
الوحدة وتدبير الخلاف عند بديع الزمان سعيد النورسي
- ABSTRACT -
Unity and Dispute Management
In the Thought of
Bediuzzaman Said Nursi
Mubarak Lamin
The subject of unity and dispute management is one of the essential components of the reformation project led by Bediuzzaman Said Nursi. The importance of this component is derived from the reality of conflict and disunity lived by the Muslim community and nourished by hatred and animosity among its members, the scholars and the public alike. In order to overcome this predicament and to be cured from this disease, Said Nursi directs the Muslim community to the clinic of the Qur'an and the pharmacy of Sunnah (the Prophetic heritage). Nursi diagnoses the disease and prescribes the cure. The diagnosis shows severe illnesses that are wearing out the community. Thus, the prescription includes cures for them so that the community becomes healthy again by being united by love and cooperation. Moreover, Nursi clarifies the importance of this unity. He also has plans for its way and describes its characteristics. Nursi, may God bless his soul, stresses two important issues to maintain unity and empower it. The first one is internal jihad carried out against one's [instinctual] soul in order to purify it. The second one is to understand and apply methods of dispute management. Nursi directs his advice to all ranks of society, scholars and the public alike. Thus, the community becomes healthy and immune to the diseases that threaten it.
* * *
- ملخص البحث -
مبارك لمين1
شكل موضوع الوحدة وتدبير الخلاف أحد الركائز الأساسية في المشروع الإصلاحي لبديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله. وتستمد هذه الركيزة أهميتها من واقع الشقـــــاق والتشرذم الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وتغذيه العداوة والكراهية بين أبناء الأمـــــة، خاصتهم وعامتهم. ولتجاوز هذه المعضلة والتعافي من هذا المرض، وجّه النورسي بوصلة الأمة نحو عيادة القرآن وصيدلية السنة الشريفة؛ فشخّص المرض ووصف الدواء. وأسفرت عملية التشخيص عن وجود عدّة أمراض فتّاكة تنخر جسم الأمة، وفي المقابل تضمّنت الوصفة العلاجية أدوية لتدارك الأمر، حتى تسترجع الأمة عافيتها بتحقيق الوحدة على قاعدة المحبة والتعاون. وقد أبرز النورسي حكم هذه الوحدة، ورسم معالمها، وأوضح السبيل إليها. وأكد -رحمه الله- على أمرين هامين لحفظ الوحدة وتقوية آصرتها؛ بمجاهدة النفس وتزكيتها أولا، ثمّ استيعاب آلية تدبير الاختلاف والتزامها ثانيا. وقد عنى -رحمه الله- في هذين الأمرين خاصة الأمة المتمثلة في شريحة العلماء، وعامتها المتجسّدة في باقي الشرائح الاجتماعية، وبذلك تتعافى الأمة من الاختلاف المذموم، ومن ثمّ تكسب مناعة ضد الأمراض التي تتربص بها في كل حين ومن كل جهة.
* * *
مقدمة
عديدون هم أعلام الأمة الذين صنّفوا في موضوع الوحدة والاختلاف، ومشهود لمصنفاتهم بالدقة العلمية وبالشهرة في الوسط الأكاديمي؛ وقليل هم الذين جمعوا بين الكتابة في الموضوع وتربية الأمة عليه، أفرادا وجماعات. ويُعد العلامة والمربي سعيد النورسي رحمه الله من الفئة الثانية. ولا غرو في ذلك إذا علمنا أنّ للرجل مشروعا إصلاحيا2 رائدا، بمعالم واضحة، وأسس متينة، مستمدة من فيض القرآن الكريم، ومن هدي السنة النبوية، ومن اجتهادات المجددين من علماء الإسلام عبر التاريخ، ومن عصارة تجربته الشخصية انطلاقا مما عاينه من خلال الواقع المزري للأمة، ومما عاناه من حالة تشرذم العالم الإسلامي. ويروم هذا المشروع النهوض بالأمة الإسلامية حتى تستعيد أمجادها وعزها. ولن يتأتى لها ذلك إلا بتحرير مَعلَم الوحدة، ثم تعهده بحسن تدبير الخلاف. ولذلك شكل موضوع الوحدة وتدبير الخلاف أحد الأسس البارزة في هذا المشروع. وقبل الخوض في تفكيك الموضوع وتجليته، يتعين علينا على المستوى المنهجي، التساؤل عن دواعي اختيار الموضوع ومشروعيته، مبرزين ضوابطه ومحدداته.
