
جمالية المضمون العلمي في رسائل النور أصولها وملامحها
ABSTRACT
The Origins and Features of the Aesthetic of the Risale-i Nur's Scholarly Content
Dr. Muhammed al-Ruki
The Risale-i Nur talks at length about light's (Nur) meanings: for the Risales are an independent school which has strong foundations, clear markers, and educational methods that are comprehensible. These works carry an instruc-tional, educational, and functional message which exists to convey Islamic concepts to the mind and heart, and inform the soul and conscience of The Quran's purpose.
The roots of the Risale-i Nur's aesthetic beauty spring from its rich scholarly content, which rely on many roots and dynamics - that took their strength and brilliance from the Quran and the noble traditions of the Prophet which the Ustad knew on an extensive level. Thus, the Risale-i Nur is a valuable inter-pretation of the Quran, and a bright flash that has its source in the holy text.
Each page of the Risale-i Nur is peppered with aesthetic markers. These markers are manifested in the Risale's expansive formation, diverse provisions, and meaningful lessons, and are neither purely philosophical nor purely theoretical. On the contrary, they show their effect on the nafs and are truths that attract the nafs to themselves. These markers also refine the presentation, depiction, management, and analysis of various subjects within the text. The text provides its reader with information that has realistic and practical features, and takes all of these beautiful features from the beauty of the Quran, the exaltedness of faith (iman), and the brilliance of righteousness.
* * *
ملخص البحث
د. محمد الروكي1
تفيض رسائل النور بمعاني النور إذ هي مدرسة قائمة بذاتها، لها أسسها المحكمة، ومعالمها الواضحة، ومنهاجها التربوي بين، تحمل رسالة لأبناء الإسلام، فهي أعمال رسالية توجيهية تربوية وظيفية، القصد منها إيصال المضامين الإسلامية حية إلى العقل والقلب، وتوجيه المقاصد والأسرار القرآنية إلى النفس والوجدان والشعور.
إن أصول جمالية رسائل النور نابعة من جودة مضمونها العلمي، وجودة مضمونها العلمي قائمة على أصول كثيرة كان الأستاذ النورسي راسخا فيها، مشبعا بمادتها وهي: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، حيث تستمد قوتها وتقتبس أنوارها منهما، فرسائل النور تفسير قيم للقرآن ولمعة براقة له ورشحة من رشحاته. وأما ملامح جمالية رسائل النور فهي راسخة ومنثورة ومبثوتة في كل صفحاتها وتتجلى في كون صياغتها جامعة وأحكامها عديدة وحكمها بالغة.
وأنها ليست فلسفية محضة، ولا نظرية صرفة، وأنها مؤثرة تترك الأثر في النفس وتجذبها إليها بقوة، كما تتميز بالدقة في التصوير والعرض والتناول والتحليل والاستنتاج وهي شاملة في العطاء، متنوعة المعارف، مختلفة الفوائد تمتاز بالواقعية والعملية، كل هذا قد اكتسبته من جمال القرآن وبهاء الإيمان ورونق الهدى. وهذا يؤكد كونها مؤسسة على الرسالية والنورية.
* * *
يتكون البحث من:
- تمهيد
- المبحث الأول: أصول جمالية رسائل النور.
- المبحث الثاني: ملامح جمالية رسائل النور.
- خاتمة.
تمهيد:
إن المتأمل في رسائل النور، المتمعن في مضامينها ومقاصدها، يجد أنها حقا رسائل نور، فهي تفيض بمعاني النور، وتتدفق فيها أفكار النور، وتشقق منها سيول الهدى، وتنساب منها فيوض الندى، إنك إذا قرأتها في نسقها العام، ونظرت إليها وهي في منظومتها الشاملة المتكاملة، أدركت أنها قد نبعت من قلب متفجر بالإيمان، متشبع بالقرآن، وعلمت أنها قد سالت من فكر شمولي عميق، قوامه السعة والتنوع وقوة التحليل والتعليل.. إنك إذا قرأت رسائل النور وأمعنت النظر في فقراتها وفتحت البصيرة في محتوياتها رأيت رأي العين من خلالها سعيد النورسي القديم والجديد وما بعد ذلك، وأيقنت أنه بجانبك يحاورك ويناجيك، ويلقي عليك بخالص ذهبه، ولباب أدبه، ويُحْبِك ببالغ نصائحه، ويسبك لك أجود مواعظه، ويصوغ لك لآلئ فكره، وحلال سحره، ولم يسعك أمام ذلك كله إلا أن تنحني إجلالا، وتطأطأ رأسك امتثالا، وتقف إكبارا لهذا الرجل الرباني الذي يحق لنا أن نصفه بأنه المجدد المصلح المربي القدوة الإمام الذي وهب قلبه وعقله لعصره، ووقف حياته لدينه، وبذل رحيق عمره للدعوة والتربية وبناء الأجيال المسلمة المؤمنة، وتقديم مادة الإسلام لهم ينبوعا صافيا، ودواء شافيا من أسقام الأوهام الفكرية، وعلل الاختلالات التي ابتلتهم بها الحياة المعاصرة وما حملته من شظايا المدنية الغربية، وما رشحت به من رذاذ حمأتها الآسنة.
