
البناء النصيّ للقرآن الكريم بين الوفاء للحقيقة واتّساع المعنى
دراسة في إشكالية المجاز عند بديع الزمان سعيد النورسيّ
ABSTRACT
The Qur'an's Textual Structure Between Fidelity and Literal Meaning and the Expansion of Meaning. A Study of Badi'uzzaman Said al-Nursi's Approach to the Problems of Figurative Language
Prof. Dr. 'Aziz Muhammad 'Udman
This research deals with the study of the problematism of reality and metaphor in the "Nur letters", focusing on the stance of the textual infrastructure of the Holy Quran between the fulfilment of reality and the breadth of meaning. After an accurate scientific journey, the researcher was obliged to refer to the various opinions ranging from a lavish party in using metaphor to a lavish party in neglecting it, and a third party between both of them. Scholar Said Nursi is the one that lies between them.
The "Nur letters" have solved the matters of reality and metaphor according to rhetorical premises of faith. It doesn't only focus on the sayings of the ancient; but it also enters the depths of problematism of the metaphor. This is based on a comprehensive cosmic vision which reflects Nursi's cognitive consciousness regarding the critical, rhetorical, political & intellectual dimensions of metaphor. The researcher concluded with some results, briefly as following: That knowledge of the metaphor is a tool to keep the religion from superstition and illusion as long as there is knowledge of the rules of Arabic Rhetoric and the purposes of the Islamic law. The fulfillment of the reality is fundamental, as well as the noble sense in understanding the metaphor which avoids slipping in the maze of religious and sectarian interpretation.
ملخص البحث
أ.د. عزيز محمد عدمان1
يتناول البحث دراسة إشكالية الحقيقة والمجاز في رسائل النور، مركّزا على الفصل في البناء النصي للقرآن الكريم بين الوفاء للحقيقة واتّساع المعنى، وبعد رحلة علمية دقيقة، اضطر فيها الباحث إلى الإشارة إلى مختلف الآراء المتراوحة بين مسرف في إعمال المجاز ومسرف في إهماله، وثالث مقتصد بينهما أعمل المجاز بضوابط، من هؤلاء الأستاذ النورسي.
عالجت رسائل النور موضوع الحقيقة، والمجاز من منطلقات بلاغية إيمانية، فلم تكتف بمقالات القدماء في المسألة؛ بل ولجت في عمق إشكالية المجاز؛ مؤسسة على رؤية كونية شاملة تعكس وعي النورسي المعرفيّ بأبعاد المجاز النقدية، والبلاغية، والسياسية، والفكرية. وخلص الباحث إلى جملة من النتائج موجزها، إنّ العلم بالمجاز أداة لحفظ الدّين من الخرافة، والوهم، بشرط مراعاة قواعد البلاغة العربية، ومقاصد الشريعة الإسلامية، والوفاء للحقيقة نواة، والإحساس النبيل في فهم المجاز، عاصم من الانزلاق في متاهات التأويل المذهبيّ والطائفيّ.
***
مقدمة:
من شرف العلم وقداسته، وحرمته الإقرار بأن الحقائق العظيمة لها على النّفوس سلطان، ومن المركوز في العقل والثابت في النفس أنَّ جمالَ توجيه النصوص، وتفسيرها وفق معطيات النقل والعقل مما يكشف الحُجب عن المطمور والمخبوء ليفصح عن هويته، ويرفع النقاب عن مكنوناته. ولعل غياب البصيرة أو طمسها يفضي إلى قراءات مغرضة مسيئة للنص، ومعتدية على فضيلته.
ولما كان الحرصُ على القراءة الواعية، والمبصرة للنص القرآنيّ مطلبَ كل شريف لبيب باحث عن الحقيقة انبرى العلاّمة بديع الزمان النورسي لتقديم قراءة مستنيرة عن أعقد إشكالية في الدرس البلاغيّ؛ وهي إشكالية المجاز التي قادت الكثير من الباحثين قديماً وحديثاً إلى إنجاز قراءات فيها الكثير من الانحراف والتمحل؛ بل زلّت أقدامهم في وحل التأويل المذهبيّ، والإيديولوجيّ.
ولعل قراءة تاريخية عجلى للمسار التاريخيّ الذي سلكه القائلون بالمجاز بضوابط2 أو المسرفون3 في القول به والعمل بمقتضاه، والمانعون4 له تؤكد أن هذه المقاربات سلكت مسالك مختلفة، ومتباينة حرّكت جملة من الأفكار احتضنها الصراع المذهبيّ الذي ساد مختلف البيئات الدينية والفلسفية والبلاغية والنقدية. فما موقع النورسي من هذه الآراء المتباينة؟ وما مفهومه للمجاز؟ وما منهجه في مقاربة إشكالية المجاز؟ وهل كان واعياً بأبعاد المجاز العقدية والسياسية والنقدية والجمالية؟ وهل استطاع أن ينقل المجاز من الصراع العقديّ والكلاميّ إلى فضاء جماليّ إيمانيّ؟ وما هي المصادر المعرفية التي شكّلت وعيه البلاغيّ في نظرته إلى المجاز؟ وهل انفرد برأي غير مسبوق في معالجته لمعضلة المجاز؟
أولاً: العلم بحقيقة المجاز أداة لحفظ الدين
نستطيع أن نقرر في كثير من الاطمئنان المعرفيّ أن رؤية بديع الزمان النورسيّ للمجاز صَاحَبها إدراك جماليّ عميق، وحرص عقديّ دقيق. ويشهد على هذا الوعي الفنيّ، والإيمانيّ ربطه فهم المجاز، والتمسك بمقتضياته بالعلم، والجهل به قتل لحقيقة المجاز، واغتيال لوجوده. وفي هذا الصدد يعلّق النورسيّ على خطورة وقوع المجاز في يد الجاهل قائلاً: "إذا وقع المجاز من يد العلم إلى يد الجهل ينقلب إلى حقيقة، ويفتح الباب للخرافات، إذ المجازات والتشبيهات إذا ما اقتطفتهما يسار الجهل المظلم من يمين العلم المنور، أو استمرتا وطال عمرهما، انقلبتا إلى "حقيقة" مستفرغة من الطراوة والنداوة، فتصير سراباً خادعاً بعدما كانت شراباً زلالاً، وتصبح عجوزاً شمطاء بعدما كانت فاتنة حسناء".5
وربما كان من العدل أن نصف يد العلم باليد الآمنة التي تدرك حقيقة المجاز، وتعي مسالكه، ومداخله وتقوده إلى فضاءات من الإشراق الجماليّ، والاستنارة الإيمانية. ففي كلام بديع الزمان كثير من الأفكار التي تحدّد تحديداً حازماً المسار السنني (الطبيعيّ)، والمجرى الفطريّ للمجاز بوصفه زينة جمالية، وحلية فنية تستهوي عشّاق الجمال وتستدرجهم للقاءٍ من المودة والصفاء الروحيّ. فَلمَ قيد النورسيّ سلامة المجاز بارتباطه بيد العلم؟ وما مصير وقوعه بيد الجهل؟ وما مفهوم العلم، والجهل في هذا السياق التمثيليّ؟
لا ريب أن عملية الانقلاب، والاستفراغ التي تحدَّث عنها النورسيّ مصدرها وقوع المجاز في غير موضعه ونزوله في غير موطنه؛ ذلك أن المجاز إبداع، وتحويله إلى حقيقة إفراغ لمضامينه الجمالية والفنية، وفقدان لشحنته الأسلوبية.
فالعلم بالمجاز مرادف لقوة الإحساس بالجمال البيانيّ، وعصمة من الانزلاق في متاهات لتزييف، والتحريف؛ كما أن الجهل بالمجاز سلب للشعور الإنسانيّ النبيل، وحجب لقيم فلسفة الجمال.
ولا مرية في أن تغيير مسار المجاز، وإقحامه في حقيقةٍ لا تناسب جوهره هو قضاء على عناصر الجمال والخلود فيه، ونقله من فضاء الرونق، والرواء إلى فضاء الجفاف والعدم.
وخليق بالإشارة أن النورسيّ قد استلهم فكرة الجهل بالمجاز من شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجانيّ -وهو المعجب بمؤلفاته-؛ بيد أن الفرق بينهما أن النورسيّ قيّد الجهلَ بالمجاز بفقدان الشعور الإنسانيّ بجمال العبارة وطراوتها؛ في حين ركزّ الجرجانيُّ -رحمه الله- على البعد العقديّ والجماليّ معاً. وأغلب الظن أننا نستطيع أن نزعم في هذاالمقام أن الجرجانيّ لامس معضلة المجاز ملامسة فيها كثير من العمق، والحكمة وجمال التوجيه الذي ينّم عن شعور بموقع المجاز في تشكيل العبارة القرآنية. وقد كشف الجرجانيُّ -رحمه الله- عن غرضه من الرد على منكري المجاز في اللغة والقرآن بقوله: "وإنما غرضي بما ذكرتُ أن أُريَكَ عِظمَ الآفة في الجهل بحقيقة المجاز وتحصيله، وأن الخطأ فيه مورِّطٌ صاحبَه، وفاضحٌ له، ومُسقِطٌ قَدْرَهُ، وجاعله ضُحْكةً يُتَفَكَّهُ به، وكاسيه عاراً يبقى على وجه الدهر".6
واضح من كلام الجرجاني أن إنكار المجاز هو إنكار لمعلوم من البلاغة العربية؛ بل إن عدم تحصيله والوقوف عليه موجب لخزي قد يلازم صاحبه، ويغدو عنواناً على قلة مؤونته، وضحالة بضاعته. وأكبر الظن أن هذا التشنيع الذي ورد في أسرار البلاغة لا يمكن أن يُفهم في سياق التعصّب لمذهب أو نِحلة؛ بل إن شيخ البلاغيين أَفصحَ عن خطورة منع المجاز الذي هو مدار الاستقامة البيانية، وقطب رحاها؛ ذلك أن الإنكار هدر لروح البلاغة، وخنق لمسالك التأمل في جماليات التعبير اللغويّ والقرآنيّ. ولم يقف الجرجانيّ عند إبراز موقع المجاز في التشكيل الجماليّ؛ بل ذهب إلى أبعد من ذلك حينما ربط حاجة المفسّر إلى المجاز بوصفه أداة لحفظ الدين، وحمايته من التأويلات الباطلة. فكيف يكون المجاز حافظاً للدين، وقد وصفه ابن قيم الجوزية بالطاغوت؟
من الثابت في العقول والقائم في النفوس أن من جهل شيئاً عاداه، وسعى إلى الرغبة عنه والخشية منه؛ آية ذلك أن التوجّس من المجاز في تأويل بعض الآيات القرآنية، والتحرّج من الوقوع في محظور التفسيرات المستبدة بالنص قد يوهم بالسلامة من الزلل والخطل. والتحقيق أن التوجّس قد يوقع في التفريط في إبراز جماليات النص وكشف حقيقته البيانية، والعقدية؛ وربما استنكف بعض المفسرين من المجاز في تأويل الصفات والأسماء فخرجوا إلى تأويل ما يتحرّجون منه تأويلاً منافياً لمكونات النص. وفي هذا المقام يكشف الجرجانيُّ عن ضرورة التمسك بالمجاز في حفظ الدين قائلاً: "ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به، حتى تُحصّل ضروبه، وتُضبطَ أقسامه، إلا السلامة من مثل هذه المقالة، والخلاص ممّا نحا نحوَ هذه الشُّبهة، لكان من حقّ العاقل أن يتوفَرَ عليه، ويصرف العناية إليه، فكيف وبطالب الدّين حاجةٌ ماسّةٌ إليه من جهات يطول عدُّها، وللشيطان من جانب الجهل به مداخلُ خفيّةٌ يأتيهم منها، فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في الضلالة من حيث ظنّوا أنهم يهتدون".7
إن الحرص الشّديد في غير موضعه يورث أهله الضلالة؛ ذلك أن المجاز إن ضُبِطت معالمه، وعُرفت رسومه وضروبه، وبلغ فيها المفسّر مبلغ العارف بأسرار العبارة كان له ذلك بمثابة المنقذ من الخرافة، والتلبيس.