أ- دواعي اختيار الموضوع ومشروعيته
تم الإقدام على الكتابة في هذا الموضوع لدواعي أربعة:
أولها: اعتبار موضوع الوحدة أصلا في الإسلام، ومعلوما من الدين بالضرورة، ومن أعظم المقاصد والغايات الشرعية.
ثانيها: ما لوحظ في سجل تاريخ الأمة من صفحات بيضاء تنطق بازدهار حضاري في عزّ الوحدة، ومن صفحات سوداء تفوح بالتخلف في أتون الاختلاف.
ثالثها: ما كتب لنا أن نعايِنَه ونعانِيَه في هذا العصر من آلام التمزق، وجراحات الاختلاف، عبر أرجاء العالم الإسلامي، مما سلب الأمة عزها وسؤددها، وجعلها تعيش مرحلة القصعة بتكالب الأعداء عليها.
رابعها: الاحتفاء بصدور كتاب زميلنا الفاضل الأستاذ الدكتور عبد الكريم عكيوي، والموسوم بـ: "اشراقات نورية من الديار المغربية"، فالمناسبة إذن شرط. والجدير بالإشارة أن موضوع الوحدة وتدبير الخلاف شكل أحد المحاور البارزة في هذا العمل المتميز.
ب- ضوابط الموضوع
أولا: ضابط المفاهيم
- تعريف الوحدة:
- على المستوى اللغوي: وردت كلمة الوحدة في معاجم اللغة بمعاني متعددة، منها: الانفراد وانقطاع النظير، ونفي التبدل والاختلاف، والكل الذي لا يتجزأ ولا يقبل الانقسام.3
- على المستوى الاصطلاحي: تعددت تعريفات الوحدة، ومنها: الوحدة هي اتحاد الدول والبلاد، والأفراد والجماعات في سائر أمور حياتهم ومعاشهم وسيرتهم وغايتهم، وبموجب هذه الوحدة يصبح الجميع شيئا واحدا أو أمة واحدة، يقال اتحاد البلدان، أي صارا بلدًا واحدًا.4
وحدة الأمة الإسلامية إذن هي اجتماع المنتسبين إلى الإسلام على أصول الدين وقواعده الكلية لتحقيق مهمة العبادة في هذه الحياة والتعاون عليها، كما تدل النصوص القرآنية والحديثية على ذلك؛ منها قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾،المؤمنون:52 وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾.الأنبياء:92
وفي الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهروالحمى".5
- تدبير الخلاف:
- التدبير لغة: دَبَّرَ الأَمْرَ وتَدَبَّره: نظر في عاقبته، واسْتَدْبَرَه: رأَى في عاقبته ما لم ير في صدره (...)، والتَّدْبِيرُ في الأَمر: أَن تنظر إِلى ما تَؤُول إِليه عاقبته.6
- الخلاف لغةً: مصدر خالف، كما أن الاختلاف مصدر اختلف، والخلاف هو: المضادة، وقد خالفهم خالفة وخلافاً، وتخالف الأمران واختلفا، لم يتفقا، وكل ما لم يتساوَ فقد تخالف واختلف.7
- تدبير الاختلاف: المراد به في هذا البحث "تنظيم النظر والاجتهاد بين أهل الاختصاص من علماء الأمة، مع ضبط التعامل بينهم أولا عند الاختلاف، وبين عامة المسلمين ثانيا مع حفظ المودة والتواصل والتعاون".8
ثانيا: الضابط المرجعي تم الاعتماد في تحرير الموضوع وتجليته على المصادر والمراجع التالية:
- كليات رسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي.
- كتاب "إشراقات نورية من الديار المغربية" لعبد الكريم عكيوي.