إن رسائل النور في الحقيقة لا يدرك قيمتها ولا يذوق حلاوتها ولا يقدرها حق قدرها إلا الذين عايشوها وتلقوها مباشرة من معينها الصافي، ومنبعها الرقراق، وكانوا رجالها وناسها، فيهم حررت، وفي وقائعهم كتبت، وبأيديهم نسخت ووزعت، وفي بيوتهم ومجالسهم قرئت، فهم أسباب ورودها، وعناصر مادتها ومقومات محتوياتها. ومن ثم فإن قارءها يجب أن يستحضر ذلك كله حتى تفهم حق الفهم، يجب أن يقرأها القارئ وقد أخذ حظه من معرفة ملابساتها الزمانية والمكانية والإنسانية، يجب أن يقرأها القارئ وقد أخذ زاده من معرفة أصولها ومصادرها ومدرستها ومنهاجها، وتعرف على محررها ورائدها وقائدها وموقد نورها الشيخ العالم الرباني بديع الزمان سعيد النورسي الذي نحتها من ذاته، وفجر ينابيعها في قلبه الوضاء، وأوقد مصباحها من فكره الثاقب وبصيرته الساطعة... لابد لقارئ رسائل النور أن يستعين في فهمها وفقه مضامينها بالتعرف على حياة هذا الرجل الإمام وفكره وجهاده وفلسفته في الدعوة والتربية والبناء والتغيير، ومنهجه في خطاب العقل والقلب، وطريقته في مناظرة الأقربين ومحاورة الأبعدين.
إن رسائل النور مدرسة قائمة بذاتها، لها أسسها المحكمة، ومعالمها الواضحة، ومنهاجها التربوي البين... إنها مدرسة مبنية على ركنين مضمنين في رسمها نفسه المركب تركيبا إضافيا "رسائل النور":
فالركن الأول: النور: ومعنى ذلك أن تراث النورسي ورصيده الفكري، وأعماله العلمية التي بين أيدينا، كل ذلك قائم على أساس صياغة أفكار الهدى ومضامين النور المستمدة من أصول الإسلام القرآن والسنة... نعم إن تراث النورسي هو اقتباس من نور القرآن وإشراقة السنة، فهو نور على نور ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللّٰه لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾.النور:40 وهذا التفسير لا يتنافى مع ما ذكره النورسي في تعليل تسمية أعماله برسائل النور من قوله في كتاب الملاحق: "إن سبب إطلاق اسم رسائل النور على مجموع الكلمات وهي ثلاث وثلاثون كلمة، والمكتوبات وهي ثلاثة وثلاثون مكتوبا، واللمعات وهي إحدى وثلاثون لمعة، والشعاعات وهي ثلاثة عشر شعاعا، هو: أن كلمة النور جابهتني في كل مكان طوال حياتي، منها:
- قريتي اسمها نورس
- اسم والدتي المرحومة: نورية
- اسم أستاذي في الطريقة النقشبندية: سيد نور محمد
- وأحد أساتذتي في الطريقة القادرية: نور الدين
- وأحد أساتذتي في القرآن: نوري
- وأكثر ما يوضح كتبي وينورها هو التمثيلات النورية.
- وأكثر ما حل مشكلاتي في الحقائق الإلهية هو اسم النور من الأسماء الحسنى
- ولشدة شوقي نحو القرآن، وانحصار خدمتي فيه فإن إمامي الخاص هو سيدنا عثمان ذو النورين رضي اللّٰه عنه".2
وأقول: هذا لا يتنافى مع التفسير العام الذي ذكرت، والتعليل الكلي الذي بينت، بل إنه يبينه ويؤكده ويقرره، لأنه كان يستحضر كلمة النور ودلالاتها ومقاصدها وأسرارها التي جابهته فيها كلمة النور. فالذي يعنينا نحن الآن هو النظر إلى رسائل النور بعد صياغتها وتحريرها، وتقويمها في ضوء مضمونها ومنهجها وآثارها التربوية الإيمانية، فهي من هذه الجهة العامة تحمل قيم النور وفكرته وسره وإشعاعه، وحتى أسماء بعض مجموعات الرسائل جاءت مطبوعة بذلك دالة عليه، مثل اللمعات، الشعاعات، صيقل الإسلام... الخ.
والركن الثاني: الرسائل: ومعنى ذلك أن هذه الأعمال العلمية تحمل رسالة لأبناء الإسلام ورجاله ونسائه وشبابه، فهي أعمال ومحررات ليس المقصود منها هو مجرد المعلومات والمتعة الفكرية، بل إنها أعمال رسالية توجيهية تربوية وظيفية، القصد منها إيصال المضامين الإسلامية حية إلى العقل، وإرسال المعاني الإيمانية الناصعة إلى القلب، وتوجيه المقاصد والأسرار القرآنية إلى النفس والوجدان والشعور.
وإذن فتراث الأستاذ النورسي بناء شامخ سامق، قائم على ترجمة نور الإسلام وهدى القرآن إلى رسائل ومكتوبات ومحررات وظيفية رسالية، يمكن أن تتخذ نبراسا في الحياة، ودليلا مرشدا على السير في دربها. وهاهنا يكمن جمال هذه الرسائل، وتظهر روعتها. إن جمالها في نوريتها ورساليتها... إن جمالها في مضمونها ومقاصدها ودلالاتها التربوية الإيمانية.
فما هي أصول هذه الجمالية؟ وما هي ملامحها؟ إن الجواب عن ذلك هو ما نعرضه في المبحثين الآتيين.
المبحث الأول: أصول جمالية رسائل النور
المبحث الثاني: ملامح جمالية رسائل النور.
المبحث الأول: أصول جمالية رسائل النور
إن جمالية رسائل النور نابعة من جودة مضمونها العلمي، وجودة مضمونها العلمي قائمة على أصول كثيرة كان الأستاذ النورسي راسخا فيها، مشبعا بمادتها، متفيئا في ظلالها، ويمكن إجمالها في الأمور الآتية:
1- القرآن والسنة:
إن الطابع العام الذي يطبع رسائل النور: أنها رسائل مستمدة قوتها من القرآن، ومقتبسة أنوارها من القرآن، وآخذة ماءها ورونقها وحياتها من القرآن، فهي رسائل قرآنية استخلص الأستاذ النورسي مادتها ومقوماتها من القرآن الكريم الذي تشبع بقيمه وحكمه ومضامينه، ورأى بنوره، وسار على هداه، وملأ به قلبه، وسرى تياره في وجدانه، فصار بذلك رجلا قرآنيا يفكر بالقرآن، ويكتب بالقرآن، ويعلم بالقرآن... لقد جاء في كتاب الملاحق هذا التصوير لرسائل النور:
"إن رسائل النور برهان باهر للقرآن الكريم، وتفسير قيم له، وهي لمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي، ورشحة من رشحات ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس، وحقيقة ملهمة من كنـز علم الحقيقة، وترجمة معنوية نابعة من فيوضاته..