ولعل من الأدلة التي يحرص عليها المانعون للمجاز زعمهم بأن المجاز كذب، وتزوير لحقائق النص وتشويه لخلاياه، واعتداء على نسيجه بالتحكم والإكراه والقسر؛ وهو جهل بمكامن الإبداع في المجاز. وفي هذا الصدد يردُّ الجرجانيّ على هذا الزعم بقوله: "ومن قبّح المجاز، وهمَّ أن يصفَه بغير الصدق، فقد خَبَط خَبْطاً عظيماً، ويَهْرِفُ بما لا يخفى".8
وإذا تقررت مكانة المجاز عند بديع الزمان النورسيّ كما فهمها من معايشته للخطاب القرآنيّ، ومخالطة آراء السابقين مخالطة فكرية ونفسية مستفيضة؛ وجب النظر في الممارسة العملية للمجاز؛ إذ قدّم نموذجاً تفسيرياً عن الآية الأولى من سورة الفاتحة، وهي آية لها تعلق بالبعد العقديّ بقوله: "إنْ قلتَ: 'الرحمن' و 'الرحيم' كأمثالهما بمبادئهما محالٌ في حقه تعالى كرقّةِ القلب.. وإنْ أُريد منها النهايات فما حكمة المجاز؟ قلتُ: هي حكمة المتشابهات؛ وهي التنزلات الإلهية إلى عقول البشر؛ لتأنيس الأذهان وتفهيمها، كمن تكلم مع صبيّ بما يألفه ويأنس به. فإن الجمهور من الناس يجتنون معلوماتهم عن محسوساتهم ولا ينظرون إلى الحقائق المحضة إلا في مرآة متخيلاتهم ومن جانب مألوفاتهم.. وأيضا المقصود من الكلام؛ إفادة المعنى، وهي لا تتم إلاّ بالتأثير في القلب والحس، وهو لا يحصل إلا بإلباس الحقيقة أسلوب مألوف المخاطَب وبه يستعد القلب للقبول".9
يلاحظ على كلام النورسيّ منهج المساءلة في معالجة الأسماء والصفات من منطلقين: منطلق الحقيقة التي سمّاها بالمتشابهات أي محال استعمال الصفات والأسماء في معناها الحقيقيّ بحقه تعالى، ومنطلق المجاز الذي سماه النهايات إن قصد الإنعام الذي هو نتيجة ولازم لمعنى حقيقتهما.10
ومقتضى تفسير النورسيّ للآية الأولى من سورة الفاتحة تنزيه الله تعالى، وتقديسه سواء حُملت هذه الصفات والأسماء محمل المجاز، أو تُركت على أصل حقيقتها. وإن وُجّهت الآية توجيهاً مجازياً فمن باب مراعاة أفهام المستمعين، وعقول عامة المخاطبين من البشر الذين يستأنسون بالمشاهَد المألوف. ولعل أقرب وسيلة لتجسيد معاني الرحمة، والإنعام هو الحقيقة التي تتقبّلها العقول السليمة، وتنشرح لها الطباع المستقيمة.
واللافت للنظر في نص النورسيّ أنه ربط المجاز بالحقيقة في تأويل الصفات والأسماء بمقصدين هما:
أ- مراعاة مستويات المتلقين، وأفهامهم الحسية.
الغاية المثلى من الكلام إحداث التأثير الوجدانيّ في نفس المتلقي، وإيصال المعنى إلى الفؤاد في أجمل صورة من الإقناع الوجدانيّ؛ ومن ثم يتم التأثير المنشود.
وقد أومأ النورسيّ إلى طبيعة التواصل، ومقتضياته ومكوناته؛ مسترشداً بمفهوم التواصل كما هو مقرر في الدراسات اللسانية الحديثة، ونظريات التلقي المعاصرة حيث إن: "عملية التواصل تحصل بنجاح إذا اجتمعت لها ثلاثة أركان أساسية هي المتكلم والمخاطَب ومراعاة المقتضيات المختلفة، وهي الطبيعة البشرية ومتطلباتها الفيزيولوجية والنفسيةوالعقلية".11
ثانياً: شروط المجاز:
لقد أقرّ بديع الزمان سعيد النورسيّ بمركزية المجاز في تشكيل العبارة القرآنية؛ إذ قيّد هذا الاعتراف بجملة من الضوابط والقيود؛ حماية للنص من الخرافة والتحكم في الرأي والاستبداد بألفاظ الخطاب، واللعب الحر بمدلولاته، ومن أبرز هذه الضوابط ما يأتي بيانه:
أ- مراعاة قوانين البلاغة وقواعدها في كل مجاز:
لا مرية في أنّ توظيف المجاز في القرآن الكريم، واللغة مما يوجب التقيد بالبلاغة وضوابطها. ولعل مما يزكّي هذا التقييد حصر مجال التأويل في نطاق النص، ونسيجه التعبيريّ، وكل محاولة لتغيير مسار التواصل البلاغيّ، وتحويل المجاز إلى حقيقة، والحقيقة إلى مجاز هو اعتداء على حرمة النص، وإساءة لمضامينه الجمالية. يقول النورسيّ: "أما جواز المجاز فيجب أن يكون على وفق شروط البلاغة وقواعدها، وإلاّ فرؤية المجاز حقيقة والحقيقة مجازاً، أو إراءتهما هكذا، إمدادٌ لسيطرة الجهل ليس إل".12
فالجهل بمواطن الحقيقة، ومواضع المجاز أو الخلط بينهما هو انحراف عن أصول البلاغة، وزيغ عن إطار الجمال. وأغلب الظن أن التداخل الحاصل بين الحقيقة، والمجاز عند الجاهل بأصولهما، ورسومهما يفضي إلى قلب موازين التذوق الجماليّ، وفلسفة البيان.
وكأنّ النورسيّ يشير من طرف خفيّ إلى حصول ملكة التمييز بين الحقيقة، والمجاز للعارف بخبايا البلاغة وشروطها؛ ولعل القدرة الجمالية، والقوة الفنية هي الفيصل بين العالم بأسرار المجاز، والجاهل بأمور التشكيل الفنيّ والجماليّ.
ب- ملازمة فلسفة الشريعة للبلاغة شرط في الوسطية:
إن القراءة الاستكشافية المتأنية لآراء النورسيّ توحي بعمق مقاربته لمعضلة المجاز، وتؤكد وعيه المعرفيّ بالصراع المذهبيّ الذي احتضن إشكالية المجاز. وقد اقترح إجراءً عملياً للحدّ من الانحراف العقديّ، واللغويّ، والفنيّ. ويتعلق هذا الاقتراح بمراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية في الوسطية والاعتدال دون تفريط أو إفراط؛ ذلك أن الاعتدال في كل شيء مطلب كل فاضل، ومسعى كل شريف يرى بنور الحقيقة. وفي هذا السياق يقول النورسيّ منتقدا الظاهرية والباطنية: "إنّ ميل التفريط من شأنه حمل كل شيء على الظاهر.. حتى لينتهي الأمر تدريجياً إلى نشوء مذهب الظاهرية مع الأسف. وإنّ حب الإفراط من شأنه النظر إلى كل شيء بنظر المجاز، حتى لينتهي الأمر تدريجياً إلى نشوء مذهب الباطنية الباطل. فكما أنّ الأول مضرّ فالثاني أكثر ضرراً منه بدرجات. والذي يبين الحد الأوسط ويحد من الإفراط والتفريط إنما هو فلسفة الشريعة مع البلاغة، والحكمة مع المنطق".13
ومن المعلوم في أصول الشريعة الإسلامية أن الأخذ بالاحتياط واجب في الحكم على الأشياء؛ فالنفس إليه أسكن، وملازمة الاقتصاد، والتأني في قراءة النص القرآنيّ من موجبات النظر الحصيف، والتأمل الجاد العميق. وقد أشار النورسيّ -رحمه الله- إلى الفِرقة الظاهرية التي ضيّقت من فضاء التفسير وحاصرته؛ بل وقفت عند حدود الظاهر مكتفية بقراءة سطحية، ومن ثم فرّطت في استكشاف جماليات النص، وأسراره. وفي المقابل وسّعت الفِرق الباطنية من مجال المجاز، وأمدته بكل وسائل الاستنطاق الفظّ الغليظ، وأدوات التحكم والإكراه البغيض؛ فانتشرت مقاربات منحرفة عن أصول النقل والعقل. وحجة هؤلاء بنية النص الباطنية التي تستجيب لكل القراءات المتاحة؛ وبهذا الاعتبار أفرطت في التأمل، وخرجت بالنص إلى متاهات التأويلات المغرضة، والتفسيرات المقيتة. وللحدّ من تقصير المفرِّطين، وجرأة المُفْرِطين، وسدّ منافذ الانزلاق، والانحراف عن التأويل الأعدل المنضبط على إيقاع النص، والشرع قيّد النورسيّ التأويل بميزان الوسطية والاعتدال، وهو ميزان فلسفة الشريعة. فهل الانقياد لفلسفة الشريعة يفضي إلى التقليل من شأن البلاغة في قراءة النص؟
التحقيق أن عمق اطلاع النورسيّ على المِلل والنّحل في الفكر الإسلاميّ، وقوة استئناسه بمقاصد الشريعة الإسلامية يجعلنا نعترف له بالفضل، والسبق ورسوخ القدم في التأصيل، والتأسيس لضوابط التأويل المستقيم الذي لا يفرّط في أدبية النص، وجمالياته من جهة، ولا يُفرِطُ في الولوج في تخوم قراءات مضللة بعيدة عن روح النص تحركها الخرافة وتوجّهها الإسقاطات المذهبية من جهة أخرى. وأغلب الظن أن ملازمة البلاغة لفلسفة الشريعة القائمة على الاقتصاد هو السبيل إلى الاهتداء إلى فضاء القراءة الموضوعية.