ثالثا- الضابط المنهجي
حظي موضوع الوحدة والخلاف عند سعيد النورسي باهتمام العديد من الباحثين، حيث شكّل محور مؤتمرات وندوات، ومادة كتب ومجلات. وما يزال الموضوع -بتقديرنا المتواضع- في حاجة ماسة إلى مزيد من التوضيح والتبسيط بغية استيعابه وتمثله. ولن يتأتى ذلك إلاّ بالتجديد المنهجي لمقاربة الموضوع حتى تستوعبه الأجيال الصاعدة من طلبة جامعاتنا تحديدا، باعتبارهم أمل المستقبل، ومن ثمّ فإنّ استقراء مفاصل الموضوع من مصادره، ورصد عناصره من معينها، بتركيز لا يخل بالمحتوى؛ شكّل هاجس هذا البحث ومقصده. ويعتبر هذا العمل في أصله فكرة مستلة مما كتبه الأستاذ عبد الكريم عكيوي حول الموضوع، بمناسبة الاحتفاء بإصداره الجديد السالف الذكر. وتصبو هذه العصارة التي نقدمها حول الموضوع إلى تيسير وصوله إلى الفئة المستهدفة مستوعَبا ومفهوما، خاصة تلك التي لا يتسع وقتها، ولا قدراتها اللغوية لتتبع الموضوع في مضانه، ولا عبر الكتب والمقالات التي أسهبت في التفاصيل.
تأسيسا على معطيات هذه المقدمة، ما هي أسباب مرض الاختلاف ودواؤه؟ وما هو تصور النورسي لوحدة الأمة؟ وما موقع تدبير الخلاف في هذه الوحدة؟
1- الاختلاف والعداوة في الأمة: تشخيص المرض ووصف الدواء
عدّ الأستاذ سعيد النورسي الاختلاف والعداوة معضلة الزمن ومرض العصر. فالمتتبّع لمنحى تاريخ الأمة تستوقفه لحظات صعود وهبوط في مساري الوحدة والاختلاف، إلى أن انتهى الأمر إلى الحقبة المعاصرة التي أُسقطت فيها الخلافة العثمانية لتدخل الأمة في تيه التنازع، فمستنقع الفشل، ومن ثمّ ذهاب ريحها؛ وفقا لسنن التاريخ التي لا تحابي أحدا، وجزاء وفاقا لمن لم يستوعب قوانينها.
وقد أرق هذا الأمر مضاجع الغيورين على الإسلام والحريصين على مستقبل الأمة، وفي صدارتهم الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي (1294-1379هـ/1877-1960م)، الذي كُتِب له أنْ يعيش في قلب المحنة، وأن يكتوي بنارها. فحاول تشخيص المرض ومن ثمّ وصف الدواء. وقد أرجع أسباب الاختلاف إلى عوامل خارجية وداخلية، غير أنّه عدّ الأخيرة الأخطر باعتبارها أرضية مواتية لنجاح العامل الخارجي. وتشمل حالة المرض عامة الأمة وخاصتها. وقد وضح تلك الحالة في الخطبة الشامية، التي وجهها للأمة الإسلامية من على منبر الجامع الأموي بدمشق سنة 1328هـ/1911م. وتلخّص الخطبة معضلة الأمة في ستة أمراض.9 وبموازاة مع هذا التشخيص للمرض، تقدم الخطبة ذاتها وصفة علاجية للأمراض الستة،10 كما يوضحها الجدول الآتي:
جدول يوضح الأمراض الستة ودواءها:
وصف الدواء |
تشخيص المرض |
بناء الأمل |
اليأس |
التربية على الإخلاص |
موت الصدق في حياتنا |
التربية على المحبة |
حب العداوة |
التربية على التواصل بين المؤمنين |
الجهل برابطة الإيمان |
التربية على الشورى |
سريان الاستبداد |
التربية على روح الجماعة |
حصر الهمة في المنفعة الشخصية (الأنانية) |
يتضح مما سبق أنّ العداوة والاختلاف يقوّضان وحدة الأمة، وأنّ ثمّة أمراضا تكرس ذلك ويتوجب تداركها بجملة من الأدوية المضادة والتلقيحات المفيدة، حتى تسترجع وحدة الأمة عافيتها. فما هو حكم هذه الوحدة؟ وما هي معالمها؟ وكيف السبيل لتحقيقها؟
2. وحدة الأمة: حكمها، ومعالمها، والسبيل إليها.