إن رسائل النور ليست كالمؤلفات الأخرى التي تستقي معلوماتها من مصادر متعددة من العلوم والفنون، فلا مصدر لها سوى القرآن، ولا أستاذ لها إلا القرآن، ولا ترجع إلا إلى القرآن.. ولم يكن عند المؤلف أي كتاب آخر حين تأليفها، فهي ملهمة مباشرة من فيض القرآن الكريم، وتنـزل من سماء القرآن ومن نجوم آياته الكريمة..."3
وجاء في نفس الكتاب أيضا:
"إن رسائل النور كذلك ليست نورا مقتبسا وبضاعة مأخوذة من معلومات الشرق وعلومه، ولا من فلسفة الغرب وفنونه، بل هي مقتبسة من العرش الرفيع السماوي لمرتبة القرآن الكريم الذي يسمو على الشرق والغرب. فرسائل النور التي هي ضياء معنوي، وعلم في منتهى العلو والعمق معا، لا تحتاج دراستها والتهيؤ لها إلى تكلف، ولا داعي لأساتذة آخرين لتعلمها، ولا الاقتباس من أفواه المدرسين، حيث إن كل شخص يفهم حسب درجته تلك العلوم العالية دونما حاجة إلى إشعال نار المشقة والتعب للحصول عليها فيفيد نفسه بنفسه، وربما يكون عالما محققا".4
وهذه الخاصية في رسائل النور المشار إليها في الفقرة الأخيرة من هذا الكلام، هي أيضا مقتبسة من القرآن الكريم، فالقرآن لا يحتاج الآخذ منه إلى تكلف ولا إلى أستاذ أو مدرس، بل يكفيه الإقبال الصادق عليه والتدبر الجاد في آياته، والنظر الواعي في بصائره، فكل من أخذ بهذه الأسباب نال حظه من كنوز القرآن، يصدق ذلك قول اللّٰه عز وجل: ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾.القمر:17و22و32و40
والفكر القرآني عند النورسي معزز بالسنة، ومدعم بتفسيرها وبيانها، يقول في توضيحه لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ﴾:آل عمران:31 "تعلن هذه الآية العظيمة إعلانا قاطعا عن مدى أهمية اتباع السنة النبوية ومدى ضرورتها:
"نعم إن هذه الآية الكريمة أقوى قياس وأثبته من قسم القياس الاستثنائي ضمن المقاييس المنطقية، إذ يرد فيه على وجه المثال: "إذا طلعت الشمس فسيكون النهار"، ويرد مثالا للنتيجة الإيجابية: "طلعت الشمس فالنهار إذا موجود" ويرد مثلا للنتيجة السلبية: "لا نهار فالشمس إذا لم تطلع" فهاتان النتيجتان -الايجابية والسلبية- ثابتتان وقاطعتان في المنطق، وكذلك الأمر في الآية الكريمة، فنقول: إن كان لديكم محبة اللّٰه فلابد من الاتباع لحبيب اللّٰه، وإن لم يكن هناك اتباع فليس لديكم إذا محبة اللّٰه، إذ لو كانت هناك محبة حقا فإنها تولد حتما اتباع السنة الشريفة لحبيب اللّٰه".5
2- العلوم الشرعية وغيرها:
الناظر في رسائل النور لا يسعه إلا أن يدرك غزارة مضمونها العلمي، وقارئها الفاحص المتمعن يجدها حافلة بالمادة العلمية، قوية الإفادة، عظيمة النفع، ومرد ذلك إلى ضلاعة صاحبها النورسي بالعلوم الشرعية واللغوية والعقلية، وتبحره في مباحثها وقواعدها، فالقرآن الكريم هو أستاذه الأول، ومدرسته الأولى، والسنة النبوية هي منهاجه الذي سار عليه في حياته ورسائله. وقد أودع في رسائله مكنون فهومه لآيات القرآن وكنوزه ومعارفه التي استمدها منه مستعينا بما لديه من حصيلة واسعة في علوم القرآن التي هي مفاتيح معانيه وأحكامه وقيمه. كما أودع فيها جواهر فهمه المشرق للأحاديث النبوية مستعينا بما يملكه من قواعد فقه الحديث وعلومه التي هي مفاتيح لمضامينه ودلالاته الشرعية والتربوية.
وإلى جانب علوم القرآن والسنة فقد أودع النورسي في رسائله مئات المسائل والفوائد في علم التوحيد والفقه وأصوله والمنطق والبلاغة والفلسفة والتاريخ والأدب واللغة... وغيرها من العلوم والفنون، وألوان الثقافة الشرعية والفكر الإسلامي. ومن ثم كانت هذه الموسوعة العلمية أصلا آخر لجمالية المضمون العلمي عند النورسي ينضاف إلى القرآن والسنة من حيث مادتها. فكما أن رسائل النور قوامها القرآن، ومنهاجها السنة، فكذلك جاءت ترشح بمختلف العلوم والفنون وأصناف الثقافة التي استقاها من مادة الإسلام وفكرته، وصاغها صياغة حية محركة موجهة.