فالبلاغة أصل المجاز ومفتاحه، والإعجاز القرآنيّ نابع من البلاغة كما أجمع على ذلك أهل النظر في الإقرار بمركزية البلاغة في الكشف عن مغايرة النظم القرآنيّ لكل نظم بشريّ. ولا يمكن استجلاء جوهر هذه المغايرة والمباينة إلا بالظفر بوسائل البلاغة، وطرقها وأدواتها، والاسترشاد بهديها. ومن هذا المنطلق تعدُّ البلاغة وسيلة الكشف الأسلوبيّ وأداة وظيفية لإدراك مكنونات النص، وخفاياه.
ولا جرم أن الاستئناس بأصول البلاغة العربية في التأويل هو الشهادة الأصلية على سلامة مقصد التفسير، وكل تأويل بمعزل عن البلاغة هو إهدار لكرامة النص، واعتداء على حرمته وشرفه. وبعبارة أكثر وضوحاً: فإن تجاوز أهل التفسير للبلاغة في قراءة النص هو سلب لحق من حقوق القرآن الأزلية. وفي هذا المعنى يقول النورسيّ: "إن الخاصية المميزة للتنزيل، الإعجاز، والإعجاز يتولد من ذروة البلاغة، والبلاغة مؤسسة على مزايا وخصائص، لا سيما الاستعارة والمجاز. فمن لم ينظر بمنظارهما لا يفوز بمزاياها.. فكم في التنزيل من 'تنزلات إلهية إلى عقول البشر' تسيّل ينابيع العلوم في أساليب العرب تأنيساً للأذهان. والتي تعبّر عن مراعاة الأفهام واحترام الحسيات ومماشاة الأذهان. ولما كان الأمر هكذا.. فلا بد لأهل التفسير ألاّ يبخسوا حق القرآن بتأويله بما لم تشهد به البلاغة".14
ويستفاد من كلام النورسيّ أن العلاقة بين القرآن، والإعجاز علاقة محكمة، وصلة أزلية، ومصدر الإعجاز هو البلاغة التي تتأسّس على جملة من السمات الأسلوبية، والفنية التي تعدُّ مفاتيح النظر الجماليّ في النص. ومن موجبات التذوق الفنيّ الاسترشاد بالاستعارة، والمجاز بوصفهما من ركائز البلاغة. ولعل من خصوصيات التنزيل أنه جاء مراعياً لأساليب العرب، وطرقهم في التعبير، وسننهم في التصوير الأدبيّ؛ ومن ثم راعى الخطاب القرآنيّ مستويات المتلقين، ومداركهم، وقدراتهم الاستيعابية من خلال مطابقة الكلام لمقتضيات الأحوال، والمقامات.
فما هي أصول البلاغة التي ارتضاها النورسيّ مفتاحاً كاشفاً عن أسرار ما في مكنونات النصوص القرآنية؟
قد يبدو هذا السؤال من باب الترف العلميّ؛ ولكن نظرة حصيفة ثاقبة تزكّي مسلك هذا الاستفساربالنظر إلى ما آلت إليه البلاغة العربية على أيدي بعض الشّراح الذين حوّلوها إلى جثة هامدة بكثرة التلخيصات والتعليقات وهي البِكر التي تزخر بالغرر والدرر. وقد زاد من ركود البلاغة وجفافها اختلاط العرب بالأعاجم. فالبلاغة المقصودة من كلام النورسيّ هي البلاغة العربية اليافعة التي حافظت على رونقها وجمالها وبِكارتها. وقد حدّد النورسيّ تحديداً صارماً المراد بالبلاغة المطلوبة للكشف الأسلوبيّ عن إعجاز القرآن بقوله: "إنّ مفتاح دلائل إعجاز الآيات وكشّاف أسرار البلاغة، هو في معدن البلاغة العربية، وليس في مصنع الفلسفة اليونانية".15
فما وجه اعتراض النورسيّ على الفلسفة اليونانية؟
لا ريب أن العلاقة الأزلية بين القرآن واللغة العربية مما هو مجمع عليه بين القدماء والمحدثين؛ فعربية القرآن تعني من وجوه نقاء لغة التواصل، وصفاء معدنها. ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من مراجعة بسيطة لتاريخ البلاغة في عصور الانحطاط بسبب اختلاط العرب بغيرهم من الأعاجم، وتأثر البلاغة العربية بالمنطق اليونانيّ، وفلسفته. ولعل من تجليات هذا التأثير كثرة التفريع، والتقسيم، والإغراق في الصنعة اللفظية، والزخارف.
ت- التخصص المعرفيّ عُمدة التفسير ومِلاك التأويل:
يشير النورسيّ إلى قضية مركزية في التراث العربيّ الإسلاميّ، وهي مراعاة التخصص المعرفيّ؛ ذلك أن من دواعي الانزلاق العلميّ والشرعيّ الذي وقع في كثير من المقاربات التراثية، والحداثية المعاصرة الخوض في التفسير مثلاً دون امتلاك أدوات المفسّر، والتحكم في آليات التأويل. فكما هو مقرر في تاريخ العلوم أنَّ لكل حرفة أو صناعة أهلاً يُفزع إليهم في فكّ ما استغلق، واستعصى، وغمُض من مسائل العلم وفروعه. وقد جنت بعض الفِرق الإسلامية جناية عظمى على القرآن بسبب الانضمام الصوريّ للمعرفة دون تحصيل أو معاناة أو ألم في طلب المعارف والعلوم. ومن آثار هذا السلوك ظهور التعصب والاستعلاء والجبروت العلميّ. ومن ثم يرى النورسيّ أن حرمة العلم، وشرف نيله، والانتساب إليه ينطلق من تقديس التخصص، واحترامه. وإقرار العالم ببضاعته العلمية، ومعرفته بمؤهلاته يجعله يمسك عن الخوض في فضاءات معرفية قد تكشف عواره العلميّ، وتعرّي سوءته المعرفية. ومن ادّعى ما ليس فيه كشفته شواهد الاختبار، كما هو مقرر في أصول التحصيل المعرفيّ، وأدبيات الارتقاء، والسّمو العلميّ.
وإن تبجيل التخصص لا ينتقص من قيمة العالم، وهيبته ووقاره؛ بل يضاعف من جلاله، ويمدّ في ظلاله، وهي حقيقة لامسها العلاّمة قاضي القضاة بدر الدّين بن جماعة [ت 733هـ]- رحمه الله- بقوله: "وإنما يأنف من قول 'لا أدري' مَن ضَعُفت ديانته/ وقلّت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة، ورقّة دين وربما يشتهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فرّ منه، ويتصف عندهم بما احترز عنه".16
فادّعاء المعرفة، والتظاهر بالعلم من غير سند معرفيّ؛ خشية الوقوع في ذمّ الناس هو وقوع في المحظور الذي تحاشاه مدّعي العلم؛ ذلك أن الإحجام عن قول لا أدري ليس عجزاً معرفياً كما يتوهم أدعياء العلم؛ وإنما هو تقديس للعلم وتوقيره. فكلما أيقن العالِمُ بصعوبة مسلك طلب العلم، وعلوّ مقام التحصيل ازداد حرصاً على احترام تخصصه، والوقوف عند حدّه. ولعل الذي جعل النورسيّ يشترط التخصص في التفسير هو كثرة الفِرق المبتدعة التي اتخذت من المجاز أداة لتحقيق مآرب مذهبية عاجلة، وقضاء منافع سياسية فانية. ولو أن المجاز تعاطته أيادٍ متخصّصة، وأدركت كنهه ومسائله ولطائفه لما ظهرت المِلل والنِّحل المتطرفة التي ساقت المجاز إلى فضاء موحش، وأنزلته منزلة الغريب الدخيل. وفي هذا المضمار يقول النورسيّ؛ مسترشداً بالتمثيل؛ لأنه أقدر على تجسيد المعاني، وتصويرها في قالب من الإقناع: "إنّ كل ما يرد في التفسير لا يلزم أن يكون منه، إذ العلم يمدّ بعضه بعضاً. فما ينبغي التحكم 'في الرأي' [...] فكما لا تشتري لوازم البيت المتنوعة من صناع واحد فقط، بل يجب مراجعة المختص في صنعة كل حاجة من الحاجات؛ كذلك لا بد من توفيق الأعمال والحركات مع ذلك القانون الشامخ بالكمالات 'قانون الفطرة'. ألا يشاهد أن من انكسرت ساعته، إذا راجع خياطاً لخياطتها فلا يقابل إلا بالهزء والاستخفاف؟"17
ولا نزاع في أن السنن الكونية، وقوانين الفطرة هي التي تيسّر تحصيل الاختصاص على البشر بما ينسجم مع مؤهلاتهم، واستعداداتهم الفطرية؛ وكلما رام المرء إقحام نفسه في تخصص لا يحسنه انحرف عن قانون الفطرة، وحاد عن نواميس الجِبّلة.
فالتّخصّصات متشابكة ومتداخلة أحياناً؛ إلا أن الميل الفطريّ لتخصص دون آخر هو المحدّد للشخصية الإنسانية في بعديها العلمي الأكاديميّ، والأخلاقيّ. فقد يرد في تفسير القرآن ما له نسبب، وسبب بالفقه أو العقيدة، وهي علوم متداخلة بصناعة التفسير إلا أنّ القول الفصل في الخطاب التفسيريّ يرجع إلى ذوي حرفة التفسير، وأرباب هذا الفن، وعلومه.
وربما كان من الفضيلة العلمية الإقرار بأن الاهتداء إلى الصناعة أو الحرفة المنسجمة مع طبيعة الإنسان، واهتماماته الفكرية هو مفتاح الفلاح، وآلة النجاح.
ثالثاً: المبالغة في المجاز انحراف عن المقاصد:
يقدّم النورسيّ قراءة نفسية، وجمالية لمفهوم المبالغة في المجاز؛ معتبراً إياها من باب التجاوز، والانحراف عن الحقيقة الثابتة؛ بيان ذلك أن بعض النفوس البشرية أميل إلى ربط الحقيقة بالخيال في كثير من الأمور، وهي طبيعة فاسدة؛ لأنها تقلب موازين النظر المستقيم، وتخفي جمال الحقيقة من منطلق عدم تحري الاقتصاد في التعبير والوصف، والجنوح إلى الاستزادة في موطن ألصق بالإيجاز، وأقرب إلى بلوغ الغاية من المجاز.
ولئن كانت المبالغة من طبائع بعض البشر الذين يتلذّذون بمعانقة فضاء الخيال المطلق إلا أنّ فلسفة الجمال تأبى هذا الانفلات، والحقيقة الناصعة موجبة للانقياد لأوامر النص، والامتثال لحدوده؛ آية ذلك أن تجاوز الحد، وتخطي عتبة الحقيقة هو تشويه لجوهر الحسن القائم على التناغم والانسجام. وفي هذا السياق يقول النورسيّ: "المبالغة تشوش الأمور وتبلبلها؛ لأن من سجايا البشر: مزج الخيال بالحقيقة، بميل إلى الاستزادة في الكلام فيما إلتذ به، والرغبة في إطلاق الكلام جزافاً فيما يصف، والانجذاب إلى المبالغة فيما يُحكى... وبهذه السجية السيئة يكون الإحسان كالإفساد، ومن حيث لا يعلم يتولد النقصان من حيث يزيد، وينجم الفساد من حيث يصلح، وينشأ الذم من حيث يمدح، ويتولد القبح من حيث يحسن.. وذلك لإخلاله -من حيث لا يشعر- بالحسن الناشئ من الانسجام والموازنة (في المقاصد)".18
والحقيقة أن في كلام النورسيّ بعض الخفاء يحتاج إلى إبانة وتوضيح؛ ولعل مما يسوغّ لهذه الإضاءة المعرفية أن يعتقد بعض الناس أن مفهوم المبالغة مذموم على إطلاقه، ولكن الواقع خلاف ذلك.
