
الإنسان والقيم عند ابن خلدون
- ABSTRACT -
Man and His Values According to Ibn Khaldun
Su'ad Dufani
Ibn Khaldun excelled in the science of histography. Thus, his name is connected to it. His writings and theories formed an epistemological revolution in his era as they oversaw future circumstances for a new emergence of a novel civilization. His monotheistic theological background and his references, the Qur'an and Sunnah (the prophetic tradition) had assisted him in his efforts. His image of human nature focused on the psychological and epistemological factors. In addition, he paid attention to the concept of human instinct throughout all its levels, as well as the humanitarian impulse to gather and cooperate in order to achieve worldly and eschatological interests. Moreover, he referred to the impact of values on human behavior on individual and collective levels. He also referred to decadence as according to the Qur'an; noting its devastating effects on man and civilization, as it is considered a source of all kinds of corruption. Religion was significant to him. He indicated the role of religion in the advancement and revival of nations. He warned against sectarianism and its impact on religious trends and cautioned against deviant Sufism. On the other hand he encouraged authentic Sufism. The Muslim nation needs his thoughts on this subject as it still requires more research and clarification regarding many aspects of it. It is important to take advantage of it and activate it in order to find solutions for existing problems that are increasingly exacerbated by the passage of time.
* * *
- ملخص البحث -
سعاد دوفاني1
أبدع ابن خلدون علم العمران البشريّ فارتبط به، وكان ثورة معرفيّة تجاوز بها الرجل عصره، ونظّر لعصور لاحقة لتكون بحوثه أسس لانطلاق دورة حضاريّة جديدة. ساعده في ذلك خلفيّته العقديّة التوحيديّة، ومرجعيّته المتمثّلة في الوحي قرآنا وسنّة، وقد ركّز في تصوّره للطبيعة الإنسانيّة على العوامل النفسيّة والمعرفيّة منه، موظّفا في ذلك مفهوم الفطرة في مستوياتها المختلفة، ثمّ الدافع الإنسانيّ على الاجتماع والتعاون لتحقيق المصلحة الدنيويّة والأخرويّة، وتأثير القيم في السلوك الفردي والجماعيّ، دون إهمال إشارته إلى الترف وفق نظرة قرآنيّة بحت مبيّنا آثاره المدمّرة للإنسان والحضارة، إذ يعتبره مصدرا لكلّ ألوان الترف والفساد. وللفكرة الدينيّة أهميّتها عنده وبيان دور الدين في نهوض الأمم وانبعاثها من جديد، وتصدّيه للطرقيّة أو الصوفيّة المنحرفة، وتشجيعه للتصوّف السنيّ لنخلص إلى حاجة الأمّة إلى هذا الفكر الخصب، والذي لا يزال بكرا في جوانب كثيرة منه للإفادة منه بإحيائه وتفعيله لإيجاد حلول المشاكل القائمة والتي تزداد تفاقما بمرور الزمان.
* * *
مقدّمة:
لقد ارتبط ابن خلدون بعلم العمران البشري وارتبط علم العمران به، فحين اكتشف هذا العلم حاول توظيفه في معالجة قضايا متعدّدة تمثّلت في تطهير علم التاريخ من الأباطيل، وإعادة هيكلة علوم العمران البشري، وتصحيح المسارات التاريخيّة لبعضها وتحليل مكوّنات النظام السياسي، وطرح نظريّة إنسان الخلافة، والتنظير لحركة الحضارة الإنسانيّة وبيان السّنن الإلهيّة التي تتحكّم فيها. وقد تركّزت جهود الباحثين في تتبّع سمات عبقريّة ابن خلدون، والتي ميّزت أعماله وبدت جليّة في آثاره وكتبه، وجعلتها متميّزة عن غيرها، بل وجعلته يسبق عصره، وينظّر لعصور لاحقة، ويظهر ذلك في علم العمران المتميّز في الأسلوب والطّرح والمنهج المتتبّع والنتائج المتوصّل إليها، وقد حصرها بعضهم في الملامح الشخصيّة لابن خلدون كحدّة الذكاء، وغزارة الحفظ وإلمامه بالعلوم المختلفة التي سادت عصره، والتي كانت قبله، دون إهمال جدّه واجتهاده، ولا أثر البعد الديني في هذا الإبداع، وهو بعد حاضر في سيرة الرجل علما وسلوكا ومعرفة.
وحصرها بعضهم في الظروف الخارجة عن شخصيّة ابن خلدون، كما يرى طه حسين في تفسيره للطّفرة الخلدونيّة في كونها راجعة إلى نسبة التراكم المعرفي الذي شهده عصره ونوعيّته، حيث يرى أنّ نجاح ابن خلدون في إخراج المقدّمة بالصّورة التي امتازت بها كان ممكنا بفضل التراكمات العلميّة الهائلة التي حقّقها المسلمون في المجالات المختلفة، لاسيما في مجالات: التاريخ، والجغرافيا، والفقه وأصوله، والتفسير، وغيرها...
ولم يتوقّف طه حسين عن هذا التّعليل، بل قلّل من أهميّة العوامل الذاتيّة والشخصيّة التي يتمتّع بها ابن خلدون مثل الذكاء، الاجتهاد، دقّة الملاحظة وحدّة الحفظ، إذ أنّ ما حقّقه ابن خلدون لا يعدو أن يكون مجرّد نتيجة طبيعيّة لذلك التراكم المعرفي الهائل الذي حصل في عصره، ولا علاقة له بالعبقريّة الخارقة.
ولم يكن طه حسين بدعا من الذين حاولوا تقزيم الفكر الخلدونيّ، بل كان منهم كثير مـمّن أكملوا هجمات المستشرقين على هذا الفكر، فمنهم من عزا هذا التميّز إلى المحيط العائلي أو الأسرة، أي أسرة ابن خلدون التي تقلّبت بين الرئاستين: العلميّة والسلطانيّة، وهما الشرطان الحاسمان اللّذان ولّدا لديه نزعة قويّة في حب الجاه والمنصب، ممّا كان له الأثر الظاهر في إنتاجه للمقدّمة.2
ولست في هذا المقال متتبّعة لما قيل حول الفكر الخلدوني وما أنتجته الدّراسات المختلفة إلّا من باب عرض مقدّمات ستساعد على استجلاء حقيقة هذا الفكر العبقريّ، ولا أغادر هذه الفكرة حتّى أعرض بعض الآراء المنصفة للرّجل وفكره، من الذين قدّروا عمله وأعجبوا بشخصيّته وعلى رأسهم لسان الدّين بن الخطيب المتوفّي سنة 776 هـ والذي وصفه بـ: "الرجل الفاضل، حسن الخلق، جمّ الفضائل، باهر الحصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس خاصّ الزي، عالي الهمّة عزوف عن الضّيم، صعب المقادة قويّ الجأش، طامح لقنن الرياسة، خاطب للحظّ، متقدّم في الفنون العقليّة والنقليّة، متعدّد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصوّر، بارع الخطّ، مغري بالتجلّة جواد الكفّ، حسن العشرة مبذول المشاركة، مقيّم لرسوم التّعيين، عاكف على رعي خلال الأصالة، ومفخرة من مفاخر التّخوم المغربيّة".3
وكذلك تلميذه تقيّ الدّين المقريزي (766-845هـ) كان يدعو ابن خلدون بـ: "شيخنا العالم العلّامة الأستاذ قاضي القضاة"، وقد وصف المقدّمة وصفا يدلّ على أنّه من قرّاء ابن خلدون الأوائل، الّذين انتبهوا إلى عبقريته والإبداع الذي تميّزت به أعماله، وهذا ما يمكننا استنتاجه من قوله فيها: "... مقدّمة لم يعمل مثلها، وإنّه لعزيز أن ينال المجتهد منالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم، ونتيجة العقول السّليمة والفهوم، توقف على كنه الأشياء، وتعرّف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبّر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كلّ موجود، بلفظ أبهى من الذرّ النظيم وألطف من الماء إذا مرّ به النّسيم".4
هذه بعض وجهات النّظر لدى الباحثين في تفسير ملامح شخصيّة ابن خلدون، ودراسة فكره وتراثه، لتعطينا صورة ولو موجزة عما قيل حول الفكر الخلدونيّ، وتمهّد لما ستدور حوله هذه الورقة البحثيّة.