2/1 حكم الوحدة وأهميتها
أولا: وحدة الأمة واجب شرعي
- الوحدة أصل مقطوع به في الدين، وفريضة شرعية، ومعلوم من الدين بالضرورة، ومن أعظم المقاصد والغايات الشرعية.
- الوحدة تقوم على المحبة والتعاون: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وفي هذا الصدد وجّه النورسي رحمه الله نداء يشتعل حرقة على حال الاختلاف والتشرذم في الأمة، وينم عن حرص شديد على وحدتها وائتلافها بقوله: "أيها المؤمنون! إن كنتم تريدون حقا الحياة العزيزة، وترفضون الرضوخ لأغلال الذلّ والهوان، فأفيقوا من رقدتكم، وعودوا إلى رشدكم، وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾".الحجرات:10 11
- الدساتير المؤطرة للوحدة ونبذ الخلاف، والداعية إلى التعاون والمحبة: ساق النورسي في هذا الإطار جملة من النصوص القرآنية والحديثية، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾،الحجرات:10 وقوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾،فصلت:34 وقوله تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾،آل عمران:134 وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾،الأنفال:46 وقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾،المائدة:2 وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".12
ثانيا: الوحدة ضرورة واقعية وعقلية
قال النورسي: "إنّ هذا الزمان زمن الجماعة، فلو بلغ دهاء الأشخاص فرداً فرداً حدّ الخوارق، فلربما يُغلب تجاه الدهاء الناشئ من شخص الجماعة المعنوي".13 فالاجتماع والتعاون قوة غالبة للفردية والذاتية، وقاعدة وظّفها أرباب الأعمال والشركات وغيرهم "يسترشدون بها لأجل الحصول على ثروة طائلة أو قوة شديدة، بل اتخذ من لهم التأثير في الحياة الاجتماعية -من أشخاص أو جماعات وبعض الساسة- هذه القاعدة رائداً لهم، ولقد كسبوا نتيجة اتباعهم هذه القاعدة قوة هائلة وانتفعوا منها نفعاً عظيماً، بالرغم مما فيها من أضرار واستعمالات سيئة، ذلك لأنّ ماهية الاشتراك لا تتغير بالمساوئ والأضرار التي فيها، لأنّ كل شخص-وفق هذه القاعدة- يحسب نفسه بمثابة المالك لجميع الأموال، وذلك من زاوية مشاركته في المال ومن جهة مراقبته وإشرافه عليه، برغم من أنّه لا يمكنه أن ينتفع من جميع الأموال، وعلى كل حال فإنّ هذه القاعدة إذا دخلت في الأعمال الأخروية فستكون محوراً لمنافع جليلة بلا مساوئ ولا ضرر، لأنّ جميع تلك الأموال الأخروية تحمل سر الدخول بتمامها في حوزة كل فرد من أولئك الأفراد المشتركين فيها، دون نقصان أو تجزئة".14
وهكذا يثبت النورسي بالحجة العقلية ومقتضى المنطق أنّ الوحدة يفرضها الواقع، وأنّها وراء نجاح أصحاب الأعمال والشركات وغيرهم ممن لا همَّ لهم إلا الربح الدنيوي ولو من غير بابه، فكيف يزهد في الوحدة والائتلاف من يعمل لتحقيق مقاصد دنيوية نبيلة، وغايات أخروية شريفة؟
ثالثا: الوحدة والتعاون من مقتضيات الفطرة والذوق السليم
- الوحدة والتعاون فطرة فطر الله الناس عليها: يؤكد النورسي رحمه الله "أن الذوق السليم يوجب محبة المحبة وبغض العداوة"، و "أن الإيمان يؤسس الأخوة بين كل شيء، ولا يشتد الحرص والعداوة والحقد والوحشة في روح المؤمن".15
- العدو الحقيقي نفسك: قال -رحمه الله- "إنّ كنت تريد أن تعادي أحداً فعاد ما في قلبك من العداوة، واجتهد في إطفاء نارها واستئصال شأفتها، وحاول أن تعادي من هو أعدى عدوك وأشد ضرراً عليك، تلك هي نفسك التي بين جنبيك، فقاوم هواها، واسع إلى إصلاحها، ولا تعاد المؤمنين لأجلها، وإن كنت تريد العداء أيضاً فعاد الكفار والزنادقة، فهم كثيرون، واعلم أن صفة المحبة محبوبة بذاتها جديرة بالمحبة، كما أنّ خصلة العداوة تستحق العداء قبل أي شيء آخر".16
يستنتج من النصين السابقين أن الوحدة خصلة فطرية فطر الله عليها الإنسان صاحب الذوق السليم والإيمان الراسخ. لكن الذي يفسد سلامة الذوق، ويخدش في صفاء الإيمان، النفس الأمارة بالسوء التي تأتي على فطرة الإنسان، ومن ثمّ محبته للآخرين مما يحول دون التعاون وبالتالي استحالة تحقيق الوحدة والائتلاف.
