاغة والأسلوبية بقسم اللغة العربية، بجامعة نجران بالمملكة العربية السعودية.
2 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق إحسان قاسم الصالحي، تقديم محسن عبد الحميد، طبعة 1420هــ-1999م الثالثة، إسطنبول، شركة سوزلر للنشر، ص 41.
3 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، ص 42.
4 النورسي، بديع الزمان سعيد، مجموعة المكتوبات من كليات رسائل النور، عني بترجمتها عن التركية وصحّحها وبيّضها الملا محمد زاهد الملا زكردي طبعة 1406هــ / 1986م، الأولى، بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة، ص 264.
5 النورسي، بديع الزمان سعيد، المثنوي العربي النوري، تحقيق إحسان قاسم الصالحي، طبعة 1415هــ/ 1995م، الأولى، فرع القاهرة، دار سوزلر للنشر، ص 73.
6 النورسي، بديع الزمان سعيد، المثنوي العربي النوري، ص 72.
7 النورسي، بديع الزمان سعيد، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، ص 44.
8 المصدر نفسه، ص 240.
9 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الشعاعات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة 1414هــ - 1993م، الثانية، فرع القاهرة، دار سوزلر للنشر، ص 174.
10 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، كليات رسائل النور، الكلمات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة 1419هــ - 1998م، الثالثة، إسطنبول، دار سوزلر للنشر، ص 467.
11 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الشعاعات، ص 305. وقد جمع بديع الزمان النورسي مقومات الجامعية في كتابه: كليات رسائل النور، الشعاعات، ص 79، 229. ففي هاتين الصفحتين تفصيلات مشبعة، ووافية.
12 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الكلمات، ص 466.
13 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الملاحق في فقه دعوة النور، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة 1999م، الثالثة، فرع القاهرة دار سوزلر للنشر، ص 183-184.
14 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ص 451.
15 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الملاحق في فقه دعوة النور، ص 184. لمزيد من التفصيل والإشباع في مفهوم الجامعية الخارقة في المعنى ينظر: الكلمات، ص 466.
16 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ص 459- 460.
17 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، طبعة، 2002م، الثالثة القاهرة - مصر، شركة سوزلر للنشر، ص 100.
18 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ص463.
19 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الملاحق في فقه دعوة النور، ص 185. لمزيد من التوسع في مفهوم الشبابية ينظر: النورسي، بديع الزمان سعيد، مجموعة المكتوبات من كليات رسائل النور، ص 184، والكلمات، ص 520. يقول بديع الزمان النورسي: "فكلما شاب الزمان شبّ القرآن وتوضحت رموزه". كليات رسائل النور، الملاحق في فقه دعوة النور، ص 184.
20 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ص 471.
21 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ص 481.
22 يرى بديع الزمان النورسي أن هناك تسعة أسباب مخلة بسلاسة القرآن وسلامته وتجاوبه؛ إلا أنها وظفت في إعجاز بيان القرآن وتناسبه. والتحقيق أن المتأمل في هذه الأسباب المذكورة يجد أنها سبعة تحديداً، وقد احترز النورسي في التدقيق في العدد باستخدامه عبارة: (ما يقارب تسعة أسباب)؛ وهذه الأسباب التي يراها مصدراً للتشويش هي عوامل خارجية مساعدة على إضاءة النص واستنارته كأسباب النزول وغيره؛ ذلك أن بنية الخطاب القرآنيّ تتشكل وفق مستويين: مستوى بنية خارجية تضم كل ما له علاقة بالإطار التاريخيّ والحضاري للنص، ومستوى بنية داخلية تتضمن نسيجه اللغوي ومستوياته التعبيرية المختلفة. ولمزيد من الاستضاءة في هذه الأسباب ينظر كتاب النورسي، الكلمات، ص 481- 482.
23 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم، ص 101. لمزيد من التفصيل في مفهوم المقصد الذي عادة ما يشبّهه النورسيّ بالحوض أو مجمع الأودية ينظر كتابه: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، ص 45.
24 المصدر نفسه، ص 102.
25 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم، ص 107. وخليق بالإيماءة إلى أن النورسيّ يحدّد موقع المعاني من المعنى الكلي من خلال التمثيل بشواهد من المجال العسكريّ الذي أتقنه وعاشره. للتوسع في هذه الشواهد ينظر كتابه: صيقل الإسلام، ص 107 وما بعدها.
26 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ص 483.
27 النورسي، بديع الزمان سعيد، الكلمات، ص 488. لا يتسع المقام للدخول في تفاصيل الخاصية التجميعية ولا لبسط الكلام في تفريعاتها. والراغب في الإحاطة الشاملة بالنكت البلاغية العشر، الاستعانة بكتاب النورسي، الكلمات، ص 483، 484، 485، 486، 487، 488،489، 490، 500،...، ففي هذه الصفحات إضاءات مشرقة، وتوضيحات مشبعة، ونماذج تطبيقية من القرآن الكريم.
28 النورسي، بديع الزمان سعيد، المثنوي العربي النوري، ص 156. ينظر الكلمات، ص 500.
29 النورسي، بديع الزمان سعيد، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، ص، 56.
30 النورسي، بديع الزمان سعيد، المثنوي العربي النوري، ص 167- 168.
31 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم، ص 30.
32 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الشعاعات، ص 308.
33 المصدر نفسه، ص 308- 309.
34 ينظر المصدر نفسه، ص 309.
35 للمزيد من الاستفاضة في هذا الموضوع ينظر: ابن تيمية، 1925، كتاب الإيمان، مصر، مطبعة السعادة، ص 34-35-47.
36 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم، ص 82.
37 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم، ص 85.
38 المصدر نفسه، ص 98-99.
39 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم، ص 41.
40 النورسي، بديع الزمان سعيد، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، ص 39.
41 أبو تمام، حبيب بن أوس الطائيّ، 1889م، ديوان شعر، وقف على طبعه وضبطه وعلّق شرحه شاهين عطية، بيروت، طبع في المطبعة الأدبية، ص 91. أخلق الثوب: أبلاه، الديباجتان: الخدان، السرمد: الدائم.
42 الزركشي، بدر الدين، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، بيروت، لبنان، دار المعرفة للطباعة والنشر، الجزء الثالث، ص 28.
43 الأصبهاني، أبو الفرج، كتاب الأغاني، بيروت، لبنان، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، المجلد الأول، الجزء الأول والثالث، ص 3.
44 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الشعاعات، ص 177.
45 النورسي، بديع الزمان سعيد، كليات رسائل النور، الشعاعات ص 308. ينظر في المقاصد الجمالية للتكرار: الكلمات، ص 525،... 540.
46 المصدر نفسه، ص 314. البيت الشعريّ للإمام البوصيري، شرف الدين محمد بن سعيد بن حمّاد، الكواكب الدرية في مدح خير البرية، طبعة ضبطها أحمد علي حسن وعلّق بهامشها مختصر شرح شيخ الأزهر، إبراهيم الباجوري، القاهرة، مكتبة الآداب، ص 18.


