النورسي ومنهجه في الدعوة الى القرآن

الإصدارات

قراءة في كتاب

الكتاب: النورسي ومنهجه في الدعوة الى القرآن.
تأليف:
أ. د. سليمان عشراتي.
دار النشر:
دار ميكا، تركيا.
الطبعة:
الأولى، 2015.
بقلم:
أديب إبراهيم الدباغ

عظماء الروح من المفكرين، إذا هم أرادوا أن يكتبوا، نَحَّوْا أقلامهم جانباً، وتركوا لأرواحهم مهمة الكتابة عنهم، وجعلوا من دماء قلوبهم مداداً للكلمات التي يسطرون.

فالكتابة عندهم ضرب من ضروب الصلاة يمارسونها على طهر، فكأن لها ما للصلاة نفسها من قدسية، من هنا تأتي كتاباتهم طاهرة منزّهة عن شوائب الدنيويات، وكأنها تنزيل سماوي في طهرها وصفائها، وفي علوها وسموها، فسرعان ما يتماهى معها أصحاب النفوس الكبيرة والعقول الراجحة.

والاستاذ "عشراتي" -مؤلف هذا الكتاب- وهو روح كبير، وذهن موسوعي استيعابي يقع على الأفكار، فيلتقطها التقاطاً ويستوعبها استيعاباً ويظل وراءها غائصاً ومتفحصاً حتى يصل إلى لبابها ويدرك مراميها وفلسفتها، وقد أوتي قلماً مطواعاً إذا هزَّه أبرق وأرعد وأمطر وتهاطلت عليه الأفكار تترى، والمعاني تترادف، والكلمات يزحم بعضها بعضاً، فيأخذ منها بقدر ويرسل الأخرى إلى أجل معلوم، ومَن يلاحق "عشراتي" في هذا الكتاب، يشعر وكأنّ الرجل يخوض مع النورسي يداً بيد إحدى ملاحمه الفكرية والروحية، وذلك من خلال مسيرته الإيمانية ومن خلال أولئك الرجال الأوائل الذين عرفوه وشاهدوه أو جالسوه أو تتلمذوا على يديه، وقد وجد في كتاب "الشهود الأواخر" ضالته، فاستشهد بأقوالهم، وبما حفلت به ذاكرتهم من مشاهد وصور ووقائع، فزاد معرفة به، وقرباً منه، وتعاطفاً معه في معاناته وفي جروحه الروحية وغربته عن الوطن والأهل والصديق، وأعجب بقوة إرادته، وصلابة عزيمته، وعلو همته وإصراره على المضي في طريق الدفاع عن القرآن والإيمان إلى آخر نفس من أنفاسه.

ولأنّ "رسائل النور" التي أقام "عشراتي" كتاباته على أعمدتها النورانية، هذه الرسائل كان قد كتبها روح عظيم وقلب جَوّال مع روح القرآن، لذا فقد غدت مرآة كونية يبصر بها الإنسان -أياً كان هذا الإنسان- روحه وحقيقته الآدمية، فكما تختفي بعض أسرار الله تعالى في الأشياء، فهي تختفي كذلك في هذه الرسائل، مما يجعلها تمتزج بأجزاء النفس، وتسري مع الروح حيثما سارت، وهذا ما يرشحها لتكتسب شرف الخلود على مرّ الزمان.

إنّ مظهراً من مظاهر قوة الله وعظمته، ودفقات من ينبوع الجمال الإلهي، تتراءى لنا من بين سطور هذه الرسائل، ولا نكون مغالين إذا قلنا إن "النورسي" وهو يكتب هذه الرسائل كان يستذكر قدسية القلم العلوي الذي سطر صحائف الكون، فهو يلتقط ما يترشح من علوم هذا القلم، ليسطرها على صفحات "الرسائل".

فالإنسان في هذا العصر القَفر العصيب يعاني من القهر الروحي، والشتات النفسي والفكري، وإنه ليظل يصك سمعه عن صرخات روحه المقهورة، وعن عويل قلبه النازف الجريح، هذا القلب الذي جَفّ حتى تصَحّر، وهذه الروح التي ضمرت حتى باتت على حافّات الشلل الأبدي. لقد أحاط "النورسي" هذا الإنسان بالإشفاق، فبكى عليه، وتألم من أجله، فغدت رسائله طاقة تفجيرية هائلة تفجر قوى الإيمان واليقين في هذا الإنسان من جديد، بل هي كعصا موسى عليه السلام، إذا ضربت القلوب والأرواح انبجس منها معين زلال يسقي الشفاه الجافّة والحلوق الحارقة.