3- القيم الإسلامية:
إن استفادة النورسي من العلوم الشرعية والعقلية واللغوية وتوظيفه إياها في رسائله، لم تكن من قبيل العلم للعلم، ولا من باب الفن للفن، بل كان ذلك من باب خدمة الدين وإذكاء روح الإيمان، وأداء رسالة الإسلام.. لقد كتب النورسي رسائله وحررها مفعمة بأخلاق الإسلام، مشبعة بقيمه ومكارمه، حافلة بفضائله، لقد جاءت رسائل النور تحمل لواء أخلاق الإسلام وتصوغ قيمه في فقراتها الناصعة، وتترجم لقرائها مبادئه ومثله العليا في لغة حية وأسلوب محرك مؤثر، فكان هذا أصلا من أصول جمالها الفكري وروعتها المضمونية، يتكامل مع سابقه، ويسير معه جنبا إلى جنب. والعلم والأخلاق ما اجتمعا في شيء إلا زاناه وجملاه، بل إن العلم في ميزان القرآن لا ينفك عن ثمرته التي هي الأخلاق والفضائل. فالعلم الحق بميزان القرآن هو الذي يقود إلى قيم الخير، ويجر إلى فضائل الأعمال ومحاسن السلوك، يصدق ذلك قول اللّٰه تعالى في معرض المقارنة بين الصالح المستقيم وعكسه: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.الزمر:9
4- الربانية:
إذا كانت الأخلاق هي ثمرة العلم النافع، وأن كلا منهما أصل من أصول جمالية المضمون العلمي لرسائل النور، فإن الأخلاق ثمرثها: الربانية، فتمثل أخلاق الإسلام وقيمه، والتزام فضائله، والتربية على مكارمه ينتج في الشخص الربانية ويورثه إياها. ولقد كان النورسي ربانيا، وأستاذا في الربانية، ومعلما للربانية، وداعيا إلى الربانية، وجاءت رسائله مطبوعة بطابع الربانية. وقد تعلم هذه الربانية من القرآن الكريم، واكتسبها منه، متمثلا في ذلك قول اللّٰه تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّٰهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّٰهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾آل عمران:79 وبهذا كانت ربانية النورسي التي ترشح بها رسائله أصلا من أصول جمالها الفكري وبهائها العلمي. ومن القرآن استمدها واقتبس أنوارها: ﴿وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾.آل عمران:79
5- الإيمان برسالة الإسلام:
لقد كتب النورسي رسائله وأخرجها لطلاب النور انطلاقا من إيمانه برسالة الإسلام ويقينه بأنها الحق، وأن سبيلها هو سبيل الرشاد، وثقته بان الجولة لها والعاقبة لأصحابها، قال يقرر ذلك:
"أعلن بلا تردد أن الذي دفعني وشجعني إلى مبارزة أفكار العصور الخوالي والتصدي للخيالات والأوهام التي تقوت واحتشدت منذ مئات السنين، إنما هو اعتقادي ويقيني بأن الحق سينمو نمو البذرة النابتة وإن تسترت تحت التراب، وأن أهله سينتصرون وإن كانوا قلة وضعفاء بظلم الأحوال، واعتقادي أن حقيقة الإسلام هي التي تسود قارات العالم وتستولي عليها. نعم إن الإسلام هو الذي سيعتلي عرش الحقائق والمعارف فلا يكشفها ولا يفتحها إلا الإسلام... الأمارات تبدو هكذا..."6
وبمثل هذه الثقة وهذا الإيمان جاءت رسائل النور صادقة اللهجة، جميلة المضمون، رفيعة المحتوى، نافعة هادية.
6- الثقة بالنفس:
هذا الأصل متعلق بسابقه تعلق الثمرة بأمها، والنتيجة بمقدمتها، وذلك أن إيمان النورسي برسالة دينه، ولد فيه ثقته بنفسه، فكانت كل فقرة كتبها في رسائله، وكل جملة وكل كلمة تنيض بالصدق والقوة، وتنضح بالحرارة والجدية والتأثير في المخاطب. لقد اكتسب ثقته بنفسه من إيمانه برسالته. والثقة بالنفس مأتاها الثقة باللّٰه عز وجل، ولقد كان النورسي واثقا بربه جل وعلا، واثقا بوعده الذي وعد به عباده من النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، وحاش للّٰه تعالى أن يخلف وعده، لقد طبع بهذه الثقة كل كلمة من كلمات رسائله فجاءت أجمل وأروع في مضمونها العلمي ومحتواها التربوي.
7- الصدق ونبع الكلام من القلب:
من أصول جمال المضمون العلمي لرسائل النور صدق لهجتها، وانفلاق معانيها وخطابها من أعماق قلب صاحبها ومحررها. لقد كان صادقا في كل ما يكتبه، مؤمنا بكل ما يقوله ويحرره، وكان لسانه دليل قلبه، وقلمه رسول فكره، وظاهره مترجم لباطنه. وصدق الكلام عنوان جماله.
8 - غزارة الأفكار:
لقد استفاد النورسي من كثرة العلوم التي درسها، وكثرة الكتب التي قرأها، فتكون لديه من ذلك فكر واسع ومعلومات غزيرة استطاع أن يجلو بها الحقائق ويعرض المفاهيم الإسلامية ويحرر المقولات العلمية، كما استطاع بها أن يجيب عن كل ما يعرض عليه من الأسئلة، ويحل ما يلقى إليه من المسائل والمشاكل. لقد كتب في علوم الدين، وفي الآداب، والاقتصاد والسياسة والتاريخ، وفي الفلسفة والمنطق وعلم الكلام.. وغيرها من العلوم والفنون. وكل ذلك يكتبه بإتقان، ويحرره بإحسان، فكانت هذه الغزارة في أفكاره أصلا من أصول جمال المضمون العلمي في رسائله.
9- سعة الخبرة والحنكة وطول المباشرة:
لقد جمع النورسي إلى جانب سعة علمه، وغزارة أفكاره، ولطيف شمائله مصدرا آخر اكتسبه من الحياة، هو خبرته الواسعة، وحنكته البعيدة، وطول مباشرته وتدبيره لشؤون طلابه وملازميه، فجاء ذلك واضحا في رسائله، بينا في فقراتها، مطبوعا في كلماتها، فزادها جمالا على جمال، ونورا على نور، حيث يستفيد منها قارئها العلم والعمل والخبرة والتجربة الحية التي تشخص العلم وتنـزله على أرض الواقع، وتيسر الانتفاع به في الحياة.