والذي تجدر الإشارة إليه أن هذا العلم الذي أبدعه ابن خلدون من فلسفة كونيّة توحيديّة، حاولت الدراسات الكثيرة والتي يطبعها الفكر المادّي والتوجّه الإستشراقي، إجتثات هذا العلم من جذوره الإسلاميّة وطبعه بطابعها اعتمادا على تقنيّات بحث توصل إلى قراءة أحاديّة للنّص الخلدوني الذي كان منيعا، جعل عزله عن أصوله التوحيديّة الإسلاميّة مستحيلا. ومن جهة أخرى كانت الدراسات العلميّة الإسلاميّة للفكر الخلدونيّ ضئيلة، والجهود حولها من الشحّ بما جعل الأمّة الإسلاميّة لا تفيد من علم شامخ كعلم العمران الخلدوني وهو كفيل بالتّعجيل على إيجاد الحلول والمساعدة على النّهوض.
والبحث سيحاول الإجابة على الأسئلة التّالية:
ما موقع الإنسان في الفكر الخلدوني؟ وما الأثر المعرفي في تحديد تصوّراته حول الإنسان؟ وكيف يمكن استخراج وتفسير فهمه للعمران البشري، الإنسان والقيم، والعلاقة التي تربط بعضها ببعض؟ ثمّ ما علاقة الترف بالعمران حسب الفكر الخلدوني؟
يشغل موضوع الإنسان في المقدّمة حيزا يجعله مدار جهود ابن خلدون في معظم أبحاثها ترشّحه ليكون المحور فيها، إذ حاول الإجابة على إشكاليّة العمران البشريّ منشئا لذلك أسس الاجتماع البشريّ والذي يكون الإنسان فيه أصلا باعتباره لبنة المجتمع، وهو بذلك يحدّد أحد أركان الرؤية الكونيّة التوحيديّة، وهو الإنسان، ويدرجه ضمن نسق فكري مبدع لتتركّز الجهود حوله والوصول به إلى الإنسانيّة المطلوبة والتي تتحدّد على مقدار العبوديّة والقيام بالدّور الاستخلافي المطلوب منه والذي خلق لأجله، ويركّز ابن خلدون على الفطرة، وهو يدعو إلى ممارسة الفكر الطبيعي، والمقصود منه هو الفطرة الأولى والتي سيأتي بيانها.
أ- الفطرة الأولى:
وهي كما يتصوّرها ابن خلدون خلقة زوّدها الله تعالى باستعداد للهداية الإلهيّة تمكّن الإنسان متى توفّرت الشروط، من التكيّف والتفاعل مع محيطه الخارجي ومؤثّراته المختلفة، وحسب ابن خلدون، فالإنسان الذي يكون على الفطرة، أكثر استعدادا لقبول الخير ونبذ الشرّ، إذ يقول فيمن كان على الفطرة: "كان أسهل لقبول الملكات وأحسن استعدادا لحصولها، فإذا تلوّنت النفس بالملكة الأخرى خرجت عن الفطرة، وضعف فيها الاستعداد باللّون الحاصل من هذه الملكة، فكان قبولها للملكة الأخرى أضعف، وهذا بيِّنٌ يشهد له الوجود".5 ونفهم من كلامه أنّ الفطرة عنده تمثّل القابليّة الذاتيّة والميل الطّبيعي الذي زوّد به الإنسان، والذي يدفعه إلى التصرّف بانسجام مع النظام العام الذي بثّه الله في الإنسان والكون.
وهذه الخلفيّة العقديّة والتي تعود بابن خلدون إلى الاعتماد على الوحي، ساعدته على فهم سلوك الإنسان في مجالاته المختلفة، كالمجال السياسي والتربوي والاقتصادي وفق نظرة شاملة تتكامل أجزاؤها لتعطي تصوّرا كلّيا حول مسألة الطبيعة الإنسانيّة، في هذا دلالة على أنّ ابن خلدون ركّز تفسيره على الجوانب النفسيّة والمعرفيّة من الإنسان، معتمدا على الجوانب التي تمثّل القوّة الإدراكيّة وتبيّن حقيقة قانون السببيّة الذي ينبغي أن يستقرّ في وعي الإنسان.
واهتمام ابن خلدون بالفطرة راجع إلى تنبّهه إلى دورها، إلى جانب الإرادة الإنسانيّة والعقل في صياغة المجال الموضوعي والشروط الأساسيّة لتجلّي ذلك القانون في تفسير سلوك الإنسان أو في الظواهر الطبيعيّة المحيطة به، أو في تمحيص الأخبار وتتبّع حركة التاريخ.
وقد وظّف ابن خلدون مفهوم الفطرة في مجالات شملت العقيدة وعلم الكلام، حيث نجده يرتب عليها الخصوصيّة التي تمكّن النبيّ من الاتصال بالعوالم العلويّة واستقبال الوحي، إذ أنّ النبيّ مؤهّل بفطرته إلى هذا الاتصال والذي لم يكن لسواه من البشر العاديّين.
وكذلك وظّف مفهوم الفطرة في مجال العمران، ويظهر ذلك فيما ذكره من فروق بين العمران البدوي والعمران الحضري، رتّبها على بقاء النّفس على "الفطرة الأولى" أو تلوّنها، معلنة بذلك مخالفة ملكات الخير والصّلاح والنزوع إلى الشرّ والفساد والترف المفسد للعمران.
واختياره لمصطلح الفطرة يظهر تأثّره بالمصطلح القرآني، الذي مكّنه من الدقّة والوصول إلى الهدف الدّلاليّ المراد من جهة، ومن جهة أخرى يكون إدراجه في خطابه العلمي خير معين له على تسليط الضوء على قانون السببيّة ضمن الشروط الإنسانيّة، ووفق النظرة الكونيّة التوحيديّة.