فالمبالغة المذمومة هي المبالغة المطلقة السقيمة التي تتجاوز إطار النص إلى خيال كاذب لا يعضده عقل أو جمال أو ذوق سليم أو حسّ صادق. وفي بعض النثر والشّعر تبدو المبالغة حميدة؛ لأن الشعر تعبير جماليّ عن معاناة إنسانية في صورة من الإيحاء؛ ومن ثم فإن القدر اليسير من المبالغة لا بد منه في صياغة النص وتشكّله، ولطالما اختلف نقاد العربية في اعتبار أعذب الشّعر أكذبه. وقد أورد النورسيّ بعض الشواهد على المبالغة العليلة؛ مستأنساً بتفسير القرآن الكريم قائلاً: "فمثلاً ّ! الزيادة التي زيدت في معجزة انشقاق القمر الباهرة بالمبالغة في الكلام، وهي أن القمر قد نزل من السماء ودخل تحت إبط الرسول صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى السماء. هذه الزيادة، جعلت تلك المعجزة الباهرة كالشمس، مخفيةً كنجم السهى، وجعلت ذلك البرهان للنبوة الذي هو كالقمر، مخسوفاً، وفتحت أبواب حجج تافهة للمنكرين".19
وظاهر كلام النورسيّ أن المبالغة تحجب حقائق الدّين الساطعة النيّرة، بسبب غياب المحاكمة العقلية التي تزن الأمور بميزان الشرع والعقل، وتضع الأشياء في نصابها. وأغلب الظن أن مقاصد الشريعة الإسلامية تتفاوت قيمة وقدراً ومكانةً، والمبالغة هي التي لا تقدّر حقيقة التفاوت في أمور الدين؛ فتنقلب موازين الحكم، ويتوارى الجمال، ويستتر الفاضل، ويظهر العاطل.
وقد يكون من باب الفضيلة، والاستقامة أن نقول: إن المبالغة في تقدير الأمور تفضي إلى الاعتداء على فلسفة الجمال والكمال، وتنتقص من قيم الحسن؛ بل إن النورسيّ يرى أن التجاوز في النظر إلى الأشياء هو اختراقٌ للسنن الكونية، وتعدٍ على قانون الفطرة. فالكون المنظور خُلق على أجمل صورة، وأبدع منوال، والمبالغة تحريف لهذه الخِلقة وتزييف لانسجامها. وبعبارة أكثر إشراقاً: فإن الزيادة في الكلام دون فائدة تشويش لنظام الكون المحكَم؛ ذلك أن المبالغة في المجاز تحريف لأصول الحقيقة الثابتة، ومن ثم: "يجب على كل محبّ للدين وعاشق للحقيقة: الاطمئنان بقيمة كل شيء وعدم إطلاق الكلام جزافاً وعدم التجاوز. إذ المبالغة افتراء على القدرة الإلهية. وهي فقدان الثقة بالكمال والحسن في العالم واستخفاف بهم".20
فالمجاز المطلق تزييف للحقيقة الكونية، وتقييده إقرار بمقاصد الشريعة، وفلسفة الجمال معاً؛ لأن الجري في تقدير الأمور مجرى التثبّت والتبيّن هو اعتراف بالوسطية، وتعلق بالحقيقة التي هي أصل الكمال، والرونق والإبداع.
ومن تجليات الانحراف عن أصول الحقيقة، والمروق عن ضوابط التحري المبالغة في الاستعانة بالزخرف اللفظيّ الكاذب؛ لأن الديباجة اللفظية، وتحسين الكلام ما لم يتطلّبه المعنى، ويقتضيه السياق، وترتضيه سنن الحقيقة هو اعتداء على الشريعة التي سّنت للبشر دستور القراءة الأمينة الخالية من الاستنطاق الجاف، ومحاولة تحريك الثابت لنزوة عابرة أو شهوة نافرة. ومن هذا الطريق ثَبت أن الشرع حدّد الإطار العام للقراءة المنتجة، والمثمرة التي تسعى للظفر بالمطلوب من كل كشف أصيل عن الحقيقة بمعزل عن مغالطات الألفاظ، وألاعيب الحذلقة. ويفضي بنا هذا التحليل إلى تقرير الهاجس المعرفيّ الآتي: كيف يطمئن الباحث في الشريعة إلى أحكام الشرع ما لم يقم الدليل الناصع على حصول دواعي هذا الاطمئنان النفسيّ والعقليّ؟
يجيب النورسيّ عن هذا الخاطر إجابة نابعة من رحم مفهوم القراءة الجادة الحصيفة دون أن يُفهم من كلامه أنه يشرّع لمفهوم القراءة الأحادية، والانغلاق على حدود النص. يقول النورسيّ: "إنّ الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمه المعتمد على كل حكم من أحكام الشرع. ولا بد من قراءة تلك السكة والختم. فذلك الحكم مستغن عن كل شيء سوى قيمته وسكته. فهو في غنًى عن تزيينِ وتصرّفِ الذين يلهثون وراء المبالغين والمغالين والمنمقين للّفظ. وليعلم هؤلاء الذين يطلقون الكلام جزافاً، كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين".21
إن التنميق، والتزيين من شأنه أن يحيد عن مسلك الحقيقة الربانية التي هي المعتمَد، وعليها مدار النظر القويم الذي ينطلق من الختم الإلهيّ على الأحكام الشرعية القطعية التي تستغني عن حمل اللفظ محمل التجاوز والمبالغة. فكيف يمكن التوفيق بين مرونة الشريعة، وانضباطها، ومجال الاجتهاد والتأويل؟
من المتفق عليه في الشرع أن الأحكام القطعية هي مجال الحقيقة الثابتة التي شبّهها النورسيّ بالختم؛ ولعل في دلالة الختم ظلال، وإيحاءات دلالية بالصرامة والشهادة الأزلية التي لا تسمح لمجتهد أن يجتهد خارج الإطار، والختم المعتمَد؛ ويبقى النظر في مسائل الظنيات، والفروع مجالاًفسيحاً واسعا ًللتأمل.
ولا يمكن أن تُفهم هذه الصورة التّشبيهية التي قدّمها النورسيّ إلا في إطار الاحتراز عن التأويلات النافرة التي تتعدى على قداسة هذا الختم الإلهيّ الذي يُعدّ نبراساً مضيئاً لكل شريف حرّ رامَ الاعتدال، والوسطية في قراءة النصوص دون تحسين لأوجه النص، وتزيين لملامحه؛ خدمة لرغبة التحكّم، وتزيف الحقائق كما هو مشاهد في بعض القراءات التراثية والحداثية المعاصرة التي لا تؤمن بالأختام، والمراكز الثابتة؛ بل كل النصوص قابلة للقراءة التناسلية، والانفتاح المطلق كما هو صنيع بعض المنهجيات النقدية كالبنيوية، والتفكيكية وغيرهما.
ولا ريب أن لزوم الختم لا يعني الاحتماء بالظاهر بقدر ما يؤسّس لمفهوم الانضباط بسياج النص، وإطاره التاريخيّ دون الانفلات إلى سكك أخرى غير مأمونة تتخذ من حرية الاجتهاد المطلق، والقراءة الحفرية مسوغاً لكل منهج يزعم تجديد الخطاب الدينيّ، وتحديث الوعي؛ وهي شعارات ظاهرها الحرية الأكاديمية، والتعبير الحرّ، وباطنها مجرد الدعوى وتمكن الهوى. وقد عبّر عبد القاهر الجرجاني ّعن هذا الادعاء الباطل، والافتراء المتهافت بلغة بلاغية فيها تصوير جماليّ في منتهى الإيجاز والإعجاز. وفي هذا الصدد يقول -رحمه الله-: "فأمَّا الإفراطُ، فما يتعاطاه قوم يُحبّون الإغرابَ في التّأويل، ويَحْرصون على تكثير الوجوه، وينسوْن أن احتمال اللفظ شرطٌ في كل ما يُعدلُ به عن الظاهر، فهمْ يستكرهون الألفاظ على ما لا تُقِلُّه من المعاني، يَدَعون السليم من المعنى إلى السقيم، ويرونَ الفائدة حاضرةً قد بدأت صفحتها وكشفت قِناعَها، فيُعرضون عنها حبّاً للتشوُّف، أو قصداً إلى التمويه وذهاباً في الضلالة".22
لقد أفاض الله تبارك وتعالى على الجرجانيّ والنورسيّ من نور هدايته، وخصّهما من سائر البشر بإلطاف النظر، ونفاذ الخاطر ما فتح عليهما فتوح العارفين بأسرار التأويل، ودقائق التفسير. ولعل في إشارة الجرجانيّ -رحمه الله- إلى مزالق التأويل المنحرف عن الختم الإلهيّ المعتمَد ما يكفي للتدليل على أن الختم الذي ذَكَره النورسيّ -رحمه الله- هو الذي يمنع من الإغراب في التأويل، واستكراه الألفاظ على ما لا تتحمّله نواة المعاني؛ حباً في الظهور، ورغبة في الاستعلاء، وتحايلاً على مقاصد النص لتمديد المتاهة، وتبديد الفائدة لتحقيق متعة الاعتداء، وشهوة الانتقام.
رابعاً: ردّ النورسيّ على شبهات الظاهرييّن وتفنيدها:
تصدّى بديع الزمان سعيد النورسيّ في كليات رسائل النور للردّ على شبهات الظاهريين من منطلق قراءة عقلية وجمالية، ولا يتسع المقام للاستفاضة في التفاصيل الكلامية، ولا لبسط الكلام في المسائل العقدية23 وحسبنا أن نشير هنا إلى كشف النورسيّ لجملة من عيوب الظاهريين التي وصفها بالبلاء؛ وهي إجمالاً كالآتي:
أ- بلاء تحرّي الحقيقة في كل مجاز:
لا جدال في أنّ التحرّي في العلم من مقوّمات النظر المنهجيّ السليم، والتأمّل القويم؛ إلا أن المبالغة في إقحام المجاز في كل حقيقة هو التكلّف، وسوء تقدير لموطن المجاز، وإطاره الطبيعيّ؛ فتُطْلبُ الحقيقة إذا اقتضاها السياق، والمقام وأَذنت بذلك مكونات النص، وارتضاها مقصود النص، وغرضه. وفي إرغام الحقيقة على ملاحقة كل مجاز هو تشويش للنظام اللغويّ الذي يتحكم في الصياغة التعبيرية. فكيف السبيل إلى الاهتداء إلى تحديد موطن الحقيقة، والمجاز، وإنزال كل واحد منهما المنزلة المناسبة له؟
من المسلّم به في الدرس البلاغيّ أن عنصر الحقيقة ركن مكين في تشكيل الصورة البلاغية؛ لأن الاكتفاء بالمجاز دون الحقيقة ينتج صورة موغلة في الخيال، والخرافة؛ كما أن تغييب المجاز في تشكيل النص هو سقوط في متاهة القراءة السطحية النمطية التي تفتقر إلى الإحساس الوجدانيّ الصادق، والوهج العاطفيّ المتأجج، ولعل التكامل بين الحقيقة والمجاز هو سرّ الإبداع.