10 - سلامة المنهج وجودته:
إلى جانب ما تقدم من أمور المضمون العلمي لرسائل النور، فقد صيغ هذا المضمون وأفرغ في قالب جديد، ومنهج سديد، لم يتبع فيه النورسي طرق التأليف المعروفة، ولا مناحي الكتابة المألوفة، بل اعتمد طريقة فريدة وأسلوبا شيقا متميزا، فهو يعتمد التنويع في عرض الأفكار، والعمق في تحليلها، والسعة في ضرب الأمثال، والشمولية في بسط المضامين العلمية، والوظيفية في إيراد النصوص وسوقها، والتدرج بالقارئ من العام إلى الخاص ومن الخاص إلى العام، ومن الكل إلى الجزء ومن الجزء إلى الكل، ومن الأعلى إلى الأدنى ومن الأدنى إلى الأعلى، وهكذا صيغ مضمون الرسائل في منهج محكم لا يصدر إلا عن خبير متبصر متمرس. فكان هذا أصلا آخر من أصول جمال الفكر النورسي في رسائله.
تلك -إذاً- عشرة كاملة من الأصول التي قام عليها جمال مضمون رسائل النور وأمثلة ذلك وتطبيقاته ترشح به الرسائل، وتنطق صفحاتها وفقراتها وجملها فارجع إلى حيث شئت من هذه الرسائل تجد ذلك أوضح وأجلى في سطورها، وأما ما وراء السطور فإنه أكثر وأقوى.
فما هي ملامح هذا الجمال ومظاهره ومعاقده في رسائل النور لمن أراد أن يتلمسها ويقف عليها ويراها رأى العين؟ إن الجواب عن ذلك هو ما سنراه في المبحث الثاني الآتي.
المبحث الثاني: ملامح جمالية رسائل النور
الحقيقة أن رسائل النور كلها جمال ونور، وكلها بهاء وسناء، وكلها أخاذة بألباب العقلاء. وكما أن أصول هذا الجمال مبثوثة في كل فقراتها، منثورة في جميع صفحاتها، فكذلك ملامحه ورسومه وشخوصه منظورة في كل فقراتها، مرسوخة في جميع صفحاتها، ويمكن تقريب كلياتها، وتقديم قواعدها في الأمور الآتية:
1- الجامعية:
وأعني بها: أن رسائل النور قد صيغت بكلام جامع اقتبس فيها النورسي ذلك واستمده من بلاغة السنة النبوية. فمن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلـم قد أوتي جوامع الكلام، وأنه صلى الله عليه وسلـم يجمع المعاني الكثيرة والأحكام العديدة والحكم البالغة في كلمات وجيزة..كقوله صلى الله عليه وسلـم: "من حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه" وقوله صلى الله عليه وسلـم: "دع ما يربيك إلى ما لا يريبك"، إلى غير ذلك من أمثلة جوامع الكلم عنده صلى الله عليه وسلـم. وقد اغترف النورسي من معين ذلك، واقتبس من أنواره، فجاء كلامه في رسائله متأثرا به، حيث يودع المعاني الغزيرة في كلمات معدودة، ويستطيع القارئ الفاحص الواعي أن يستفيد من السطور وما وراء السطور، ومن ظاهر الكلام وباطنه، ومن منطوقه ومفهومه، استمع إليه -مثلا- وهو يصوغ هذه اللآلئ:
- "إن إحسانا يزيد على الإحسان الإلهي ليس بإحسان.
- إن حبة من حقيقة تفضل بيدرا من الخيالات.
- الاطمئنان والقناعة بالإحسان الإلهي في التوصيف فرض.
- يجب ألاّ يخل بنظام المجتمع من كان داخلا فيه.
- أصل الشيء تبينُه ثمرته.
- شرف الشيء في ذاته لا في نسله."7
وانظر إليه أيضا وهو ينظم هذه الجواهر:
"للّٰه سبحانه وتعالى تجليان -يتجلى بهما على المخلوقات- وهما تجليان شرعيان صادران من صفتين من صفات كماله جل وعلا:
أولهما الشرع التكويني -أو السنة الكونية- الذي هو المشيئة والتقدير الإلهي الصادر من صفة الإرادة الإلهية. والثاني: الشريعة المعروفة الصادرة من صفة الكلام الرباني. فكما أن هناك طاعة وعصيانا تجاه الأوامر الشرعية المعروفة، كذلك هناك طاعة وعصيان تجاه الأوامر التكوينية. وغالبا ما يرى الأول -مطيع الشريعة والعاصي لها- جزاءه وثوابه في الدار الآخرة. والثاني -مطيع السنن الكونية والعاصي لها- غالبا ما ينال عقابه وثوابه في الدار الدنيا. فكما أن ثواب الصبر النصر، وجزاء البطالة والتقاعس الذل والتسفل، كذلك ثواب السعي الغني، وثواب الثبات التغلب، مثلما أن نتيجة السم المرض، وعاقبة الترياق والدواء الشفاء والعافية. وتجتمع أحيانا أواصر الشريعتين معا في شيء.. فلكل جهة. فطاعة الأمر التكويني الذي هو حق، هذه الطاعة غالبة -لأنها طاعة لأمر إلهي- على عصيان هذا الأمر بالمقابل، لأن العصيان -لأي أمر تكويني- يندرج في الباطل ويصبح جزءا منه، فإذا ما أصبح وسيلة لباطل فسينتصر على باطل أصبح وسيلة لحق، وتظهر النتيجة: حق مغلوب أمام باطل! ولكن ليس مغلوبا لذاته وإنما بوسيلته. إذن فالحق يعلو، يعلو بالذات، والعقبى هي المرادة -فليس العلو قاصرا في الدنيا- إلا أن التقيد والأخذ بحيثيات الحق مقصود ولابد منه".8
إن سعيد النورسي يؤمن أن الكلام ثمرة، فيجب ألا تقطف إلا بعد نضجها، ويؤمن أن الكلام النافع هو الذي أشبع حكمة وعلما، لذلك كان كثير الصمت فإذا نطق نطق بالحكمة، وإذا كتب اقتصد في الكلام وأصاب المقصود، شعاره في ذلك: تقليل الحز وتطبيق المفصل. وكما تميز كلامه بالجامعية والاقتصاد، فقد تميز أيضا -تبعا لذلك- بالقصد، فليس في رسائله كلمة إلا وهو يقصد معناها، وليس فيها جملة ولا فقرة إلا وقد أوردها لمقصد شريف، فلا وجود لشيء من الكلام في رسائله من غير قصد، ومن ثم جاء كلامه في رسائله جامعا قاصدا مقتصدا.