و "النورسي" إذْ يودع رسائله "رسائل النور" روحه وفكره، فإن هذه الروح وهذا الفكر يشكلان طاقة إشعاعية تسري في العقول والأرواح، وتغدو منبع إيحاء لكل الأذهان جيلاً بعد جيل، وهو "أي النورسي" يعالج من خلال الإنسان إشكالات الحضارة وأمراضها، لأن الحضارة إذا داءت بداء الجحود والنكران، امتدّ داؤها إلى الأفراد والشعوب والأوطان.

إنّ صورة العالم الأخروي والأبدي لم تفارق مخيلته في كل ما كتب، فحرارة انفعاله بهذا العالم جعله ينشئ فكراً أخروياً يكاد القارئ يلمس قرب هذا العالم من نفسه ومن دنياه التي يعيش فيها، وأنه، أي هذا العالم، ليس أكثر غرابة من كل غريب في هذه الدنيا. فقمة الوجود هي الحقيقة، والإيمان هو جماع كل حقيقة في هذا العالم، ومن هنا كان "النورسي" بروحه العظيم، وبفكره المتفرد يكاد يشكل ضميراً للإنسانية المتعطشة إلى الروحانية العالية، والفكر الإيماني التصديقي، فإنه لا ينفك يلقي الأضواء على كل شأنٍ غير مطروق ومجهول من حقائق الوجود، فما أفقر الإنسان من مخلوق، وما أضعفه من كائن إذا هو لم يكن له من الله عاصم، ومن لطفه وقاء، ومن كلاءته معين، وإنه ليترتب على ذلك من السموّ الإنساني ما يجعل الحياة تطيب، والعيش يستقيم، فـ "النورسي" كائن بشري يتقطر من أنحائه ذكر وتسبيح وخشوع وتعظيم، وأشواق ومحبة وإشفاق، فلمساته الفكرية والروحية لا زالت تبعث الحياة في أشد الأرواح ثقلاً وغلظةً.

و "عشراتي" في هذا الكتاب، يَهُشُّ بقلمه على هذه المعاني والأفكار النورية، ويطوف بها، ويستقصيها، ويفجر من معناها معاني، ومن فكرها أفكاراً، ومن سموّها سموّاً ورفعة، وهو في حومة الكتابة يجيش قلمه جيشاناً، ويصول ويجول، غائصاً على درر الكلام، ولآلئ المعاني، وكأنه لنفسه يكتب، وإيّاه يخاطب، وذهنه يريد.

جزى الله "عشراتي" عنا وعن "النورسي" خير الجزاء، وأجزل له الأجر والثواب.

* * *


 

أرشيف الاصدارات

13 - الإنسان في رسائل النور وجودا، ومهمة، وغاية
. منهج الاستنباط من القران الكريم عند سعيد النورسي في رسائل النور
12 - مفاهيم وردت العناية بها في رسائل النور
. النورسي ومنهجه في الدعوة الى القرآن
11 - وقفات مع بعض عناصر القوة المعنوية
. النورسي في عيون الشهود
10 - عنوان الملف: الأخلاق والوراثة
. قراءة في كتاب: قضايا وتجليات في رسائل النور
9 - المقاصد في رسائل النور
. قراءة في كتاب: اللؤلؤ والمرجان من حكم النورسي
8 - أسرار العبرة والتعبير في رسائل النور
. قراءة في كتاب: رسالة ماستر
6 - دعوة رسائل النور
. قراءة في كتاب
5 - الرؤية الحضارية في رسائل النور
. قراءة في كتاب
4 - أسس التربية في رسائل النور
. قراءة في كتاب
3 - أسس التربية في رسائل النور
. قراءة في كتاب
2 - التعليم في رسائل النور
. قراءة في كتاب
1 - المنهجية في رسائل النور
. قراءة في كتاب

النور للدراسات الحضارية والفكرية
 المركز الرئيسي:  

Kalendarhane Mah. Delikanli Sk. No: 6
Vefa 34134 Fatih - Istanbul / TURKIYE
 Phone: +90 212 527 81 81 - Fax: +90 212 527 80 80