ب_ المصلحة المشتركة:
هي الدّافع للإنسان على "الاجتماع" وبالتالي وجوب التعاون على تحقيقها. وقد أبدع ابن خلدون في توسيع المصالح والخروج بها عن الماديّة الضيقة التي حاول أنصار الفكر المادّي والمستشرقون ومن سار على نهجهم من المفكّرين المسلمين أن يطبعوا بها فكره، إذ نجد ابن خلدون يوضّح في قضيّة المصلحة أنّها تتوسّع وتخرج عن كونها مصلحة دنيويّة محدودة، بل ويؤكّد أنّ المصلحة إذا كانت كذلك فهي عاجزة وحدها عن التأليف والجمع بين الناس، بل لا بدّ أن يكون المقصد أسمى وهو غاية المقاصد كلّها، نيل رضوان الله وتوفيقه، وهذا لا يتأتّى إلّا إذا كانت المصلحة المقصودة متجاوزة للمعنى الحياتيّ الضيّق إلى المعنى الإيماني الواسع، يقول ابن خلدون: "القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدّنيا، حصل وفشى الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحقّ ورفضت الدنيا والباطل، وأقبلت على الله، اتحدت وجهتها، فذهب التّنافس وقلّ الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتّسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة". والملاحظ أنّه بنى رأيه هذا على قوله تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلٰكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.الأنفال:63
ونلاحظ أيضا أنّ ابن خلدون قصد بالمصلحة المشتركة تلك التي يثبتها الشرع وينأى بها عن الذاتية والنفعيّة القريبة حتى لا تصبح معرقلا للإنسان، وعائقا أمامه في بناء المعرفة الصحيحة القائمة على معايير الوحي، والتي تتحقّق بالاجتماع المساعد على تبادل المعارف ونموّها من خلال التّفكير والاجتهاد الجماعي ثمّ إنّ المصلحة المقصودة تكتسب صفة الشرعيّة التي تجعلها بالضرورة متوجّهة نحو الآخرة.
جـ _ القيم وتعدّدها:
أشار ابن خلدون إلى مسألة هامّة تدلّ على فهمه للشخصيّة الإنسانيّة وإدراكه لأبعاد المؤثّرات الخارجيّة والداخليّة فيها، ليفسّر لنا السلوك الفردي والجماعي، وتاريخ نشأة المجتمع وأنماطه، وأسباب زواله وانهياره من خلال عقده المقارنة بين شخصيّة الإنسان البدوي والإنسان الحضري، من حيث بيان الفروق بين الشخصيّتين وأثرها، وأنّه لكلّ واحدة منها إيجابيّات وسلبيّات، فمن مميّزات الشخصيّة البدويّة بساطة العيش بالاعتماد على الضّروري منه في المأكل والملبس والمسكن والعادات، وهذا راجع إلى ترتيب الأولويّات، فالضروريّ أشدّ إلحاحا من الحاجي والكمالي، والبدويّ بحكم بساطة الظروف التي ينشأ فيها لا يتطلّع إلّا إلى الضروريّ منها، ما ينعكس على طبائعه وسلوكاته في ميله إلى الخير وبعده عن الفساد والشرّ، يقول ابن خلدون: "وسببه أنّ النّفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيّئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شرّ، قال صلى الله عليه وسلم: 'كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه'،6 بقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر، ويصعب عليها اكتسابه. فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير، وحصلت لها ملكته بعُد عن الشرّ، وصعب عليه طريقه، وكذا صاحب الشرّ إذا سبقت إليها أيضا عوائده".7 وهذا الاستنتاج يظهر فيه أثر القرآن الكريم في طريقة تفكير ابن خلدون خاصّة في تصوّره للعقل ووظيفة التّفكير والتعقّل من حيث كونه وعي يستقرّ في نفس الإنسان ويدفعها من خلال القوى التي أودعها الله فيها، وتترجمها إلى معارف مختلفة. ثمّ يشير إلى الشخصيّة الحضريّة وما تعانيه من ضغوط العمران، وفنون الملذّات، والإقبال على الدّنيا والانشغال بشهواتها، تنعكس على نفسيّته وتميل بها إلى التلوّث والفساد بهذه المظاهر الضاربة في سقط المتاع، ممّا يصطلح عليه ابن خلدون بـ "النّفس المتلوّنة" وهي التي خرجت عن "النفس السليمة" التي بقيت على الفطرة، والميل إلى الخير، أمّا النّفس المتلوّنة فنجدها أشدّ ميلا إلى الشرّ والفساد، يقول ابن خلدون "وأهل الحضر، لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ، وعوائد التّرف والإقبال على الدنيا، والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوّثت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشرّ، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه، بقدر ما حصل لهم من ذلك".8 وهذه المقارنة بين الشّخصيّتين هي في الحقيقة مقارنة بين نموذجين داخل المجتمع، وليست مقارنة بين حالتين فرديّتين عابرتين، لا سيما أنّ القرآن الكريم ذكر التّرف الذي هو سبب فساد الأفراد والمجتمعات بفساد شبكة العلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات.
د _ التّرف:
تعرّض القرآن الكريم في آيات عديدة إلى أوضاع الأمم والأقوام السّالفة، مبيّنا عبر القصص القرآني دورها في حركة التاريخ، وأثرها فيه إيجابا وسلبا، من خلال عرض الأفعال والأحداث والقيم الأخلاقيّة والاجتماعية التي مارسوها أفرادا وجماعات ليكون في قصصهم عبرة لمن بعدهم، ولا يخفى على أحد انفراد القرآن الكريم بالصّدق والواقعيّة والحقّ دون غيره من كتب الوحي الأخرى، زيادة على انفراده بمنهجه وإعجازه، ولا غرابة فهو كتاب الله وقول الحقّ الذي جاء به سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وأمرنا أن نحسن قراءته والانتفاع به لأنّه دستور حياة ومنهج حضارة وسبيل فوز ونجاة في الدنيا والآخرة.
وقد عرض من خلال القصص نماذج تصلح لأن تكون مثالا أعلى، وهي نماذج أبلى أصحابها بلاءً حسنا في خطّ الإصلاح والدّعوة إلى الحقّ والخير وتبصير العباد بدعوتهم إلى الله وإلى ما يوصلهم إلى الرقيّ والتقدّم والحضارة الإنسانيّة. ونماذج أخرى تصلح أن تكون المثل المنحطّ الذي غرق أهله في الفساد والانحراف والضلال، أدّوا بأنفسهم وأقوامهم إلى الدّمار والهلاك، وكانوا بذلك معرقلين لحركة التاريخ والمسيرة الإنسانيّة فاستحقّوا عقاب الله وإفناءهم، لتستمرّ الحياة البشريّة بعدهم، وليكونوا عبرة لمن بعدهم إن فتحوا أبصارهم وبصائرهم ولاحظوا سنن الله في الخلق وسبب دمار وفناء هذه النّماذج ويجنّبوا أنفسهم وأقوامهم هذا المصير المخزي. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِۖ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.الروم:19
وما ذكر القرآن قصصهم إلّا لفائدة من يتدبّرها ويستخلص منها الحكم والمواعظ ويصحّح بها الانحرافات لعدم دفع الثّمن مكرّرا بسبب الغفلة، يقول عبد الرّحمن النحلاوي عن المواعظ ودورها أنّها "تربّي العقل على التّفكير المنهجي والبحث عن الأسباب والغايات، لوجود الإنسان، وعن مهمّته وأهدافه، فيصبح واعيا لما يعمل مستقيما على الحقّ، يعمل لما خلق له جادّا في كلّ أموره، يوظّف كلّ سلوكه وتصرّفاته".9
والتّرف من السلوكات الخطيرة التي حذّر منها القرآن الكريم وبين عاقبة المترفين ومكانتهم الوضيعة عند الله تعالى والتي يجب أن يتمثّلها النّاس عندما يقرأون قصصهم ويتمعنّوا في هذا الصّنف من النّاس -أي المترفون- وما جنوه على أنفسهم من الضّياع والتنكّب عن الصّراط المستقيم، ثمّ ما جرّوا إليهم أقوامهم ومجتمعاتهم من العقاب والدّمار بسبب ما اتّصفوا به.