2- العفوية:
إن من خصائص كلام رسائل النور وملامح جماله: إرساله على سجية عفوا دون تكلف أو تصنع، ودون تنميقه وترصيعه بالمحسنات والبديعيات إلا ما جاء من ذلك عفوا أيضا، وهذا كان مقصودا عند النورسي، لإيمانه بأن الكلام الحسن والخطاب الجميل هو الذي يرسل على سجيته وعفويته، والمتعود على هذا النحو من الكلام ناجح في كتابته، وقادر على أن يكون غنيا فيها، ولا أدل على ذلك من غنى رسائل النور، فإن من أسباب غناها: هذه الصفة الجيدة -العفوية- التي كان يدعو إليها النورسي ويحب طلابها ولأجلها مدح اثنين من طلابه وأدرج ما كتباه في الرسائل في صدر كتاب الملاحق، وعلل ذلك بخمسة أسباب، جاء في السبب الثاني منها قوله:
"هذان الأخوان المحترمان لم يكونا على علم من أن هذه الفقرات ستنشر، وإن عدم معرفتهما هذا جعلهما بعيدين عن التكلف والتصنع، فجاءت كتاباتهم في غاية الإخلاص، تلك التي تعبر عما تتحسسه مشاعرهم وأرواحهم من مراتب الذوق تجاه الرسائل، وتبين في الوقت نفسه أشواقهم نحو الحقائق الإيمانية، لذا ليس إعجابهم وتقديرهم من قبيل التقاريظ المعروفة، بل هو تعبير صادق لا مبالغة فيه عما لمسوها من حقيقة وذاقوها فعلا."9
ورسائل النور كلها جاءت على عفوية صاحبها، وحررت على سجيته، ونبعت من فطرته، فكان ذلك مظهرا من مظاهر جمالها، وملمحا من ملامح حسنها وبهائها.
3- التشخيص والتمثيل:
لقد اهتم النورسي في رسائله غاية الاهتمام بإبراز المعنى وإبلاغه للمتلقي ولم يأل جهدا في السعي إلى أن يحصل بها الإفهام والتفهم، ويتحقق بها البيان والتبيين، وكان من أهم أدواته في ذلك تشخيصه المعاني، وإقباله على التصويرات القوية، والتشبيهات البليغة الفطرية، والتمثيلات العالية، التي يتقرب بها المعنى، ويتجلى بها المراد ويوصل معها إلى المطلوب، ويدرك المقصود. انظر إليه -مثلا- وهو يسكب إليك هذا العذب الزلال:
"إن قلت إن في القرآن الموجز المعجز أشياء مكررة تكرارا كثيرا في الظاهر، كالبسملة، و "فبأي آلاء" الخ و "ويل يومئذ" الخ، وقصة موسى وأمثالها، مع أن التكرار يمل وينافي البلاغة.
قيل لك: "ما كل ما يتلألأ يحرق"، فإن التكرار قد يمل لا مطلقا، بل قد يستحسن وقد يسأم، فكما أن في غذاء الإنسان ما هو قوت كلما تكرر حلا وكان آنس، وما هو تفكه إن تكرر مل، وإن تجدد استلذ، كذلك في الكلام ما هو حقيقة وقوت وقوة للأفكار وغذاء للأرواح، كلما استعيد استحسن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس، وفيه ما هو من قبيل الزينة والتفكه، لذته في تجدد صورته وتلون لباسه.. إذا عرفت هذا فاعلم أنه كما أن القرآن بمجموعه قوت وقوة للقلوب لا يمل على التكرار بل يستحلى على الإكثار منه، كذلك في القرآن ما هو روح لذلك القوت كلما تكرر تلألأ وفارت أشعة الحق والحقيقة من أطرافه، وفي ذلك البعض ما هو أس الأساس والعقدة الحياتية والنور المتجسد بجسد سرمدي كبسم اللّٰه الرحمن الرحيم. فبهذا شاور مذاقك إن كنت ذا مذاق".10
4- التأثير:
وهو من أبرز ملامح الجمال في رسائل النور، لأن قارئها إذا أقبل عليها بإخلاص وانكب عليها بصدق، لابد أن يتأثر بها غاية التأثر، ويصحبه التأثر في كل فقرة من فقراتها، وبقدر ما كان من حسن إقباله عليها تجدد تأثره بها وقوي في نفسه، وجذبه إليها بقوة، وأحدث له في قلبه شغفا بها، وأورثه حبها والتجاوب معها. ولا ينبئك مثل خبير.