2-2- معالم الأمة الواحدة
لم يكتف سعيد النورسي بتشخيص أمراض الأمة ووصف دوائها، وإبراز أهمية الوحدة وضرورتها، بل رسم لنا صورة جميلة، وحدد لنا معالم أساسية،17 وأركانا متينة للأمة الموحدة، العزيزة القوية، كما يتضح من الجدول الآتي:
المعالم |
العناصر |
الاتحاد بين جميع المؤمنين |
وصفها |
من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب |
إطارها الجغرافي |
الحرمان الشريفان |
مركزه |
توحيد الله عزوجل |
وجهة وحدته |
الإيمان |
عهده وقسمه |
السنة النبوية الشريفة |
نظامه الداخلي |
الأوامر والنواهي الشرعية |
قوانينه |
جميع المدارس والمساجد والزوايا |
مقر اجتماعاته |
القرآن الكريم وتفاسيره (رسائل النور أحدها)، وجميع الكتب والصحف التي تسعى لإعلاء كلمة الله. |
ناشر أفكار الجماعة |
جميع المؤمنين |
منتسبوه |
فخر العالمين محمد صلى الله عليه وسلم |
رئيسه |
يتضح مما سلف، أنّنا أمام تصور جامع جميل للأمة في وحدتها، فكلّ مسلم صادق يصدق عليه هذا، ويجد نفسه داخل هذه الوحدة (قطرة من ماء تحمل صفة الماء). ومن ثمّ تذوب الكيانات السياسية، والخلافات المذهبية، والتباينات الطائفية، والصراعات العرقية، والتجاذبات اللغوية داخل هذا الإطار الفسيح المستوعب والحاضن للجميع، وتلك إحدى خصائص الحضارة الإسلامية المتمثلة في الوحدة والتنوع.
لكن هذا الإطار النظري يبقى جسدا بلا روح، ومن ثمّ يتوجب علينا بث الروح في هذه الروابط، لأنّ الوحدة الروحية والفكرية هي أساس الوحدة المادية والسياسية، وطريقها وضمان استمرارها.
2-3 الطريق إلى بناء الوحدة
يحتاج بناء الوحدة المرور عبر ثلاث مراتب، تفضي كل واحدة منها إلى الأخرى، في تكامل تام وانسجام كامل. وتتميّز كل واحدة منها بمعالم واضحة، وهذا ما يجليه الجدول المبيّن:
جدول يوضح مراتب بناء الوحدة ومعالمها
معالمها |
المرتبة |
الترتيب |
- معرفة المسلم موقع الوحدة ومنزلتها في الشريعة باستيعاب دساتيرها. |
مرتبة العلم والمعرفة |
أولا |
- تربية الروح. |
مرتبة الحال |
ثانيا |
- ضبط قواعد السلوك اليومي بين المسلمين عامة. من أجل تدبير الخلاف بينهم حتى لا يكون الخلاف في النظر والاجتهاد سببا للعداوة. |
مرتبة العمل والسلوك |
ثالثا |
نخلص إذن إلى أنّ مرتبة الحال (التزكية)، ومرتبة العمل والسلوك (تدبير الخلاف)، أرقى من مرتبة المعرفة، ولذلك أكّد الأستاذ سعيد النورسي على أهميتهما، ونبّه إلى أولويتهما في تحقيق الوحدة وترسيخها حتى تصمد في وجه أعاصير الاختلاف والعداوة.