ولايشترط في كل موضع من المجاز أن يتضمن قدرا ًكبيرا ًمن الحقيقة حتى يستوليَّ على المجاز، ويستحوذ عليه؛ بل إن اليسير من الحقيقة يكفي مؤونة لبناء النص، وتشييده. وأغلب الظن أن فعالية السياق الدلاليّ هي التي تحدّد مسلك اختيار الحقيقة دون المجاز، ومن ثم فإنّ الحرص على رصد الحقيقة يسدّ مسالك الاتساع التعبيريّ. وفي هذا المضمار يقول النورسيّ بعد أن تناول بلاء الظاهريين في مسائل العقيدة، وعلم الكلام: "البلاء الخامس: هو تحري الحقيقة في كل موضع من كل مجاز ممّا أخذ بيد أهل التفريط والإفراط إلى الظلمات نعم لا بد من وجود حبة من حقيقة لينمو وينشأ منها المجاز ويتسنبل. أو أن الحقيقة هي الفتيلة التي تعطي الضوء. أما المجاز فهو زجاجها الذي يزيد ضياءه. نعم، المحبة في القلب... والعقل في الدماغ وطلبهما في اليد والرِجل عبث".24
فالتّحري الحقيقيّ هو الذي يحدّد تحديداً صارماً مواطن الحقيقة، والمجاز دون إخلال بهدي هذا التحديد؛ لأن الخلط بينهما مما يفضي إلى التفريط والإفراط. وللحفاظ على وسطية الاختيار المراعية لضوابط النص، وتجلياته التعبيرية المختلفة ينبغي الاسترشاد، والاستئناس بقانوني التمايز، والتداخل بين الحقيقة والمجاز. وفي مدلول هذين القانونين إجمال يحتاج إلى إبانة.
إن تداخل الحقيقة بالمجاز في كل تشكيل فنيّ أمر مسلم به؛ لسبب قريب وهو: استحالة الانطلاق من البناء النصيّ للقرآن الكريم من المجاز فقط؛ ذلك أن الحقيقة عنصر مركزيّ في البنية النصية؛ بل هي مصدر الضوء -على حد تعبير النورسيّ-، والتمايز بينهما تحدّده قابلية النص لتعدد القراءات لخصوبة مادة الوحي وثرائها واتساعها لقراءات مضيئة مشرقة تضيء زوايا النص. فلا يمكن الفصل بين الفتيلة، والزجاجة للعلاقة الوطيدة بينهما؛ إلا أنّ التمييز بينهما ضروريّ في كل بناء لغويّ. فمعرفة وظيفة الحقيقة التي هي مصدر الإضاءة موجب لمعرفة المجاز الذي هو فضاء اتساع الإشراق، وامتداده. ومتى عُلمت هذه الوظيفة الحيوية للحقيقة، والمجاز أَمِن البناء النصيّ من الشطط والخطل والزلل، وسوء التأويل. فمن البلاء الذي وقع فيه أهل الظاهر عدم الإقرار بهذا التمييز بين منبع الإضاءة (الحقيقة) بكل ما تحمله الكلمة من دلالات الإشراق والإنارة، والتجلّي، وبين امتداد هذا الشعاع في فضاء المجاز.
ب- بلاء قَصْرُ النظر على الظاهر، والاكتفاء بالقرينة العقلية في التمسّك بظاهر النص:
ينتقل النورسيّ إلى بلاء آخر له تعلق بمسألة بلاغية. وهي مفهوم القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقيّ. وفي هذا الصدد يقول: "البلاء السادس: هو قصر النظر على الظاهر، مما طمس على النظر، وستَر البلاغة فلا يتجاوزون إلى المجاز، ما دامت الحقيقة ممكنة في العقل. وحتى لو صاروا إلى المجاز يمسكون عن معناه. وبناء على هذا فإن تفسير أو ترجمة الآيات والأحاديث لا يُبينانِ حسن بلاغتهما. وكأن لديهم أن قرينة المجاز امتناع الحقيقة عقلاً... بينما القرينة المانعة كما يمكن أن تكون عقلاً يمكن أن تكون حساً وعادةً ومقاماً وبأشياء أخرى".25
جليّ من كلام النورسيّ -رحمه الله- أن مستند الظاهرية في عدم جواز المجاز في القرآن القرينة المانعة من إرادة المعنى على حقيقته؛ وهي حجة واهية لا تصمد أمام حقيقة القرينة كما حدّدها علماء البلاغة العربية. فما المقصود من القرينة؟ وهل قرينة المجاز عقلية فقط؟
تشير المصادر البلاغية المعتبرة في الدرس البلاغيّ إلى أنّ القرينة هي: الأمر الذي يجعله المتكلم برهاناً على أنه أراد باللفظ غير ما وُضع له أصلاً في اللغة العربية؛ وهي حالية ومقالية أو لفظية ومعنوية. فاللفظية مثلاً هي التي يلفظ بها في التركيب، أو الجملة، أو تظهر أثناء النطق. والحالية هي التي تُفهم من حال المخاطَب أو من الواقع. فالأمر الدال على الشيء من غير استعمال هو القرينة بمفهومها الاصطلاحيّ؛ ومن ثم يرى محمد بن علي الجرجاني -رحمه الله- [ ت 729ه] أن: "قرائن المجاز وإن كانت كثيرة، لكن يجمعها أمر واحد، وهو ما يدل على تعذر حمله على معناه الحقيقي، وهي قرينة صارفة، ولا يكفي ذلك في الاهتداء إلى المراد؛ لأن علم إرادة شيء لا يستلزم إرادة شيء آخر بعينه، فلا بد من قرينة هادية: والهادية هي نسبة من النِسب الآتي ذكرها بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي".26
يُستفاد من كلام محمد بن علي الجرجانيّ أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يتم بجملة قرائن، والقرينة في جوهرها صارفة وهي غير كافية في إدراك المقصود؛ بل لا بد من الهادية التي هي المناسبة بين المعنى المنقول عنه، والمنقول إليه.
فتشترك القرائن اللفظية، والحالية، وغيرهما من القرائن في صرف اللفظ عن معناه الحقيقيّ إلى المعنى المجازيّ لمناسبة جلية ظاهرة أو خفية.
ج- بلاء الجمود على الظاهر جحود بحق البلاغة، وجناية على نظام العالَم:
لقد رسم بديع الزمان النورسيّ لنظرية المجاز في القرآن الكريم معالمها، وشدّ معاقلها بنماذج تطبيقية فاضلة عن الكفاية؛ بل هي في ذروة الإحسان والبيان؛ ولعل قليلاً من النماذج يغني عن الإفاضة في بسط نظرية النورسيّ في المجاز.
ومن منطلق إيمان النورسيّ بجماليات العبارة القرآنية، ورونقها، واستحالة التمسّك بالظاهر الذي يراه عاملاً مساعداً على محاصرة البيان القرآنيّ، وسّع من مجال الممارسة التطبيقية على آيات القرآن الكريم؛ للتدليل على مفهوم تعدد القراءات الذي ينسجم مع طبيعة الخطاب القرآنيّ في إعجازه، وثراء دلالاته، وخصوبة معانيه، وكثافته الأسلوبية.
ويرى النورسيّ أن القراءة الأحادية للنص القرآنيّ جمود، وتعسف ينافي توهج البلاغة، وحرارتها. ومما له دلالة في هذا السياق استشهاده بالآية الثالثة، والأربعين من سورة النور، والآية الثامنة، والثلاثين من سورة يس.
وأغلب الظن أن اختيار هاتين الآيتين يعكس حسّاً جمالياً راقياً، ويكشف عن ذوق فنيّ أصيل. وسوف نتوقف في بعض الإطالة عند بعض الشواهد القرآنية. يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾.النور:43 ويقول الله تعالى أيضاً: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾.يس:38
يشعر الإنسان وهو يتأمّل في خفايا هذا الانتقاء -أنَّ اختيار المرء رائدُ عقله-؛ ويشهد على رجاحة فكر النورسيّ -رحمه الله- أنه ساق شواهد لظواهر كونية تبرز قدرة المولى في الخَلق، وقد صيغت صيغة جمالية متماسكة. وفي هذا المضمار يقول النورسيّ معلقاً تعليقاً أسلوبياً على الآيتين: "هاتان الآيتان الكريمتان جديرتان بالملاحظة والتدبر. لأن الجمود على الظاهر جحود بحق البلاغة، إذ الاستعارة البديعة في الآية الأولى تتوقد بحيث تذيب الجمود المتجمد، وتشق كالبرق ستار سحب الظاهر. أمّا البلاغة في الآية الثانية فهي مستقرة وقوية ولامعة بحيث تقف الشمس لمشاهدته".27
ويزيد النورسيّ من استجلاء جمال الاستعارة اللطيفة الواردة في الآية الثالثة، والأربعين من سورة النور، ويرى أنها تقوم على التسابق، والمحاكاة بين الأرض والسماء؛28 وهو توجيه بديع يستند إلى رؤية جمالية قوامها الإحساس بروعة الكلمات، وسحر المفردات؛ فالأرض في مقابل السماء تتزين بجبالها المغطاة بالبَرَد، والثلج، كما تتوشّح السّماء بالسّحاب الذي يكسوها ويغطيها، وهنا نكتة ينبغي التفطن لها؛ وهي: أن هذه المحاكاة دالة على دقة الصنعة، وقدرة المولى على تقدير المخلوقات على أحسن صورة، وأجمل وجه.
ويؤصّل النورسيّ لمفهوم تعدد القراءات في رحاب الآية الثامنة والثلاثين من سورة يس؛ إذ يرى أنها تُحمل على وجهين، وكلاهما مقصود من الآية؛ حيث: "إن جريان الشمس كما يكون على سبيل الحقيقة يمكن أن يكون على سبيل المجاز أيضاً، وكما أن جريان الشمس حقيقيّ وذاتيّ يمكن أن يكون عرضياً وحسياً أيضاً. والمنار على المجاز كلمة 'تجري' والملوح للعقدة الحياتية لفظ "لمستقر له".29
فالآية المتضمنة لحركة فلكية تدل على حقيقة كونية لا تخطئها عين مبصرة متأملة في مخلوقات الله تعالى؛ بيد أن في النص قرائن لفظية تؤسس لمفهوم مجازيّ، وهي أمور دالة على خلاف المراد المقصود من أصل وضع "تجري" و "لمستقر له" في العربية. فجري الشمس دليل على نظام حركة الكون الدقيقة المنتظمة وفق الحكمة الإلهية، والمشيئة الربانية.