 

أرشيف ملف العدد

13 - الإنسان في رسائل النور وجودا، ومهمة، وغاية
. دور رسائل النور في استعادة صياغة القرآن للإنسان
. الإنسان في رسائل النور وجودا، ومهمة، وغاية
. مؤلّفات بديع الزمان أنموذجاً لتقديم الإسلام إلى الغرب
. نظام التربية في رسائل النور
. منهج وطريقة رسائل النور وغايتها
12 - مفاهيم وردت العناية بها في رسائل النور
. تحرير الحرية في رسائل النور
. مصطلح الإيمان في رسائل النور - دراسة مفاهيمية
. مفهوم البلاغة عند بديع الزمان سعيد النورسيّ
. الوحدة وتدبير الخلاف عند بديع الزمان سعيد النورسي
11 - وقفات مع بعض عناصر القوة المعنوية
. التزكية وتدبير الخلاف وأثرهما في وحدة الأمة عند سعيد النورسي
. العناصر الفكرية والفنية والنفسية في منهج الأستاذ النورسي في التفسير
. العمل الإيجابي ومنزلته في دعوة النور
. مقومات المجتمع الإنساني الآمن من منظور رسائل النور
. إحياء الأخلاق في الممارسة السلوكية عند النورسي
. مناهج التبليغ عند ورثة النبوة من منظور رسائل النور
10 - عنوان الملف: الأخلاق والوراثة
. المجاهدة والتوريث عند النورسي
. أواصر العناصر الكونية من منظور الأستاذ النورسي
. قاعـدة "الفنـاء في الإخـوان" في فكر بديـع الزمـان
9 - المقاصد في رسائل النور
. أساسيات منهج الفكر المقاصدي عند النورسي
. المقاصد القرآنية في فكر النورسي
. مقاصد القرآن من خلال رسائل النور
8 - أسرار العبرة والتعبير في رسائل النور
. منهج النورسى في شرح أسماء الله الحسنى
. نحو رؤية جديدة للدلالة النفسية لأسلوب التكرار في القرآن الكريم
. التاريخ عند بديع الزمان سعيد النورسي دراسة في التمثل والتفسير
. قواعد في تفسير القرآن عند النورسي من خلال إشارات الإعجاز
7 - النورسي والتصوف
. النورسى ورؤيته للتصوف المعاصر
. نظرات في الأدب الصوفي عند النورسي
. بديع الزمان سعيد النورسي والتصوف
. أهمية روحانية النورسي المتبصرة في عالم مادي متأزم
6 - دعوة رسائل النور
. دعوة رسائل النور: هل هي حركة؟ أم جمعية؟ أو جماعة؟
. المنهج العوفي وإعلاء كلمة الله عند بديع الزمان
. التبليغ والارشاد في رسائل النور
. العمل الإيجابي القاعدة الثابتة لعمر مديد
. المرأة الإصلاحية في فكر الشيخ النورسي
5 - الرؤية الحضارية في رسائل النور
. من الأسس الفكرية والحضارية في رسائل النور
. البعد العقدي لبنية الإنسان في فكر النورسي
. منهجيّة الاهتمام بعبادة التّعمير، سؤال استعادة الأمة وظيفة الشهادة عند الأستاذ النورسي
. الرؤية الحضارية من خلال رسالة الاقتصاد
. قراءة تحليلية في النظرة النورية إلى المسألة الغربية
4 - أسس التربية في رسائل النور
. تربية النفوس عند بديع الزمان النورسي
. المقاصد العملية للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
. منهج التربية عند النورسي
. من ملامح التربية السلوكية عند النورسي
. الحكمة وفصل الخطاب في منهج التربية عند النورسي
3 - أسس التربية في رسائل النور
. القرآن العظيم مصدراً للتربية السلوكية عند بديع الزمان النورسي
. التربية السلوكية عند النورسي
. الأبعاد التربوية لدرس العقيدة عند النورسي
. التجرد ونبذ الأنانية عند النورسي
. بديع الزمان سعيد النورسي ومشروعه الإصلاحي في التربية والتعليم
2 - التعليم في رسائل النور
. كتاب الكون قراءته وموقعه وتطوره في فكر بديع الزمان

النور للدراسات الحضارية والفكرية
 المركز الرئيسي:  

Kalendarhane Mah. Delikanli Sk. No: 6
Vefa 34134 Fatih - Istanbul / TURKIYE
 Phone: +90 212 527 81 81 - Fax: +90 212 527 80 80