3-التزكية وتدبير الخلاف سبيلان لحفظ الوحدة وتقويتها
أولا: مرتبة التزكية
القلوب لها أمراض ترد عليها مثل الأبدان؛ فإذا كانت الأخيرة تحتاج إلى وقاية من الأمراض المادية، فإنّ الأولى في حاجة ماسة إلى التزكية من الأمراض المعنوية. ويُعَدُ القلب والنفس محل الأمراض الستة المسببة للاختلاف والمعوّقة للوحدة، ومن ثمّ فتزكية النفس أمر واجب، فيما بين العبد وربه أولا، ثم فيما بينه وبين المسلمين ثانيا، ثمّ بينه وبين كلّ الناس.
وعليه فدائرة القلب الضيقة هي الأولى بالرعاية، والأجدر بالمجاهدة من الدوائر الأخرى. وقال بديع الزمان النورسي رحمه الله في هذا السياق: "إنّ رأسمال العمر قليل، ورحلة العمر هنا قصيرة، بينما الواجبات الضرورية والمهمات التي كلفنا القيام بها كثيرة، وهذه الواجبات كالدوائر المتحدة المركز حول الإنسان؛ فابتداء من دائرة القلب والمعدة والجسد والبيت والمحلة والمدينة والبلاد والكرة الأرضية والبشرية وانتهاء إلى دائرة الأحياء قاطبة والعالم أجمع كلها دوائر متداخلة بعضها في البعض الآخر، فكل إنسان له نوع من الوظيفة في كل دائرة من تلك الدوائر وأقربها إليه، بينما أصغر الواجبات وأقلّها شأنا ودواما هي في أعظم تلك الدوائر وأبعدها عنه... لكن لمّا كانت الدائرة العظمى فاتنة جذّابة فهي تشغل الإنسان بأمور غير ضرورية له وتصرف فكره إلى أعمال لا تعنيه بشيء، حتى تجعله يهمل واجباته الضرورية في الدائرة الصغيرة القريبة منه، فيهدر عندئذ رأسمال عمره، ويضيع عمره سدى".18 ويمكن اختزال معطيات هذا النص الثمين وتجليتها في الجدول المرفق:
جدول يمثل الدوائر المحيطة بالإنسان وطبيعة واجباته تجاهها
طبيعة الواجبات تجاه الدوائر |
الدوائر مفصلة |
الدوائر مجملة |
- واجبات كبيرة |
- القلب (أقرب الدوائر) |
الدوائر القريبة |
- واجبات متوسطة |
- البيت |
الدوائر الوسطى |
- واجبات صغيرة |
- الكرة الأرضية |
الدوائر البعيدة |
وهكذا فإنّ تعهُّد القلب بالرعاية والتزكية من أولى المهمات وأعظم الواجبات؛ ولهذا جعل النورسي الجهاد الأكبر للنفس وتهذيب السلوك المسلك الأساس والسبيل الناجع للوحدة فقال: "وهدف الاتحاد وقصده: إعلاء كلمة الله، ومسلكه: الجهاد الأكبر للنفس وإرشاد الآخرين، وهمة هذه الهيئة المباركة مصروفة بنسبة تسع وتسعين بالمائة إلى غير السياسة من تهذيب الأخلاق واستقامة السلوك وما شابهها من الفضائل والمقاصد المشروعة".19
ويصبو هذا الجهاد الأكبر إلى كسر القوة الغضبية والشهوانية في النفس؛ من عُجْب وكِبْر وحسد وحب للظهور...، ويكفي من أصول ذلك قول الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾،الشمس:7-10 وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".20
وتفضي تزكية القلب إلى ذوبان الشخصية الفردية في الشخصية المعنوية، وإحلال التفكير بـ ''نحن'' محل التفكير بـ "أنا"، فالأمة الواحدة مثل "الحوض يذوب فيه الجميع"،21 و "الأمة باقية والفرد فان".22 ويكمن في هذه المعادلة "سر عظيم وحكمة إلهية ونظام أكمل، أنّ فردا خارقا في نوعه يمنح القيمة والأهمية إلى أفراد نوعه بالستر والخفاء، ودونك المثال: الولي في الإنسان، والأجل في العمر، فقد ظلا مخفيين، وكذا ساعة الإجابة في الجمعة وليلة القدر في رمضان، والاسم الأعظم في الأسماء الحسنى، والسر اللطيف في هذه الأمثلة وقيمتها العظيمة هي أنّ في الإبهام إظهارا، وفي الإخفاء إثباتا".23 وزاد -رحمه الله- الأمر جلاء وتوضيحا بقوله: "ادفن مزاياك تحت تراب الخفاء لتنمو يا ذا المزايا ويا صاحب الخاصية! لا تظلم بالتعين والتشخص، فلو بقيت تحت ستار الخفاء، منحت إخوانك بركة وإحسانا، إذ من الممكن ظهورك في كل أخ لك، وأن يكون هو أنت بالذات، وبهذا تجلب الأنظار والاحترام إلى كل أخ".24