وعلى هدى هذه القراءة الجمالية التي قدّمها النورسيّ يؤكد أن التمسّك بتلابيب ظاهر النص في تفسير الآيات السابقة يندرج ضمن التكلف البارد، والتعسف الجامد؛ بل إنه جناية على نظام الكون المنظور الذي يشهد بقدرة الخالق وينطق بجمال الخِلقة، وروعتها. يقول النورسيّ: "فمع هذه التصويرات فإن الجمود البارد والتعصب على الظاهر ينافي حرارة البلاغة ولطافتها كما أنه يجرح ويخالف استحسان العقل الشاهد على الحكمة الإلهية التي هي أساس نظام العالم الشاهد على الصانع".30
ولهذا كله، فليس ثمة غرابة في اعتبار التمسّك بالبنية السطحية للنص، والتعصب لها يفضي إلى جنايتين:
الجناية الأولى لها تعلق بالطبيعة التكوينية للبلاغة العربية القائمة على الوهج الجماليّ، والجذوة الفنية.
الجناية الثانية لها سبب، ونسب بالطعن في شهادة العقل السليم على نظام الكون القويم، والخَلق المستقيم.
خامساً: الحدس الكاذب تزييف لحقائق النص القرآنيّ:
من الاستبصارات اليافعة التي اهتدى إليها النورسيّ بفكره الثاقب، وسرعة بديهته مفهوم الحدس، وأثره في قراءة النصوص وتأويلها. ونستطيع أن نزعم في هذا المقام بكثير من الثقة العلمية أن النورسيَّ اقترب من عمق مسألة المجاز اقتراباً موضوعياً مكّنه من تشريح الأسباب الجوهرية التي أفضت إلى ظهور قراءات تراثية، وحداثية قائمة على الاستفزاز. فما المقصود بالحدس؟ وكيف يكون الحدس كاذباً؟ وهل هناك حدس صادق؟ وما أثره في إضاءة النص القرآنيّ؟ وهل يصلح الحدس آلية لقراءة النصوص؟
من الغريب الواقع أن يتحدث النورسيّ عن الحدس الذي هو أقرب إلى الاستبطان لتعلّقه بمعرفة نفسية غير محدّدة الملامح والقسمات؛ بيد أن العملية التأويلية في كثير من جوانبها قراءة نفسية، وإحساس داخليّ بالكلمات، وشعور بجمال العبارات؛ فإذا كان محرّك الإحساس رغبة صادقة في الكشف عن مكنونات النص بلغ المؤول درجة من الصفاء التأويليّ؛ وإذا تحرّك المفسّر من منطلق الإحساس بالانتقام من النص، والتلذذ باستنطاقه خرج إلى فضاء القراءة المغرضة التي لا تؤمن بسلطة النص، ومؤلفه.
وقد عرّف التهانويّ الحدس بقوله: "هو تمثّل المبادئ المرتّبة في النفس دفعةً من غير قصد واختيار، سواء كان بعد طلب أو لا، فيحصل المطلوب".31
فالحدس (Intuition) هو شعور داخليّ، وإحساس وجدانيّ بمعرفة غير محددة الصورة، وقد تكون مضلّلة. وفي هذا الإطار حذّر النورسيّ من هذا الضرب من المعرفة القائمة على التمويه، والتشويه قائلاً: "واعلم! أن مفتاح حجة الله المتجلية في أساليب العرب هو البلاغة التي هي أصل الإعجاز والمؤسسة على الاستعارة والمجاز، لا ما يلتقط من خرزٍ -بالحدس الكاذب- من المشهورات وتختبئ في أصداف الآيات دون رضاه".32
هذا النص محوج إلى قدر كبير من الأناة، والرفق؛ لأنه يؤصّل لجملة من المفاهيم البلاغية والنقدية، وسنحاول استجلاء معالم هذه المصطلحات، وتقديمها في خلاصات ظاهرة، ومن أبرزها:
البلاغة هي الحجة الدالّة على الإعجاز القرآنيّ، ووسيلة لكشف تفوق النظم القرآني ّعلى غيره من نظوم البشر.
1. الحدس الكاذب ليس وسيلة أمينة للكشف عن بلاغة القرآن، وبيانه؛ لأنه قائم على معرفة منحرفة تستنطق النص استنطاقاً فجًّا، وتقتحم أسواره دون إذْنٍ أو رضىً من الآيات القرآنية.
فالقراءة التي لا ترجع إلى أصل النص غير معتبرة؛ ذلك أن الاستئذان في مقاربة القرآن شرط لبلوغ الحقيقة، وهو استئذان تسوغّه طبيعة الخطاب القرآنيّ التي تحكمها قواعد الانضباط، والامتثال، والحزم.
وكأنّ النورسيّ أراد أن يقول: إن النص القرآنيّ ليس كلأً مباحاً، ولا نهباً لقراءات متناسلة لا نهائية تحرّكها نزوات الهوى الإيديولوجيّ، والنزعات الانعكاسية الضيقة، ورغبات الانتماء الفكريّ المريض؛ فالنص القرآنيّ منارة طاهرة لكل عاشق للحقيقة، ومريد للحجّةالناصعة.
والمستقرئ لأصول الممارسة التأويلية المعاصرة يلفي حرص الكثير من النقاد على ضرورة الاسترشاد بضوابط القراءة العادلة، والموضوعية للنص. ومن ثم يرى مصطفى ناصف أنه: "حوربت رغبة بعض الناس في الهيمنة والتسلط على الكلمات، ونشأ الشعور بأن الكلمات لها حقوق وعليها واجبات، وما ينبغي أن يترك التوسع بلا ضابط أو رقابة أمينة".33
قد لا يسمح المقام للاستفاضة في كثير من التفسيرات التراثية، والمعاصرة التي يحرّكها الحدس الكاذب؛ وهي كثيرة لا يدركها الإحصاء، ولا يحصرها الاستقصاء. ولعل بعض الشواهد تقوم دليلاً على أن العدول عن أصول البلاغة العربية إلى الإسقاطات المذهبية، والفكرية في تأويل النصوص جناية، وافتراء. ونسوق شاهداً من حدس كاذب؛ بل بارد من افتراءات الباطنية والجهمية والرافضة. يقول ابن تيمية -رحمه الله- : "من عجائب تحريفات الملاحدة الباطنية، كما يتأولون العلميات مع العمليات، ويقولون: الصلوات الخمس معرفة أسرارنا، وصيام رمضان كتمان أسرارنا، والحجّ هو الزيارة لشيوخنا المقدسين. وفتح لهم هذا الباب 'الجهمية'، و 'الرافضة' حيث صار بعضهم يقول: الإمام المبين علي بن أبي طالب، والشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية ..... واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين".34
هذا هو الإسقاط المذهبيّ، والطائفيّ المقيت على آيات القرآن الكريم، وهي آيات واضحة الدلالة لا تحتاج إلى هذا التعسف، والإكراه والتحكّم. ولو ابتعد بعض هؤلاء المفسرين عن دائرة الحدس الكاذب، ونظروا نظرة حصيفة أمينة مبصرة لهذه الآيات لوجدوا أنها لا تخرج عن إطار أركان الدين الإسلاميّ، كما أنّ الشخصيات الإسلامية الطاهرة المذكورة على جلالة قدرها وعلو مقامها لها ارتباط ببيت النبوة الشريفة بمعزل عن هذا التوظيف السياسيّ والتاريخيّ.
ومما له دلالة في السياق أن تتحول طهارة الأبدان إلى العلم بالباطن، ورؤية هلال رمضان إلى كتمان الأئمة في وقت استتارهم، وغيرها من التفسيرات السقيمة الضالة.35
وقد يُفهم ضمنياً من تحذير النورسيّ من الحدس الكاذب في مقاربة النصوص القرآنية وجود حدس صادق أمين يروم كشف الحقيقة المتجلية في أسرار البلاغة، وخصائصها البيانية. وربما يكون من المفيد أن نشير إلى قضية مركزية لها نسب بالحدس بفرعيه. فهل يمكن الاستغناء عن ذواتنا في قراءة النصوص المختلفة؟ وما حدود التحكّم في كبح جماح الذات، وطغيانها، وجبروتها؟
الواقع أن هذه المعضلة النقدية طرحت في كثير من المقاربات التراثية، والمنهجيات الأدبية النقدية المعاصرة، والإجماع المسلَّم به أنه لا يمكن الاستغناء عن التدخل الشخصيّ في قراءة النصوص الأدبية خاصة، وبدرجة أقل بكثير في النصوص القرآنية. فما مشروعية هذا الحدس أو الاستبطان الذاتيّ؟
يجيبنا عن هذا الإشكال الناقد الحصيف مصطفى ناصف بقوله: "كل الناس يسلّمون بأن الفهم رهن أفق خاص. لكن هذا الأفق ليس مطلق اليد ولا مستبداً، ولو قد أطعنا استبداد القوالب بنا لما حدث تغيير حقيقيّ في أنفسن".36
2. فالحدس المشروع هو الذي ينضبط على أوامر النص، ويلتزم بحدوده دون استبداد أو استغلال لمكوناته، وتحويله لأغراض مذهبية منافية لروح النص، وهديه. ومن ثم فإن: "المرء يستطيع أن يخرج بقدر هائل من الاستجابات لنص بعينه، هي استجابات قُهمت فهماً رديئاً، وغالباً ما تكون ساذجة على نحو لا يقبله العقل؛ وذلك عندما يُنتزع النص من سياقه ويُستخدم على أنه مجرد مثير لاستجابات ذاتية تلتمس بصورة مبهمة".37
ومن المقرر في الدراسات الأسلوبية الحديثة أن الحدس المبهم هو الخلاصة الطبيعية لفحص لغويّ للنص يقصد تصيد عثراته دون الوفاء لمقاصده؛ وبهذا الاعتبار فإن الحدس الصادق هو إقحام للذات في فهم الكلمات دون أن يهيمن الأفق الخاص للقارئ على النص، ويتسلّط عليه، ويحرمه من المحاورة التأويلية المثمرة.
ولا جرم أن الحدس الصادق هو حدس مضيء مشرق يسعى جاهداً لقراءة النص في جو من الألفة والأنس بمعزل عن الإكراه الذي يمارسه الحدس الكاذب الذي لا يقدّر الحقيقة. فالفرق بين الحدسين هو: في القيمة الأخلاقية التي توجّه الممارسة التأويلية، وهناك بون شاسع بين قارئ يخضَع لصوت النص، وقرارته، وبين قارئ آخر يُخضِع النص لنزواته ورغباته؛ ومن ثم شدّد الكثير من نقاد العربية على التفرقة بين معالجة تتلذذ بالكشف عن سرّ العبارة بأدوات وفية صادقة، وبين معالجة فظّة غليظة تروم التقاط عيوبه، وتصيد هناته. ومن هذا المنطلق ذهب مصطفى ناصف إلى أنه: "قد سُمي إخضاع الكلمات عند المفسرين المتخصصين باسم البدعة والكِبر والهوى. أي أنّ إخضاع الكلمات لغير ما تطيق عمل لا حظ له من الاستقامة والتعفف. [...] إنّ القدماء فرّقوا بين ما قد يُسمى الآن نمو الكلمات وتضخم الإحساس بالكلمات".38
إن الشواهد القرآنية التي ساقها النورسيّ، وانتقاها لمشروع إثبات الحقائق الإيمانية، وتثبيتها في كليات رسائل النور تعضد إحساسه القويّ بضرورة التفرقة الحاسمة بين رؤية نقدية قوامها الإحساس الصادق بنمو الكلمات في فهم النص القرآنيّ، وبين الأحاسيس المضلّلة التي تضخّم الكلمات، وترغمها على الذوبان في فضاءات غريبة موحشة.