5 و 6- الدقة والعمق:
إن المتأمل في رسائل النور لابد أن يقف فيها على هاتين الصفتين، لابد أن يقف فيها على دقة التصوير، ودقة العرض، ودقة التناول والتحليل، ودقة الاستنتاج، ودقة الحوار، ودقة التأصيل، ودقة التفريع، كما أن المتأمل فيها لابد أن يقف على عمق معانيها، وعمق إشاراتها، وعمق مقاصدها، وعمق تقريراتها، وعمق قواعدها وجزئياتها، وعمق معانيها، وعمق إشاراتها، وعمق مقاصدها، وعمق تقريراتها، وعمق قواعدها وجزئياتها، وعمق تعليلاتها وتدليلاتها، وعمق أمثالها وتشبيهاتها، وعمق سائر مضامينها ومداليلها. فرسائل النور قوامها الدقة، وعمدتها العمق في كل وحدة من وحداتها وفي كل جزء من أجزائها، ومنشأ ذلك من عمق فكر النورسي ودقة تصوره واستيعابه، ونباهته وفطانته التي اكتسبها من صدقه وإخلاصه في علمه وعمله. ومرده أيضا إلى طول عكوفه على القرآن الكريم، فمنه تعلم هذه الدقة والعمق وغيرهما. انظر إليه -مثلا- وهو يأخذ بيدك إلى تلمس معاني القرآن والوعي بدلالة آياته وأخذ ذلك بجدية والتفطن في كل آية من آياته إلى ما تحمله من معنى عميق، ومبنى دقيق، يقول:
"إن الشارع سبحانه وتعالى قد وضع سكته وختمه المعتمد على كل من أحكام الشرع، ولابد من قراءة تلك السكة والختم، فذلك الحكم مستغن عن كل شيء سوى قيمته وسكته، فهو في غنى عن تزيين وتصرف الذين يلهثون وراء المبالغين والمغالين والمنمقين للفظ، وليعلم هؤلاء الذين يطلقون الكلام جزافا كم يكونون ممقوتين في نظر الحقيقة في نصحهم الآخرين. فمثلا لم يكتف أحدهم بالزجر الشرعي لتنفير الناس عن المسكرات فقال كلاما أمام جمع غفير من الناس أخجل من كتابته وقد شطبته بعد كتابته.."11
فتأمل كلامه المشرق كيف قرر فيه أن البعد عن الدقة والعمق وتجافي الجدية، وبلادة الحس، وبرودة الوعي والإدراك، كل ذلك يورث المبالغة والغلو في الكلام وفقدان مصداقيته وقيمة دلالته.
7- الشمولية:
فقارئ رسائل النور يحس أنه في حديقة غناء وأنه في روض أنف، يتنقل بين أزهاره ووروده، يقتطف من ألوان ثماره، ويستنشق عبير رحيقه، لا يستقر في فكره إشكال معرفي إلا وجد توضيحه فيها، ولا يتلجلج في صدره سؤال علمي إلا وجد جوابه فيها، ولا يستصعب مسألة إيمانية أو تربوية إلا وجد تقريبها وتيسيرها فيها. فهي رسائل شمولية العطاء، متنوعة المعارف، مختلفة الفوائد، فيها أصول وفروع، وكليات وجزئيات، وقواعد وضوابط، وفيها كنوز علمية، ومغانم معرفية، وأضواء ثقافية، وقطوف شهية، وروائح ذكية، وقد استمد صاحبها شموليتها هذه من القرآن الكريم، وتعلمها من منهجه الفريد وطريقته الفذة، ومنحاه المعجز في عرض الدروس والعظات، وتقديم الأحكام والحكم، والمقاصد والعلل، ففي القرآن الكريم كل ما تطمح إليه النفس المطمئنة من كمالات، ويسمو إليه الفكر الراشد من توجيهات وإرشادات، فيه علم وتربية، ومعرفة وموعظة، فيه قصص وأمثال وحكم، وفيه ترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وفيه ما يزكي النفس، ويصلح القلب ويطهر الروح ويقيم البدن ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾الأنعام:38 فمن هذه الشمولية القرآنية المعجزة، اقتبس النورسي شمولية رسائله.
8- النفع والفائدة:
من مظاهر جمال رسائل النور: إنك إذا أعطيتها من فكرك ووعيك، وركزت النظر فيها والاستبصار في محتوياتها خرجت منها بنفع عظيم، وخير عميم، ينعكس على قلبك وفكرك، وفصلت عنها بكثير الفائدة، وغزير العائدة، في العلم والمعرفة والتربية وفقه الدعوة وكيفية صياغة الأنفس على الإيمان والربانية والقرآنية.
9- الواقعية والعملية:
إن رسائل النور ليست فلسفية محضة، ولا نظرية صرفة، ولا تجريدية خالصة، ولا هي موغلة في الصوفية الخيالية السلبية، بل هي رسائل حية، مليئة بالحرارة الإيمانية والطاقة العلمية، حافلة بالمادة المعرفية المشبعة، محركة للمشاعر، مؤثرة في العقل والقلب، موجهة لقارئها نحو الرشاد، وآخذة بيده إلى التي هي أقوم. وإنما جاءت كذلك لأن خطابها واقعي، ومضمونها عملي، ومنهجها تطبيقي، صالح للتنـزل، وهي مستمدة ذلك أيضا من القرآن الكريم الذي كل ما فيه من المعاني والأحكام والقيم إنما جاء لينـزل على واقع الناس ويطبق في حياتهم، ويلتزم به في أمورهم كلها.