يعتبر ابن خلدون التّرف مصدرا لكلّ ألوان الشرّ والفساد لأنّه انحراف عن الفطرة السّليمة، ومخالفة لمقتضياتها، يقول: "فالتّرف مفسد للخلق بما يحصل في النّفس من الشرّ والسفسفة، وعوائدها -كما يأتي في فصل الحضارة- فيُذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلا عليه، ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشرّ، فتكون علامة على الإدبار والانقراض، بما جعل الله من ذلك في خليقته، وتأخذ الدّولة مبادئ العطب، وتتضعضع أحوالها، وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها".10 وهو بذلك يحدّد أحد أهمّ أسباب سقوط المجتمعات والحضارات، بما يخلقه من أمراض اجتماعية مزمنة تؤول بالعمران البشري إلى الانهيار بكثرة الشرور وشيوع ألوان الانحراف، والتنكّب عن سنن الله في العمران المتوازن، ومجانبة الصّراط السويّ، والهدي الإلهيّ، يقول: "والشرّ أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذّبه الإقتداء بالدين، وعلى ذلك الجمّ الغفير إلّا من وفّقه الله".11 وإشارة ابن خلدون لخطورة الترف وآثاره المدمّرة إنّما هي ثمرة إستفادها بعد النّظر والتحقيق، وتوظيف مصادر الوحي، وتتبّع الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة واستغلال كليّاتها وسنن الله فيها، للتوصّل إلى تحليل الظواهر واستنتاج القوانين والأحكام التي ضمّنها مختلف مؤلّفاته، وصاغ بها مبادئ علم الاجتماع وعلم التاريخ وغيرها.
ولم يسلم ابن خلدون من القراءات الإختزاليّة التي اعتمدها الكثيرون في محاولة تحييد الفكر الخلدوني، وإثبات ماديّته، واجتثاته من أصوله التوحيديّة الإسلاميّة، يقول صالح بن طاهر مشوش: "إنّ اعتماد ابن خلدون الكبير على مصادر الوحي ومعارفه، كوّن من فكره مناعة عرقلت مساعي الاتجاهات الماديّة لاجتثاثه من جذوره وتطبيقاته الإسلاميّة. هذه الخاصيّة الذاتيّة للأصوليّة الخلدونيّة، دفعت مجموعة من الباحثين إلى الالتجاء إلى مناهج متعدّدة لفهم مضامين 'المقدّمة' والعلاقات التي تجمع بعضها ببعض، آملين أن تساعدهم على تحييد الفكر الخلدونيّ، على الأقلّ تحت ذريعة الموضوعيّة وشروط التفكير العلميّ التي يستوحونها من الفلسفة الغربيّة، التي لا تتوافق مع خصوصيّات الفكر الإسلامي إلّا بنسبة قليلة. هذه المحاولات وإن بدأها المستشرقون، لكنّها بدأت تنتشر عند تلاميذهم الباحثين المسلمين، أمثال علي الوردي الذي ذكر في فصل 'ابن خلدون والقرآن' من كتابه، أنّ ابن خلدون قد استفاد من القرآن في بناء أسس نظريّته الاجتماعية 'استفادة غير قليلة'، خاصّة في ذمّه لظاهرة الترف التي حاربها القرآن، لكنّ هذا الاعتراف فقد معناه عندما ذهب إلى القول بأنّ استعمال ابن خلدون لمفهوم التّرف على سبيل المثال، يخالف تماما الخصوصيّات الدّلاليّة القرآنيّة للمفهوم، بعد أن قام ابن خلدون بتحويل ذلك المفهوم من إطاره الدّينيّ إلى إطار اجتماعي، ومن ثمّ فالفرق بينهما يكون كبيرا، لأنّ القرآن إنّما ذمّ الترف لكي يحذّر الناس من عواقبه السيّئة في دينهم ودنياهم، أمّا ابن خلدون فقد اعتبر التّرف أمرا اجتماعيّا محتوما لا بدّ من وقوعه في الحضارة".12 وكثيرة هي الانتقادات والمحاولات التي سعت -دون جدوى- إلى علمنة الفكر الخلدونيّ، والذي كان منيعا ضدّ كلّ المحاولات لأنّ ابن خلدون لمّا تطرّق إلى قضيّة الترف، لم يعزلها عن الإنسان باعتباره أصلا من أصول الرؤية الكونيّة والتّوحيديّة، وربطه بباقي الأصول، من حيث دراسة الظاهرة كمخالفة لأوامر الله، ومخالفة للطّبيعة الإنسانيّة، وفطرته النقيّة باعتبارها انحراف وميل عن الأصل في الطّبيعة البشريّة، وعن الخطاب الإلهيّ للإنسان بمنعه عنها، وابتعاد عن المهمّة الاستخلافيّة التي خلق الإنسان لأجلها، والمتمثّلة في عمارة الأرض بالخير والصّلاح والبعد عن الفساد.
ولا غرابة أن يولّي ابن خلدون هذه الأهميّة لقضيّة الترف باعتبارها معولا يهدم القيم داخل المجتمع، ويبعد أثرها في الإنسان الذي لا يتحقّق صلاحه إلّا باتّباع هدي النبوّة وتوجيهات الوحي.
هـ- الدّين:
لم يخف على ابن خلدون أثر الدّين وإحياء التديّن في النّفوس ودوره في نهوض الأمّة، وانبعاثها من جديد، لأنّه حين يغدو سلوكا بين المسلمين كما كان مع الرعيل الأوّل، حيث أعادوا صياغة شخصيّة الإنسان، وطبعوه بطابع الدّين الذي لم يكن فلسفة متعاليّة أو لغطا فكريّا كأيّ نسق من أنساق الفكر اليوم التي جرّت العقل إلى التّرف الفكريّ، مما أخرج الإنسان عن إنسانيّته بالتّفكيك والتّطبيع لهذا الكائن المتعالي عن المادّة، والمطالب بالتّعالي أكثر فأكثر عنها، بينما عاشه الرّسول صلى الله عليه وسلم نظام حياة وقيما تمثّلها من حوله في حياتهم، فأصبحوا بها قادرين على مواجهة التحدّيات الدّاخليّة ثمّ الخارجيّة، وإيصال دعوة الإسلام إلى النّاس.