والجدير بالإشارة أنّ هذا الفناء للفرد في الجماعة، وهذا الذوبان للشخصية الفردية في الشخصية المعنوية، ومن ثمّ إحلال الوحدة والائتلاف محل التفرقة والاختلاف؛ لا يعني ذلك كلّه الاجتماع على كلّ شيء وعدم حصول الخلاف، فهذا مخالف لطبيعة الإنسان وسنن الحياة، مما يقتضي التدبير الإيجابي لهذا الخلاف حتى يكون عامل قوة للوحدة. فكيف ذلك؟
ثانيا: تدبير الخلاف شرط أساس لحفظ الوحدة
سطّر النورسي رحمه الله ضوابط لتدبير الخلاف العلمي، وحدّد آدابا للتعامل بين أهل العلم بغية حفظ الوحدة وتمتينها. ويتمثّل ذلك في الخطوات الآتية:25
- تدبير الخلاف متوقف على التحقق القلبي والروحي لشرط التزكية.
- جعل الخلاف خلافا "إيجابيا مثبتا بناء"، مقابل الخلاف السلبي الذي يفضي إلى "إبطال مذهب المخالف والتفرد بالحق والصواب".
- سعي كل واحد لترويج مسلكه، وإظهار صحة وجهته، وصواب نظرته دون محاولة هدم مسالك الآخرين، أو الطعن في وجهة نظرهم، بل يسعى لإكمال النقص ورأب الصدع.
- يمكن القول إنّ مسلكي حق وهو أفضل وأجمل، ولا يجوز قول: "الحق هو مسلكي فحسب"، ومن ثمّ إبطال مسالك الآخرين.
- عدم التعيين والكف عن ذكر الأسماء في مقام الرد والتخطئة، وذلك بالرد على الأفكار من غير نسبتها للأشخاص.
- استحضار أنّ الحق والباطل يمتزجان في الحياة الدنيا، فكلّ حق ممتزج بباطل، وكل باطل لا يخلو من حق.
- العمل بمنهج النظر إلى جهة الحق في الباطل، وصرف النظر عن جهة الباطل في الحق، والعمل بقاعدة "خذ ما صفا دع ما كدر".
- عدم إصدار أحكام مطلقة "فما أعظم ضرر الإطلاق في مقام التقييد، والتعميم في مقام التخصيص، ومن هذا تتعادى الاجتهادات المتآخية".26
- كلّ اجتهاد يفيد الظن وليس القطع، وإنّما القطع لأصول الدين وقواعده الكلية.
- كلّ عالم يرى صواب مذهبه على جهة الظن وخطأ مخالفه على الظن أيضا، ومن ثمّ يحدث ائتلاف المجتهدين واعتبار الاجتهادات.
وهكذا فإنّ تدبير الخلاف عند النورسي ينبني على جملة من الضوابط، ويقوم على سلسلة من القواعد المراعية لأصل الخلاف والملتزمة بآدابه. وتُعَدُ هذه القواعد وتلك الضوابط صمام أمان لحفظ وحدة الأمة، وضامنا قويا لحماية ائتلافها.
الخاتمة: خلاصات واستنتاجات
صفوة القول، إنّ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله تناول في مشروعه الإصلاحي موضوعا آنيا ومصيريا؛ ويتعلّق الأمر بالوحدة والاختلاف؛ بدءًا بتشخيص مرض الأمة ووصف دوائه، ومرورا بتجلية موضوع الوحدة على مستويات حكمها ومعالمها والطريق إليها، وانتهاء بتحديد سياج تحصينها المتمثل بالتزام التزكية، وتفعيل آلية تدبير الخلاف. فما هي إذن الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها مما سلف؟:
- أهمية مَعلَم الوحدة وتدبير الخلاف في المشروع الإصلاحي لبديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله.