10- التدرج والتنويع في الكلام:
هذا مظهر آخر من مظاهر الجمال في رسائل النور، وهو أنك تجد مضامينها تعرض بوجوه كثيرة، وأساليب مختلفة، ليحصل الإدراك، ويقع الفهم، ويتحقق عند القارئ فقه معانيها وأسرارها، فكثيرا ما يبتدئ الكلام فيها بفقرات تبدو غامضة صعبة المنال عسيرة التحصيل، ثم يعقب ذلك تدرج في الكلام وتنويع في معاقده، وانتقال فيه من المجمل على المفصل، ومن المجرد إلى المشخص الممثل، ومن البعيد إلى القريب، ومن الممتنع إلى السهل، حتى ينتهي إلى تفهمه وتبيينه ويصل إلى حيز الإدراك والتحصيل، فيشعر القارئ بعد ذلك بلذة لا مثيل لها، ونشوة لا نظير لها، فانظر -مثلا- إلى صاحب الرسائل وهو يتحدث عن الثمرة الأولى من المقام الأول من الشعاع الثاني:
"إن الجمال الإلهي والكمال الرباني يظهران في التوحيد وفي الوحدانية، ولولا التوحيد لظل ذلك الكنـز الأزلي مخفيا. نعم إن الجمال الإلهي وكماله الذي لا يحد، والحسن الرباني ومحاسنه التي لا نهاية لها، والبهاء الرحماني وآلاءه التي لا تعد ولا تحصى، والكمال الصمداني وجماله الذي لا منتهى له، لا يشاهد إلا في مرآة التوحيد، بوساطة التوحيد ونور تجليات الأسماء الإلهية المتمركزة في ملامح الجزئيات الموجودة في أقصى نهايات شجرة الكائنات. فمثلا: إن إرسال اللبن الخالص السائغ إلى رضيع صغير لا يملك صولا ولا قوة، ومن حيث لا يحتسب، من بين فرث ودم، فعل جزئي، هذا الفعل الجزئي ما إن ينظر إليه بنظر التوحيد يظهر الجمال السرمدي لرحمة الرحمن بأبهى كماله وبأجلى سطوعه في إعاشة جميع الصغار في العالم، إعاشة خارقة، وفي إحاطتهم بمنتهى الشفقة والحنان، بتسخير والدتهم لهم، ولكن هذا الفعل -فعل إرسال اللبن- إن لم ينظر إليه بنظر التوحيد لاختفى ذلك الجمال الباهر كليا، ولما ظهر قطعا، إذ تحال تلك الإعاشة الجزئية كذلك إلى الأسباب والمصادفة والطبيعة، فتفقد قيمتها كليا، بل تفقد ماهيتها. ومثلا: ما ينظر إلى الشفاء من مرض عضال بنظر التوحيد، يتجلى جمال شفقة الرحيم تجليا باهرا كاملا على وجه إحسان الشفاء إلى جميع المرضى الراقدين في المستشفى الكبير المسمى بالأرض، وإسعافهم بأدوية ناجعة، وإغاثتهم بعلاجات شافية تؤخذ من الصيدلية العظمى المسماة بالعالم، ولكن هذا الفعل الجزئي -منحه الشفاء- المتسم بالعلم والبصيرة والشعور، إن لم ينظر إليه بنظر التوحيد فإن الشـفاء يسـند إلى خاصيات الأدوية الجـامدة، وإلى القوة العمياء والطبيعة الصماء، فتفقد تلك المنحة الرحمانية ماهيتها وحكمتها وقيمتها كليا".12
فهذه أيضا عشرة كاملة أخرى من ملامح الجمال ومظاهر الحسن والبهاء في رسائل النور.
خاتمة:
ومن خلال هذه الملامح وأصولها السابقة يتضح لنا أن رسائل النور قائمة في مضمونها على الجمال، ومنبنية في محتواها على الحسن والبهاء، وأنها قد اكتسبت ذلك من جمال القرآن وبهاء الإيمان ورونق الهدى. وهذا يؤكد ما قررناه سابقا من أنها مؤسسة على الرسالية والنورية، فنوريتها جمال، ورساليتها جلال.
فيا هذا أقبل على هذه الرسائل فهي لسان صدق في الآخرين، واقتبس من أنوارها فهي وضاءة لألأة، واغترف من معينها فهي فياضة رقراقة. أقبل على هذه الرسائل واستمد من نورها الذي أوقده محررها بفتيل قلبه وزيت دمه.
رسـائل نور أشرقت برحابيـــا ...... وأعلنت كيـاني في عنان سمائيـا
أمدت شعوري بالجلال، وجـذوة... من النـور لألاء أزاح ظلاميـا
وغذت فؤادي بالجمـال مرقرقــا..... فآثاره في الفكر يجلو الدياجيـا
وتنفي قبيح القول والفعل بالهــدى... ونور محياها فيـرتد راقيـا
وأذكت بروحي رفعة وكرامــة...... ترقت بها نحو السماء حيانيـا
سقتني بأكواب الشفاء رضابهــا... فطهرت اسقامي بعذب دوائيـا
أفاضت بفكري من بديع كنـزهـا.. فصار قويا بعد ما كان واهيـا
وأضحى لساني شاديا بنشيدهـــا... ولم يك من قبل الرسائل شاديـا
وأيقنت أن النور من جنباتـهـا..... يشع على الآفاق يسطع هاديـا
وينفذ للأعماق يودع ســـره.......... لديها ، فتنساب المعاني سواقيـا
رسائل نور قد أحطت بساحتــي.. فأحيت مواتي واستطبت هوائـيـا
فطوبى لمذكيها بديع زمانــه....... وأزكى تحيات تفوح غواليـا
* * *
الهوامش:
1 رئيس جامعة القرويين، المغرب
2 الملاحق: ملحق بارلا ص: 70.71
3 الملاحق: ملحق قسطموني: 220-221
4 الملاحق : ملحق قسطموني : 222-223
5 السنة النبوية مرقاة ومنهاج ص: 13-14
6 صيقل الإسلام: محاكمات عقلية ص: 22-23
7 صيقل الإسلام: محاكمات عقلية: 39
8 من الكلمات انظر: بديع الزمان النورسي: نظرة عامة عن حياته وآثاره لإحسان قاسم الصالحي. ص: 246-247-248
9 الملاحق: ملحق بارلا ص: 13
10 إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز ص: 39
11 صيقل الإسلام: محاكمات عقلية ص: 47
12 الشعاعات ص: 8