هذا الدّين الذي انتظم به المجتمع في علاقاته ونظمه ومناهجه، خاضعا للّٰه تعالى خضوعا مخلصا، انعكس على أفراده فبدأ بتحريرهم من العبوديّة لأيّ موجود غير الله، ثمّ انتظموا بناظم الطّاعة للّٰه وحده في كلّ ما يأمر وما ينهى، تعبيرا منهم عن التزامهم الرّساليّ، وتنفيذا لمهمّتهم الحضاريّة، فحقّقوا وجودهم في الحياة، ودخلوا التاريخ فاعلين مؤثّرين في صنع الأحداث، وتوجيهها وفق الدّين القيّم، قال تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلّٰهِۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُۚ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.يوسف:40
وهنا ندرك أهميّة الدّين عند ابن خلدون، من حيث كونه المحرّك للجماعة والباعث لاجتماعها الفاعل، ومن ثمّ المنتج للعمران، والعمران الذي يقصده ابن خلدون يتّسع ليشمل كلّ جوانب الحياة وفق المنظومة القيميّة الإسلاميّة المستمدّة من الوحي، ليكون بها العمران في حقيقته التي غابت عن الفلاسفة الوضعيّين والمادّيين، أو التي غيّبوها عمدا لفصل علم العمران عن الرّؤية الكونيّة التوحيديّة، وجعل ابن خلدون مفكّرا مادّيا، بينما العمران عنده يعني مهمّة الإنسان الوجوديّة المتمثّلة في الاستحلاف، وهي مهمّة لا تنفصل فيها العبادة والطّاعة للّٰه عن تعمير الأرض ونشر قيم الخير والحقّ، حتّى يتسنّى للإنسان تحقيق إنسانيّته كلّما ارتقى ونجح في تحقيق وظيفته الوجوديّة، واجتهد في طاعة التّعاليم الإلاهيّة، والعمل بموجبها للإحاطة بأبعاد خلافته في الأرض، والجميع يدرك أنّ الإنسان بقدر ابتعاده عن الدّين تتحكّم فيه أهواؤه، ويضيع باتّباع اجتهاداته البعيدة عن توجيه الله سبحانه وتعالى، يقول السيّد محمّد باقر الصّدر عن الجماعة البشريّة أنّها "غير مخوّلة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وإنّما تحكم بالحقّ، وتؤدّي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده".13 والأنبياء -عليهم السّلام- هم من حملوا نور الهداية والحق إلى العباد وأخرجوهم من الظّلمات إلى النّور، وكلّ جهودهم تمركزت حول الإنسان، وإصلاح شؤونه الدّنيويّة والأخرويّة، يقول أبو الحسن النّدوي: "فالأنبياء يعملون على إخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور في مختلف مجالات الحياة، بتصحيح مسارهم الإنسانيّ على ضوء النّهج الإلهيّ السديد، وبذلك كان الأنبياء عليهم السّلام مؤسّسي حضارة ومدنيّة وعشرة، واجتماع وأسلوب من الحياة جديد خاص، جدير بأن يسمّى الحضارة الربّانيّة، ولهذه الحضارة أصول ودعائم وعلامات وشعائر، تمتاز بها عن الحضارات الأخرى، الحضارات التي تسمّى بالحضارات الجاهليّة"14 يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِۚ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾،الحديد:25 وفي الآية إشارة إلى أنّ باعث الحضارات هو الدّين الذي يبصّر الإنسان بحقائق الوجود والموجودات، ويعلّمه وظيفته في الدّنيا ومصيره بعدها، ويضعه في مكانه المناسب في الوجود ويعرّفه به ليكون عبدا للّٰه وسيّدا على الكون الذي سخّره الله له بخيراته حتّى يكون مسرحا يمارس فيه مهمّته الاستخلافيّة، وهذا كلّه يقوم به الأنبياء حملة النّور الإلهي إلى عباده، يقول عامر لكفيشي: "لذا كانت الأمم المتديّنة والشعوب المؤمنة أكثر إسهاما وعطاءً في إغناء وبناء حركة التّاريخ".15
وقد أولى ابن خلدون للدين والنبوّة اهتماما كبيرا، إدراكا منه للدّور الخطير الذي يلعبه الدّين في قضيّة الإنسان، وقد عبّر عنه بالفكرة الدّينيّة والتي تأثّر بها مالك بن نبي وجعلها العامل الذي بغيابه تنعدم الحضارة رغم وجود عناصرها الثّلاث وهي: الإنسان والتّراب والوقت، ويعطي لذلك مثالا دقيقا عن الماء فيقول: "فالماء في الحقيقة نتاج للهيدروجين والأكسجين، وعلى الرّغم من هذا فهما لا يكوّنانه تلقائيّا، فقد قالوا إنّ تركيب الماء يخضع لقانون معيّن يقتضي تدخّل 'مركّب' ما، بدونه لا تتم عمليّة تكوّن الماء".16 وهو هنا يريدنا أن ندرك أنّ الحضارة لا تتكوّن تلقائيّا بوجود عناصرها، وهو حال العالم الإسلاميّ وحال البشريّة جميعا، إذ هذه العناصر متوفّرة في أماكن كثيرة، لكنّها تخلو من وجود الحضارة، أي أنّ هذه العناصر تحتاج لتثمر حضارة إلى مركّب يمزج بينها، ويدفعها إلى المطلوب، هذا المركّب هو الفكرة الدينيّة، يقول مالك بن نبي: "وبالمثل لنا الحقّ في أن نقول إنّ هناك ما يطلق عليه 'مركّب الحضارة' أي العامل الذي يؤثّر في مزج العناصر الثّلاثة بعضها ببعض، فكما يدلّ عليه التحليل التاريخيّ الآتي مفصّلا نجد أنّ هذا 'المركّب' موجود فعلا، هو الفكرة الدينيّة التي رافقت دائما تركيب الحضارة خلال التاريخ، فإذا اتّضح صدق هذه الاعتبارات عن التفاعل الكيميائي الحيوي، وعن ديناميكيّة الواقع الاجتماعي، كان لنا أن نخطّط بطريقة ما مجال تطوّره كاطّراد مادّي نعرف قانونه".17 وجدير بالذكر أنّ مالك بن نبي لا يخصّ الفكرة الدينيّة الإسلاميّة وحدها بهذا الوصف، بل الفكرة الدينيّة مطلقا، إذ يرجع الحضارات كلّها في نشأتها إلى فكرة دينيّة هي التي تبعث الرّوح الفاعلة في عناصر الحضارة، يقول: "فالحضارة لا تنبعث -كما هو ملاحظ- إلّا بالعقيدة الدينيّة وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الدينيّ الذي بعثها، ولعلّه ليس من الغلوّ في شيء أن يجد التاريخ في البوذيّة بذور الحضارة البوذيّة، وفي البرهميّة نواة الحضارة البرهميّة"18 وهي حسب مالك بن نبي سرّ كونيّ له دوره الأساس في تركيب الحضارة، ونقل أهلها إلى بدء دورتهم الحضاريّة من لحظة فعل الفكرة الدّينيّة، ويواصل مالك بن نبي توضيحه قائلا: "فالحضارة لا تظهر في أمّة من الأمم إلّا في صورة وحي يهبط من السّماء، يكون للنّاس شرعة ومنهاجا، أو هي -على الأقلّ- تقوم أسسها في توجيه النّاس نحو معبود غيبيّ بالمعنى العام، فكأنّما قدّر للإنسان ألّا تشرق عليه شمس الحضارة إلّا من حيث يمتدّ نظره إلى ما وراء حياته الأرضيّة، أو بعيدا عن حقبته، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريّته وتتفاعل معها."19 أي أنّ مفعول الفكرة الدينيّة وأثرها على الإنسان أنّها تنبّهه إلى مسألة الوجود، والمصير والدور المنوط به، وتجيبه على الأسئلة الخالدة في هذه المسألة، ومتى عرفها الإنسان تغيّرت نظرته إلى الوجود نفسه، وإلى الإنسان، وإلى العمر وإلى المكان، وشحذت همّته نحو الأعلى فتسامى بها عن السّكون والفراغ الذي كان يملأ نفسه وفكره وحياته، يقول مالك بن نبي: "ومن المعلوم أنّ جزيرة العرب مثلا لم يكن بها قبل نزول القرآن إلّا شعب بدويّ يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباءً لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثّلاثة: الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصحّ مكدّسة لا تؤدّي دورا ما في التاريخ، حتّى إذا ما انجلت الرّوح بغار حراء -كما تجلّت من قبل بالوادي المقدّس أو بمياه الأردن- نشأت من بين هذه العناصر الثّلاثة المكدّسة حضارة جديدة، فكأنّما ولدتها كلمة 'إقرأ' التي أدهشت النبيّ الأميّ وأثارت معه وعليه العالم. فمن تلك اللّحظة وثبت القبائل العربيّة على مسرح التاريخ، حيث ظلّت قرونا طوالا تحمل للعالم حضارة جديدة تقوده إلى التمدّن والرقيّ"،20 والفكرة الدينيّة لا تتطلّب رجالا من طراز معين لتؤثّر فيهم كأن يكونوا من فطاحل العلماء، أو من عباقرة الزّمان، أو من رجالات السيّاسة والفكر، بل تنطلق شرارتها ممّا وراء الأفق القريب، لتتجلّى لهم أنوارها في عقولهم وأرواحهم وينقلب بها كيانهم الهادئ البسيط ليسمو في مقامات الحقّ والنّور، يقول مالك بن نبي: "نعم إنّه لمن الغريب أن يتحوّل هؤلاء البسطاء ذوو الحياة الراكدة، عندما مسّتهم شرارة الروح، إلى دعاة إسلاميّين، تتمثّل فيهم خلاصة الحضارة الجديدة، وأن يدفعوا بروحها وثبة واحدة، إلى تلك القمّة الخلقيّة الرفيعة التي انتشرت منها حياة فكريّة واسعة متجدّدة".21 وقد أعطى مالك بن نبي هذه المسألة أهميّة بالغة، وظهرت في طروحاته الحضاريّة كلّها لتكون القوّة الدّافعة لنشأة أيّة حضارة، ولا يفوتني توضيح أمر مهمّ لمسته عنده، وهو أنّه لا يقصد بالفكرة الدينيّة الفكرة المنبثقة عن الإسلام أو المسيحيّة أو غيرهما كدين، بل يقصد بها أيّة فكرة مستعلية عن ذات وواقع الإنسان، ولو كانت فكرة غيبيّة من واقع زمنيّ كما يعبّر عنه، أي فكرة في صورة مشروع اجتماعي بعيد الأمد يهدف إلى بناء مجتمع جديد، أي فكرة تطبع الفرد بطابع خاصّ وتوجّهه إلى غايات ساميّة، سواء أكان أصلها الوحي، أو أيّ مصدر غيبيّ آخر بغضّ النظر عن صدق مرجعيّته، وعن صحّة طرحه.