- الخلاف مرض العصر، والعداوة معضلة المسلمين في هذا الزمان.
- غياب الوحدة سلب المسلمين عزّهم وقوتهم ومكانتهم بين الأمم.
- الوحدة فريضة شرعية، وضرورة واقعية، ومن مقتضيات الفطرة.
- رصد موانع الوحدة: الجهل برابطة الإيمان، وحب العداوة، والاعتزاز بالأنانية، والتنافر بسبب تباين النظر واختلاف الاجتهاد.
- وصف قواعد الإصلاح: مجاهدة النفس وتزكيتها، وتفعيل آلية تدبير الاختلاف.
- إنّ قطع الخلاف الفقهي أو المذهبي بالمرة بعيد المنال، وإنّما الغاية المرجوة هي تدبير هذا الخلاف لحفظ الوحدة وقطع الشقاق.
- ريادة القاعدة الذهبية النورسية في الوحدة ونبذ الاختلاف، وتلخصها العبارة الجوهرية الآتية: "إنّ مذهبي هو إبداء الحب للمحبة، وإظهار الخصام للعداء، أي أنّ أحبّ شيء إليّ في الدنيا هي المحبة، وأبغض شيء عندي هو الخصام والعداء."27
والله عز وجل أعلى وأعلم وهو سبحانه ولي التوفيق.
* * *
الهوامش:
1 أستاذ تاريخ الإسلام وحضارته، ورئيس قسم التاريخ والحضارة، جامعة ابن زهر، أكادير، المغرب.
2 يقوم مشروع النورسي الإصلاحي على معالم خمسة: أولها تثبيت الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، وثانيها تجديد الإيمان في القلوب، وإقامته على حجج عقلية وعلمية، وبيان ضرورته وفوائده، وثالثها تجديد طرق التربية والتزكية، ورابعها تجديد الفكر وإصلاح مناهج التربية والتعليم، وخامسها ترسيخ أسس وحدة الأمة واتقاء الشقاق والاختلاف.(عبد الكريم عكيوي، إشراقات نورية من الديار المغربية، منشورات جمعية المركز المغربي للثقافة والتنمية والتعاون بتنسيق مع مركز إستانبول للثقافة والعلوم، مطبعة النجاح الجديدة، ط1،الدار البيضاء، 1436هـ/2015م، ص: 160).
3 انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس، و "لسان العرب" لابن منظور، و "المفردات" للأصفهاني، مادة "وَحَدَ".
4 أحمدعمرهاشم، وحدة الأمة الإسلامية في السنة النبوية، بحث مقدم للملتقى الأول للعلماء المسلمين تحت عنوان وحدة الأمة الإسلامية، مكة المكرمة، 127هـ، 2006م، ص7.
5 البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم.
6 لسان العرب، مادة: "دَبَّرَ".
7 المصدر نفسه، مادة: "خالف".
8 عكيوي، إشراقات نورية...، مرجع سابق، ص: 172.
9 النورسي: "صيقل الإسلام" ص 49: 492.
10النورسي: "صيقل الإسلام" ص 50: 515.
11 النورسي: "اللمعات" ص 234.
12 صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
13 سيرة ذاتية، ص 370.
14النورسي: "اللمعات" ص 248.
15 النورسي: "المثنوي العربي النوري" ص 158.
16 النورسي: "المكتوبات" ص 343.
17 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 97.
18النورسي: رسالة الثمرة، صفحتا 21-22.
19 النورسي: "سيرة ذاتية" ص 98.
20 "صحيح البخاري" كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه وعرضه.
21النورسي: "اللمعات" ص 250.
22النورسي: "صيقل الإسلام" ص 419.
23النورسي: "الكلمات" ص 866.
24 نفسه.
25 عبد الكريم عكيوي، إشراقات نورية... ص: 172 فما بعد (انظر مصادره في الهوامش).
26 النورسي: "المكتوبات"، ص.340.
27 النورسي: "صيقل الإسلام"، ص 423.