سادساً: مفهوم الحقيقة عند النورسيّ:
لا ريب أن الحقيقة صنو المجاز، وقسيمه كما هو مقرر في البلاغة العربية؛ إلا أن مفهوم النورسيّ لها يتجاوز الإطار البيانيّ إلى الحقيقة الإلهية التي هي منبع كل حقيقة في هذا الوجود. وقد أعطى النورسيّ للحقيقة بعداً مجرداً. وفي هذا المعنى يقول: "يجب أن يكون للمعنى الحقيقي ختم خاص وعلامة واضحة متميزة. والمشخّص لتلك العلامة هو الحسن المجرد الناشئ من موازنة مقاصد الشريعة".39
فخصوصية المعنى الحقيقيّ نابعة من وحي الشريعة الإسلامية، وروح الوسطية والاعتدال؛ ومن ثم لا مكان للمعاني التي لا تنسجم مع حكمة الوحي. ويفسّر النورسيّ تفرّد الحقيقة بهذه الصفات المميزة في رحاب الحق حيث: "إنّ معاني القرآن الكريم حق، كما أن صور إفادته للمعاني، بليغة ورفيعة. فمن لا يُرجع الجزئيات إلى ذلك المعدن ولا يلحقها بذلك النبع يكن من المبخسين حقه".40
وليس من الغرابة أن نزعم في هذا المقام أن مفهوم الحقيقة كما يطرحه النورسيّ يتجاوز المفهوم النمطيّ إلى رؤية كونية شاملة تتخذ من القرآن المنبع الصافي لكل حقيقة؛ ذلك أن معاني القرآن حق لارتباطها بمصدر الوحي من جهة، ولتعلقها بالبيان، والبلاغة الرفيعة من جهة أخرى.
وإذا تقرر هذا، ظهرت الحاجة إلى تحديد موقع الحقيقة في تشكيل النسيج اللغويّ للعبارة القرآنية. فهل الحقيقة ركن هامشيّ في صناعة الكلام، وتركيبه؟ وهل يُشترط في كل خيال حضور عنصر الحقيقة؟
دفعاً لكل انزلاق في الممارسة التأويلية، وسداً لمسالك الوهم اشترط النورسيّ توظيف الحقيقة في كل تشكيل جماليّ أو فنيّ؛ إيماناً منه بأن البلاغة العربية لا تنهض إلا بالمزج بين الحقيقة والمجاز؛ ذلك أن الإغراق في المجاز دون الاتكاء على الحقيقة في أبسط تجلياتها يقود إلى الخرافة والوهم؛ لأنه يستحيل عملياً بناء الصورة الفنية دون عنصر الحقيقة، ومن ثم فإنّ إخفاء الحقيقة أو الاستغناء عنها تشويه لحقيقة الكون. ومن هنا يرى النورسيّ أنه: "لو لم تكن في الكلام حقيقة ففي الأقل لا بد فيه من شبيه للحقيقة وما يستمد من نظامها والتسنبل على نواتها. ولكن لكل حبة سنبلها الخاص فلا تتسنبل الحنطة شجرة فإن لم تؤخذ فلسفة البيان بنظر الاعتبار، فالبلاغة تكون كالخرافة لا تغني السامع غير الحيرة".41
فالخيال الذي هو القوة التركيبية بين الأشياء الحسّية المتفرقة في الواقع ينصهر في الأسلوب لمحاكاة حقائق الكون، ولا بد لهذا الخيال أن يتضمن قدراً من الحقيقة تناسب مقداره؛ ذلك أن غياب الحقيقة هو إخفاء لحقائق الوجود؛ كما أن ّ تضخيم الحقائق هو تغيير للحسن، وتبديل للجمال، ومن ثم: "لا بد في كل خيال من نواة من حقيقة".42
وعلى هذا الهدي نوضح أنّ الحقيقة شريكة المجاز في صنع العبارة القرآنية، ونسيجها، وهي حقيقة منسجمة مع الحقيقة الإلهية التي تعكس حقائق الكون؛ كما أن المجاز هو منبع البلاغة الرفيعة العالية التي هي أساس الإعجاز ومِلاكه وقِوامه. وقد خلُص النورسيّ إلى معادلة في غاية الإحسان والبيان مفادها: أن مزج الحقيقة بالبلاغة بوسيط الحدس الصادق يفضي إلى فهم العقيدة الإسلامية فهماً صحيحاً. وقد عبّر عن هذه المعادلة الكيميائية بقوله: "امزج عنصر الحقيقة -قوة كبرى- وعنصر البلاغة -قوة صغرى- وامرر في المزيج الحدس الصادق الذي هو كشعاع الكهرباء. لينتج لك عنصر العقيدة المضيئة، وليمنح ذهنك استعداداً لفهمه".43
لا يسعنا في هذا المقام إلا الإقرار في عدالة واعتدال بأن النورسيّ بلغ فضاء الاستبصار المعرفيّ، والروحيّ بصياغة هذه الخلاصة الجامعة التي تنّم عن قدرة تحليلية، وتركيبية عزّ نظيرها.
ويحسن بنا أن نقف عند مكونات هذا المزج الذي نراه قاعدة ثابتة يسترشد بها كل باحث عن الحقيقة النورانية. ولعل اللافت للنظر في هذا التركيب الكيميائيّ وسيط المزج الذي هو الحدس الصادق، وليس الكاذب؛ لأن مكونات هذا المجموع تستند إلى الإضاءة، والاستنارة، والإشراقة. فالحقيقة نور، والبلاغة نبراس، والحدس الصادق إشعاع، والعقيدة ضياء؛ فاجتمع نورالحقيقة بوهج البلاغة فسطعت شمس العقيدة الإسلامية. ويمكن بإيجاز توضيح مجموع هذه المعادلة وفق المخطط الآتي:
عنصر الحقيقة (قوة كبرى) + عنصر البلاغة (قوة صغرى) + الحدس الصادق (وسيط التفاعل).
عنصر العقيدة.
الخاتمة:
وجماع الرأي في هذه الدراسة أن النورسيَّ عالج موضوع الحقيقة، والمجاز من منطلقات بلاغية إيمانية، ولم يكتف بما ردّده القدماء في المسألة؛ وإنما ولج في عمق إشكالية المجاز؛ مستأنساً برؤية كونية شاملة تعكس وعيه المعرفيّ بأبعاد المجاز النقدية، والبلاغية، والسياسية، والفكرية. بيد أن ضخامة كليات رسائل النور، وقلة البضاعة، وكثرة الإضاعة حالت دون الأماني، فأرجو العفو عن القصور. فالرسائل بحر لا ساحل له، ولو استقصينا آراءه كاملة لأدت الدراسة إلى الإسهاب -والله أعلم بالصواب-، ويمكن أن نستخلص من هذا البحث سبع ملاحظات:
1. يقوم البناء النصيّ للقرآن الكريم من منظور النورسيّ على دعامتين: الحقيقة والمجاز.
2. العلم بالمجاز أداة لحفظ الدّين من الخرافة، والوهم.
3. مراعاة قواعد البلاغة العربية، وسننها شرط في صحة المجاز، وصوابه.
4. يشترط في سلامة المجاز مراعاته لمقاصد الشريعة الإسلامية.
5. الوفاء للحقيقة نواة كل مقاربة بلاغية، والقدر اليسير من الحقيقة ضروريّ في بناء العبارة القرآنية، والشعرية.
6. الحدس الصادق، والإحساس النبيل شرط في فهم المجاز، ووسيلة عاصمة من الانزلاق في متاهات التأويل المذهبيّ والطائفيّ.
7. الحدس الكاذب انحراف عن شرف الفضيلة البلاغية، ونبل المقاصد الإيمانية.
والله الموفق للصواب، والمرشد للحق.
***
مصادر البحث ومراجعه:
1- القرآن الكريم، مصحف المدينة النبوية للنشر الحاسوبيّ.
2- ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وساعده ابنه محمد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، عام 1424هـ - 2003م للاستزادة في موقف ابن تيمية من المجاز. ينظرالدراسة القيّمة التي أنجزها الباحث عبد العظيم المطعني، بعنوان: "المجاز في اللغة والقرآن بين الإجازة والمنع عرض وتحليل ونقد"، مكتبة وهبة، القاهرة [ د ت]. والتحقيق أن هذه الدراسة من أعمق الدراسات التي تناولت موقف ابن تيمية من المجاز بمعزل عن الشحن العاطفيّ أوالتعصب المذهبيّ؛ بل إن الباحث تتبع آراء ابن تيمية، وغيره من العلماء تتبعاً في منتهى التدقيق، وناقشها مناقشة العالم المتواضع الذي يسعى للكشف عن الحقيقة العلمية لاغير.
3- ابن القيم الجوزية، أعلام الموقعين عن ربّ العالمين، تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، [ د. ت].
4- أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، حقّقه وقدّم له عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، [د. ت].
5- التهانويّ، موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم وإشراف ومراجعة رفيق العجم، تحقيق علي دحروج، نَقل النص الفارسيّ إلى العربية عبد الله الخالدي، الترجمة الأجنبية جورج زيناتي، مكتبة لبنان ناشرون، 1996م، الطبعة الأولى.
6- بدر الدين بن جماعة، تذكرة السّامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلّم، حَقّق نصوصه وخَرّج أحاديثه وعلّق عليه عبد السّلام عمر علي، تحقيق مكتب الضياء لتحقيق التراث، مكتبة ابن عباس، مصر، 1425هـ/ 2005م، الطبعة الأولى.
7- بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق إحسان قاسم الصالحي، شركة سوزلر للنشر، مصر، 2002م، الطبعة الثالثة.
8- بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، شركة سوزلر للنشر، مصر، 2002م، الطبعة الثالثة.
9- بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، المكتوبات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، شركة سوزلرللنشر، مصر، 2001م، الطبعةالثالثة.
10- روبرت هولب، نظرية التلقي، ترجمة عز الدين إسماعيل، النادي الأدبي الثقافي بجدة، المملكة العربية السعودية، 1994م، الطبعة الأولى.
11- عبد العظيم المطعني، المجاز في اللغة والقرآن بين الإجازة والمنع عرض وتحليل ونقد، مكتبة وهبة، القاهرة [ د, ت].
12- عبد القاهر الجرجانيّ (ت 471هـ)، كتاب أسرار البلاغة، قرأه وعلّق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، [د. ت].
13- محمد بن علي بن محمد الجرجانيّ (729هـ)، الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة، تحقيق عبد القادر حسين، مكتبة الآداب، 1418ه-1997م.
14- محمد مفتاح، مجهول البيان، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، 1990م، ط 1.
15- مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير 1995م.
الهوامش:
1 أستاذ البلاغة والأسلوبية بقسم اللغة العربية، بجامعة نجران بالمملكة العربية السعودية.
2 القائلون بالمجاز وفق ضوابط صارمة مانعة من الانزلاق في متاهات التّشبيه والتعطيل والتجسيم، ومنهم بعض البلاغيين واللغويين والنقاد؛ وعلى رأسهم شيخ البلاغيين عبد القاهر الجرجانيّ [ت 471هـ]، وخطيب أهل السنة والجماعة ابن قتيبة الدينوري [ت 276هـ]. وسنتناول لاحقاً رأي عبد القاهر الجرجاني - رحمه الله -، وسوف نجلي هذا في موضعه من البحث.
3 المفْرِطون بالقول في المجاز كالباطنية والجهمية وغلاة الشيعة، ومن لفّ لفهم وجرى مجراهم من الفِرق التي عمّقت من طرح إشكالية المجاز، وسلكت فيها مسلك الانحراف العقديّ، واللغويّ، والفنيّ.
4 الدائرة الأولى يمثّلها المانعون للمجاز وعلى رأسهم: داود الظاهريّ وابنه محمد، وأبو إسحاق الإسفرائينيّ، وهؤلاء جميعاً لا نجد لهم مصنفاً جامعاً يكشف عن رؤيتهم؛ وإنما هي آراء نقلت عنهم، أو رويت عن بعضهم. ولعل قطب الرحى في هذه الدائرة شيخ الإسلام ابن تيمية [ت 728هـ] في كتابيه: (الإيمان)، (ومجموع الفتاوى)، وتلميذه ابن قيم الجوزية [ت 751 هـ] في كتابه: (الصواعق).
وقد لا يسمح المقام بالاستفاضة في تحرير رأي ابن تيمية بوصفه حامل لواء المانعين كما بدا لكثير من الباحثين؛ وحسبنا إبداء الملاحظات الآتية على مقاربته للمجاز -رحمه الله-:
أ- من الإنصاف والعدل، والالتزام بالفضيلة العلمية، والخُلقية أن نشير إلى أن معالجة كثير من الباحثين قديماً، وحديثاً لموقف ابن تيمية من المجاز فيه ميل عن الموضوعية؛ ولعل منشأ هذا المسلك المجافي للحقيقة العلمية القفز على الدواعي الحقيقية التي جعلت ابن تيمية يستفرغ طاقته المعرفية والدينية والكلامية في منع المجاز وهي أسباب إذا نُظر إليها بعين البصيرة كشفت الأستار عن حقيقة موقف شيخ الإسلام. ويقف على رأس هذه الأسباب الحرص الشديد على سلامة العقيدة، ونقائها من الضلال والزيغ في جو مشحون بالفِرق المبتدعة كالباطنية والجهمية والرافضة، وغلاة الصوفية والشيعة الذين استباحوا النص القرآنيّ، واتخذوه وسيلة للدفاع عن معتقداتهم الفاسدة، وتزييف وعي الأمة الإسلامية بتأويلات ممجوجة واضحة الفساد، بيّنة الاستبداد.ويشهد على هذا الرأي أن تلميذ ابن تيمية ابن قيم الجوزية أفرد الفصل الرابع من كتابه: "إعلام الموقّعين عن رب العالمين"لموضوع التأويل سمّاه: "التأويل عدو كل الأديان". وأكبر الظن أن في هذه التعميم ما يوحي بحجم الضرر العقدي والمعرفيّ، والإنسانيّ الذي تسببّت فيه بعض الفِرق المبتدعة.
ب- لا جرم أن القراءة العادلة لمصنّفات ابن تيمية تؤكد تردّده في الفصل بين المنع والإجازة؛ وهو تردد ينبغي أن يفهم في السياق الحضاريّ، والمعرفيّ، والسياسيّ الذي احتضن هذه المؤلفات الشامخة شموخ ابن تيمية -رحمه الله-؛ فهو وإن لم يصرّح بلفظ جواز المجاز؛ فإن الكثير من عباراته في كتابيه: الإيمان، والفتاوى لا يمكن فهمها إلا في رحاب جواز المجاز، وإن تحرّج من القول بذلك صراحة؛ ولعل هذا التحرّج الدينيّ له ما يزكّيه، ويعضده بالنظر إلى حجم الانزلاق العلميّ والكلاميّ الذي صاحب الكثير من التأويلات الباردة النافرة في زمانه.
ج- من مكامن القصور في مقاربة ابن تيمية لمعضلة المجاز أنه تناولها في إطارها العقديّ الضيق، ولا تثريب عليه في ذلك -كما تقدم تقريره -؛ ولم ينظر إلى المجاز بوصفه وسيلة أسلوبية، وجمالية كاشفة عن أسرار التعبير القرآنيّ، وإعجازه.
5 بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، شركة سوزلرللنشر، مصر، الطبعة الثالثة، 2002 م، ص: 40. ولقد تردّد مفهوم الجهل في حديث النورسيّ عن المجاز في كليات رسائل النور في موضع آخر بالعبارة نفسها مع زيادة لفظية مفيدة فيقوله: "إذا وقع المجاز من يد العلم إلى يد الجهل، ينقلب إلى حقائق مادية، ويفتح الباب إلى الخرافات". المكتوبات، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، شركة سوزلر، بمصر، 2001م، الطبعة الثالثة، ص: 606.
6 عبد القاهر الجرجانيّ، كتاب أسرار البلاغة، قَرأه وعلّق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة، [د. ت]، ص: 393.
7 المصدر نفسه، ص: 391
8 المصدر نفسه، ص: 391
9 بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق إحسان قاسم الصالحي، شركة سوزلرللنشر، مصر، 2002 م، الطبعة الثالثة، ص: 26.
10 ينظر هامش ص: 26 من كلام محقق إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز
11محمد مفتاح، مجهول البيان، دار توبقال، الدارالبيضاء، المغرب، 1990، ط1، ص: 99.
12 بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام، ص: 41.
13 المصدر نفسه، ص: 41.
14 المصدر نفسه، ص: 41.
15 المصدر نفسه، ص: 94.للإحاطة الشاملة برأي النورسي ّفي أثرالفلسفة اليونانية في البلاغة العربية. ينظر كتابه: صيقل الإسلام، ص: 97.
16 بدر الدين بن جماعة، تذكرة السّامع والمتكّلم في أدب العالِم والمتعلّم، حَقّق نصوصه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه عبدالسّلام عمرعلي، تحقيق مكتب الضياء لتحقيق التراث، مكتبة ابن عباس، مصر، 1425هـ/ 2005م، الطبعة الأولى، ص: 130- 131.
17 بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام، ص: 42، 43.
18 المصدر نفسه، ص: 46.
19 المصدر نفسه، ص: 46.
20 المصدرنفسه، ص: 46-47.
21 المصدر نفسه، ص: 47.
22 عبد القاهر الجرجانيّ، كتاب أسرار البلاغة، ص: 393.
23 الراغب في الاستزادة في التعرف إلى رأي بديع الزمان سعيد النورسي في الرد على الظاهريين في المسائل الكلامية والعقدية الاستعانة بكتابه: صيقل الإسلام، ص: 88، 89.
24 بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام، ص: 89- 90.
25 المصدر نفسه، ص: 90.
26 محمد بن علي بن محمد الجرجانيّ، الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة، تحقيق عبد القادرحسين، مكتبة الآداب، 1418هـ- 1997م، ص: 185. والمقصود بالنِسب في نص الجرجانيّ: الاستعارة -نِسبة السبب إلى المُسبب- نِسبة الكل إلى الجزء -نسبة اللازم إلى الملزوم- نِسبة المطلق إلى المقيد -نسبة العام إلى الخاص- نسبة الناقص إلى الزائد -نسبة الحال إلى المحل- نسبة الشيءإلى غير زمانه -نسبة الشيء إلى ضده- نسبة المصدر إلى فاعله- نسبته إلى مفعوله. ينظرالإشارات والتنبيهات، ص: 185-186.
27 بديع الزمان سعيد النورسيّ، كليات رسائل النور، صيقل الإسلام، ص: 90. للتوسّع في تفسير النورسي لبعض الآيات القرآنية تفسيراً بلاغياً، وجماليا ينظر كتابه: صيقل الإسلام، ص: 87، 91، 92؛ ففي هذه الآيات إشراقات بيانية، وتخريجات فنية مشبعة لمن رام الوقوف على أسرار الإعجاز البيانيّ في القرآن الكريم.
28 للإحاطة الشاملة بمفهوم المحاكاة في توجيه الآية الرجوع إلى صيقل الإسلام، ص: 91.
29 بديع الزمان سعيد النورسيّ، صيقل الإسلام، ص: 92.
30 المصدر نفسه، ص: 93. يقترح النورسيّ مفهوماً آخر لقرينة المجاز؛ وهي الاستقراء التام الذي يشهد بحقيقة ناصعةعلى دقة الخالق فيصنع مخلوقات الكون. ينظر صيقل الإسلام، ص: 93.
31 التهانويّ، موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقديم وإشراف ومراجعة رفيق العجم، تحقيق علي دحروج، نَقلا لنص الفارسيّ إلى العربية عبد الله الخالدي، الترجمة الأجنبية جورج زيناتي، مكتبة لبنان ناشرون، 1996 م، الطبعة الأولى، الجزء الأول أ- ش، ص: 626.
32 بديع الزمان سعيد النورسيّ، صيقل الإسلام، ص: 82.
33 مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير 1995م، ص: 73.
34 ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بنقاسم وساعده ابنه محمد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربيةالسعودية، عام 1424هـ- 2003م، المجلد الخامس، ص 551.
35 للمزيد من التبحّر في تفسيرات الفِرق المبتدعة ينظر كتاب: فضائح الباطنية، لأبي حامد الغزاليّ، حقّقه وقدّم له عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، [ د.ت]. فقد أفرد أبو حامد الغزاليّ -رحمه الله- الباب الخامس بعنوان: "في إفساد تأويلاتهم للظواهر الجلية واستدلالاتهم بالأمور العددية".
36 مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، ص: 150
37 روبرت هولب، نظرية التلقي، ترجمة عزّ الدين إسماعيل، النادي الأدبي الثقافي بجدة، المملكة العربية السعودية، 1994م، الطبعةالأولى، ص: 315.
38 مصطفى ناصف، اللغة والتفسير والتواصل، ص: 74.
39 بديع الزمان سعيد النورسيّ، صيقل الإسلام، ص: 41.
40 المصدر نفسه، ص: 85.
41 المصدر نفسه، ص: 108. يقول النورسيّ -رحمه الله- مبرزاً أثر الحقيقة في الخيال: "اعلم! أن الخيال المندمج في أسلوب لابد أن يتسنبل على نواة حقيقة، ويكون كالمرآة في أن ينعكس به -في المعنويات- القوانين والعلل المندرجة في سلسلة الخارجيات". إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، ص: 123.
42 بديع الزمان سعيد النورسيّ، صيقل الإسلام، ص: 100.
43 المصدر نفسه، ص: 116.