ويظهر تأثّر مالك بن نبي بالفكر الخلدونيّ في هذه النّقطة، أي في الفكرة الدّينيّة ودورها في قيام الحضارة واضحا، مع تنوّع في الطّرح افتضاه تغيّر الزّمان والأوضاع وبعد المسافة بين عصر ابن خلدون وعصر مالك بن نبي، لكنّ الفكرة واضحة والتأثّر واضح في فكر مالك بن نبي بعبقريّة ابن خلدون الذي أدرك أثر الدين أو الفكرة الدينيّة في الإنسان، وكيف أنّها عنده باعث للحضارة، بما لها من دور في تحديد مجريات حياة الإنسان والمجتمع، واهتمام ابن خلدون بالدّين والتديّن لم يكن لمحض صدفة أو من باب الاطّلاع، بل كان واقعا في حياته، فلا ننسى أنّه في تحصيله الأوّل للعلوم حفظ القرآن الكريم، وتتلمذ على يد كبار علماء الفقه وأصوله والحديث وعلومه وباقي العلوم المختلفة كما يذكر هو عن نفسه، يقول صالح بن طاهر مشوش: "للعلوم الشرعيّة دور عظيم في تكوين شخصيّة ابن خلدون وتبلورها، وذلك بشهادته الصريحة على نفسه، والتي لا يمكن إخفاؤها أو إقصاؤها أو تجاهلها، إذ لم يدع ابن خلدون لها مجالا للتأويل والاستنباط، فقد تولّى بنفسه عرض أجزاء هامّة من حياته العلميّة بداية من المراحل المبكّرة من عمره، في كتابه 'التعريف بابن خلدون'، لقد قدّم ابن خلدون تفاصيل هامّة، شملت قائمة العلوم الشرعيّة التي درسها وأجيز فيها، وأسماء العلماء الذين أخذ عنهم".22 وجهد ابن خلدون الكبير في التحصيل والاستيعاب مكّنه من تجاوز مرحلة "الرسم" إلى منزلة "الحال"، والتمثّل الذي يقع في نفس المتعلّم. وأضيف إلى ذلك التزام ابن خلدون بما حصل له من العلوم والمعارف وترجمتها إلى سيرة وسلوك في حياته، ومن المواقف الفرديّة التي ذكرها عن نفسه والتي تعكس استقامة سلوكه وحضور الوازع الدينيّ في تصرّفاته، مثل إهدائه للغازي تيمورلنـك (1336 1405م) بعد التفاوض معه وعقد الهدنة، مصحفا شريفا وسجّادة أنيقة، ونسخة من قصيدة البردة المشهورة في مدح النبيّ -عليه الصلاة والسّلام- لشرف الدين أبي عبد الله محمّد بن سعيد الدلاصي البوصيري (608 694هـ)،23 أمّا الحادثة الثانية فتمثّلت في رفضه دخول كنيسة القيامة عند زيارته لبيت المقدس بين عامي (801، 802هـ) لعداء أصحابها للإسلام وتكذيبهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللقرآن الكريم. من هذه المواقف وغيرها ندرك أنّ ابن خلدون لم يكن مجرّد جامع ومتقن للعلوم الدينيّة، إنّما كانت مكوّنا مهمّا من مكوّنات شخصيّته الأساسيّة من جهة، ومن جهة أخرى تمثّلها قيما أخضع لها سلوكه وتصرّفه، فغدت مناعة حصّنت فكره، ومنعت محاولات المستشرقين علمنته أو إدراجه ضمن الفكر الغربي المادّي.
و- التجربة الروحيّة:
لقد أولى ابن خلدون الفكر الدينيّ في المقدّمة أهميّة كبرى، تتمثّل في الفرصة التي قدّمها في هذا الجانب، وهي محاولة استرجاع صورة التحام المعارف الإنسانيّة وعلوم الوحي، وإخضاع هذه المعارف لمعاييره الشاملة باعتبار يقينها وثبوتها، وقد ظهر هذا الالتحام في علم العمران الخلدونيّ باعتباره علما نابعا من النّظرة القرآنيّة للإنسان وللوجود، والتي تجعل العلم مزيجا من الإبداع الإنسانيّ وقدراته الحسيّة والفكريّة الكبيرة التي زوّده الله بها، وكذلك الفتوحات الربّانيّة والإلهامات التي تتحقّق له بالمجاهدة والجهد في حصول العلم والإتّصال بعوالم عليا يعدّها ابن خلدون ما بعد الحسّ المشترك ويسمّيها "إتّصال الأجناس".24
والمتتبّع لما كتبه ابن خلدون عن نفسه في "التعريف" يدرك أنّ شخصيّته تبلورت بعد مروره بمراحل ثلاث، تتلو إحداهما الأخرى وتتميّز كلّ مرحلة عن سابقتها. تشكّلت شخصيّته بعد تحوّلات ثلاث هي: التحوّل الأوّل عن السياسة باعتزالها إلى التفرّغ للعلم والتدريس، ثمّ التحوّل الثاني إلى تزكية النفس واقتناء الفضائل، والثّالث إلى مباشرة الإصلاح في النفس والمجتمع، وقد كانت تحوّلات أوصلت ابن خلدون إلى حالة من الصفاء الروحيّ، والذي حسب ذكره أعانه على رسم صورة شاملة للاجتماع البشري التي قدّمها لنا في علم العمران.
إنّ هذه الأبعاد الدينيّة متأصّلة في فكر ابن خلدون، وفي شخصيّته، وظهرت في مؤلّفاته مثل كتاب "شفاء السائل" الذي عقد فيه فصلا للتصوّف مؤرّخا بذلك للعلوم المتداولة في العالم الإسلامي، وكانت دراسته للتصوّف كالعادة دراسة ناقدة، لم يتماهى معه كلّية لم يرفضه جملة وتفصيلا، بل درسه وتعمّق فيه كعلم وعاشه كحالة روحيّة، وكان كتابه "الشفاء" إبداعا ينمّ عن علم تفنّن الرجل في التمكّن منه وتمثّله في نفسه، قدّم من خلاله للقارئ صورة شاملة لتطوّر علم التصوّف، ووقف به عند طبيعة هذا الفكر الصوفي ومسائله ورجاله، "وهذه المعرفة شجّعت ابن خلدون على إعلان فتواه المشهورة ضدّ المتصوّفة، لينظمّ بذلك إلى جماعة من العلماء الذين سبقوه في نقد ومحاربة 'الطرقيّة'، -بلغة أهل المغرب- أو الصوفيّة المنحرفة التي ظهرت في المغرب والأندلس".25 وهذا الموقف كان ثمرة تقسيمه للطّريقة الصوفيّة إلى: الأولى سنيّة معتدلة، وهي ما عليه السلف مما يوافق الكتاب والسنّة، والثانية المبتدعة وهي طريقة المتأخّرين وما صدر عنهم من شطحات كابن عربيّ، وابن سبعين، وابن برجان. وقد أفتى بحرق كتب هؤلاء المنحرفين مثل "الفصوص" و "الفتوحات المكيّة" لابن عربي و "البند" لابن سبعين، و "خلع النعلين" لابن قسّي، حفاظا على الدين والمصلحة العامّة للمسلمين، وعدّه واجبا على أولي الأمر.26
وهذه المعايشة الروحيّة التي كان فيها ابن خلدون متحرّرا من تقاليد الطريقة وطاعة الشيخ، استفادها من القرآن الكريم مباشرة سلك فيها سبيل التطهّر، وقوّة الإيمان بالله ساعدته على الوصول بذهن صافي إلى إدراك الحقائق بطريقة عجيبة، أنتجت علم العمران بشقّيه العلمي والتطبيقي.
ولظهور أثر القيم الروحيّة في حياة ابن خلدون أستعرض ردّ فعله وتعامله مع الفاجعتين التي ألمّتا به، الأولى وتتمثّل في موت أبيه وشيوخه بسبب الطّاعون الجارف، وهي حادثة كفيلة بأن تجنح بالشاب نحو التشاؤم، لكن ردّ فعله كان ردّ العارف بأحوال النفس البشريّة والتي استلهمها من مصادر الوحي.
أمّا الثانية فتتمثّل في غرق أهله وعائلته كلّها في مرسى الإسكندريّة عند قدومهم إلى مصر، يقول صالح بن طاهر مشّوش: "هذه العبارات الزّاخرة بالمعاني الإيمانيّة لم يعشها فقط ابن خلدون فكريّا حين كان منكبّا على تأمّل العمران البشريّ، بل سيطرت كذلك على شعوره وأحاسيسه حين واجه أصعب حالات البلوى في حياته بغرق أهله عند قدومهم إلى مصر، إذ لم يصدر عن ابن خلون أي موقف أو سلوك مخلّ يمكن تأويله وفق نظرة تشاؤميّة على الطّريقة التي اشتهر بها فلاسفة أوروبا في العصر الحديث في الفترة ما بين الحربين العالميّتين، والتي بلغت ذروتها في الفلسفة الوجوديّة الفرنسيّة، بل كان رجلا محتسبا للّٰه وراضيا عن قدره، نطق في أثنائها بعبارات هادئة ومعبّرة قال فيها: 'ذهب الموجود والسكن والمولود فعظم المصاب والجزع، ورجح الزّهد'. و 'ذهب الموجود والمولود فعظم الأسف واختلط الفكر' و 'تلف الموجود والمولود وعظم الأسف وحسن العزاء، والله قادر على ما يشاء'. ولكنّه كان من جهة أخرى كما وصف نفسه: قانعا بالعافية التي سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربّه، عاكفا على تدريس العلم، أو قراءة الكتاب، أو إعمال القلم في تدوين أو تأليف مؤمّلا من الله قطع صبابة العمر في العبادة، ومحو عوائق السّعادة بفضل الله ونعمته".27
إنّ هذه المواقف لا يمكن أن تصدر إلّا من رجل تشبّع بقيم الإسلام الفاضلة، وتمثّل أخلاق القرآن الجليلة، وقد ظهرت جليّة في علم العمران البشريّ الذي استنتجه ابن خلدون من النّظر في أحوال الأفراد والشعوب والأمم والحضارات، وزنها بميزان القيم والأخلاق وتحكيم سنن اللهِ فيها ليطلّ على البشريّة بعلمه الجديد، ويستحقّ بصدق أن يكون أوّل منظّر لعلم الاجتماع الإسلامي، والذي سمح لعلماء وفلاسفة الغرب فيما بعد بتطوير علم الاجتماع المادّي الذي أفرغوه من أيّ محتوى أخلاقيّ قيميّ أو روحي يرقى به إلى إبداع الفكر الخلدونيّ في المجال نفسه.
ز-علم العمران والقيم:
إنّ المتأمّل في نصوص المقدّمة يلاحظ أنّ مصطلح "العمران" الذي سمّى به ابن خلدون العلم الذي توصّل إليه، مصطلح مركّب يتّسع مجاله الدلاليّ ليشمل معاني متعدّدة متشابكة تكسبه قوّة دلاليّة معرفيّة هامّة، وقد ربطه ابن خلدون بمجموعة من القضايا مركزها هو الإنسان وأحواله المختلفة، وكان مرجعه في ذلك الوحي، إذ دار معنى العمران حول الاستخلاف ببعده العقديّ، وحقيقته القرآنيّة، أشار فيه ابن خلدون إلى قضايا تتعلّق بالأحوال والطبائع الإيجابيّة: كالتمدّن، العزّة، الاستخلاف، المصلحة، التآنس، الحضارة، العلوم، الصنائع، الكسب وغيرها، وأخرى سلبيّة مثل: القلّة، الذلّة، التوحّش، العصابات، الخراب، السكون، الفساد، التبدّل، الترف، الاختلال وغيرها من المعاني التي تدخل في التحليلات والتفسيرات النظريّة للقضايا التي عالجها علم العمران.
وإذا تأمّلنا فيما سبق من الأحوال والطبائع بشقّيها ودور كلّ صنف منها في قيام المجتمعات وتطوّرها والحضارات وازدهارها، أو في سقوط المجتمعات والحضارات، نلاحظ أنّ المنظومة القيميّة الإسلاميّة هي التي يشير إليها ابن خلدون باستنتاجاته والسنن التي توصّل إليها كقواعد لعلمه، والذي أثبت صلاحيّته لوقتنا الحاليّ في معالجة القضايا المطروحة على الإنسانيّة بعد مرور 600 عام عليه. وهذه الصلاحيّة يضمنها الصّدق، واليقين المتضمّن في الفكر الخلدونيّ الخصب والذي مازال بكرا في جوانب كثيرة منه، ينتظر أن تنطلق فيه جهود الباحثين المسلمين للإفادة منه، ومقاربته بمشاكل الأمّة الإسلاميّة لتنبعث من جديد وتحقّق شهادتها الضائعة على الأمم وتنير طريق الإنسان الحائر في خضمّ الحداثة وما بعد الحداثة والتي تزيد في تكريس تيهه وضياعه.
ولعلّ أكثر ما يحزّ في النّفس أنّ هذا الفكر مازال غريبا بين أهله ومستهدفا من أعداء الأمّة بمحاولة استئصاله من جذوره التوحيديّة الإسلاميّة وإفراغه من محتواه الروحي والأخلاقيّ، وبعده العقديّ الإسلاميّ، في غفلة من الفكر الإسلاميّ الذي يجب أن يحييه بتفعيله في حياة المسلمين والخروج من أزمة القيم التي يتخبّط فيها الإنسان المعاصر، ولا يكون ذلك إلّا حين نفهم أنّ مشكلة الحضارة هي مشكلة الإنسان، ومشكلة الإنسان هي فقدان التوازن بين المادّة والروح، وفقدان القيم وخلوّ الحياة منها، لينحدر الإنسان بهذا الفقد من كونه خليفة وسيدا في الكون، إلى كائن مدمّر يهلك الحرث والنّسل ثمّ يدمّر نفسه بعد تدمير الكون عوض تعميره، والسموّ بالإنسان في مقامات الخير والصّلاح، والوصول إلى السعادة التي جعلها ابن خلدون مقصد الإنسان القريب والبعيد، فسعادته القريبة تكون بتحقيق العمران والعزّة، وإتقان مهمّة الاستخلاف، وسعادته البعيدة تكون الفلاح يوم القيامة وأداء الأمانة التي أعجزت باقي المخلوقات ولم يقوَ على حملها إلّا الإنسان.28
وهكذا، انطلق علم العمران الخلدونيّ من القيم نحو إصلاح الإنسان والحياة، وتحقيق الخير والرّخاء تحت أنظار سلطان الشّرع، ووازع الدّين لنقل الإنسان والمجتمع إلى الحضارة والتمدّن والرخاء، وضمن دوام الخير بدوام القيم والبعد عن التّرف والفساد وضياع الأخلاق.
إنّ أنموذج الفكر الخلدونيّ والحقائق والقوانين التي توصّل إليها، ما تزال صالحة يمكن إحياؤها وتفعيلها، والإفادة منها لتنظيم العمران وبعث الحضارة بعد حلّ المشكلات التي تعاني منها الأمّة الإسلاميّة حاليّا، وتنظيم حياتنا على خطّ العبوديّة والاستخلاف، الذي يحقّق نهوضنا من جديد.
خاتمة:
وأخيرا تخلص هذ الورقة البحثيّة إلى إثبات مركزيّة الإنسان في الفكر الخلدوني، القائم على تصوّره ضمن دائرة الاستخلاف ومخاطبته وفق فطرته المستقيمة الأولى. ومن هنا تأتي ضرورة توجّه الباحثين المسلمين إلى دراسة مباحث علم العمران في ضوء الرؤية الكونيّة التوحيديّة، لتحقيق ما نظّر له ابن خلدون من سبل إصلاح المجتمع المسلم وفهم خصوصيّاته، وصياغة حلول مناسبة للمشاكل المتعلّقة بالإنسان، ولم لا تحويل الفكر الخلدوني إلى فكر عمليّ تطبيقيّ يترجم قوانين العمران البشريّ إلى آليات توصل إلى الإصلاح، وتبعث الحركة في المجتمعات الإسلاميّة من جديد.
والله المستعان.
* * *
قائمة المصادر والمراجع:
- البخاري، أبو عبد الله محمّد ابن اسماعيل، الجامع الصّحيح، رواه أبو هريرة، حديث صحيح رقم 4775، تحقيق: محمود فجال، الذمام، منشورات نادي المنطقة الشرقية 1995م، ج 14، ص 159-160.
- ابن الخطيب، لسان الدين، الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمّد عبد الله عنان، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1975م، ج3، ص 497-498.
- صالح بن طاهر مشوش، علم العمران الخلدونيّ، ط1، 1433هـ-2012م، المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، مكتب التوزيع في العالم العربي، بيروت، لبنان، ص 86.
- ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق الشدادي، ج1، ص197.
- المرجع السابق، ص، 197.
- عبد الرّحمن النحلاوي، التربية بضرب الأمثال، دار الفكر، دمشق 1998م، ص 238.
- ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق الشدادي، ج1، ص 285.
- عبد الرحمن بن خلدون، المقدّمة، تحقيق الشدادي، ج 1، ص 205.
- صالح بن طاهر مشوش، علم العمران الخلدوني، وأثر الرّؤية الكونيّة التوحيديّة في صياغته، ط1، 2012م-1433هـ، المعهد العلمي للفكر الإسلامي، مكتب التوزيع في العالم العربي بيروت، لبنان، ص 320- 321.
- السيّد محمّد باقي الصدر، خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء، ط2، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1399هـ-1979م، ص16.
- أبو الحسن النّدوي، النبوّة والأنبياء في ضوء القرآن، ط5، دار القلم، دمشق، (1400هـ-1980م)، ص 98.
- عامر الكفيشي، حركة التاريخ في القرآن الكريم،ط1، دار الهادي، بيروت، (1424هـ-2003م) ص 306.
- مالك بن نبي، شروط النهضة، ط11، 1433هـ-2012م، دار الواعي للنشر والتوزيع، الجزائر، ص 50.
- نفسه ص 50.
- نفسه ص 56.
- مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 56.
- نفسه،ص 57.
- نفسه، ص 57.
- صالح بن طاهر مشّوش، علم العمرن الخلدوني، ص 67.
- ابن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، تحقيق محمّد بن تاويت الطنجي، القاهرة: لجنة التأليف والنّشر، 1951م، ص 377.
- المرجع نفسه، ص 350.
- صالح بن طاهر مشّوش، علم العمران الخلدوني، ص 106.
- صالح بن طاهر مشّوش، علم العمران الخلدوني، ص 113.
- ابن خلدون، شفاء السّائل، في تهذيب المسائل، تحقيق: محمّد بن تاويت الطنجي، مطبعة عثمان بالسين، إسطنبول 1958م، ص 111.
- صالح بن طاهر مشّوش، علم العمران الخلدوني، ص (112-113).
* * *
الهوامش:
1 استاذة مساعدة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلاميّة، قسنطينة الجزائر. كليّة أصول الدين، قسم العقيدة ومقارنة الأديان.
2 حسين طه، فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة، تحليل ونقد، ترجمة محمّد عبد اللّٰه عنان، مصر، مطبعة الاعتماد بشارع حسن الأكبر، 1925م، ص 56.
3 ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق عبد السلام الشدادي، ط1، بيت الفنون والعلوم و الآداب، 2005م، الدار البيضاء، المغرب، ج 1، ص 290.
4 المرجع السابق، ص 125.
5 المرجع السابق، ص 125.
6 البخاري، أبو عبد اللّٰه محمّد ابن اسماعيل، الجامع الصّحيح، رواه أبو هريرة، حديث صحيح رقم 4775، تحقيق: محمود فجال، الذمام، منشورات نادي المنطقة الشرقية 1995م، ج 14، ص 159-160.
7 ابن الخطيب، لسان الدين، الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمّد عبد اللّٰه عنان، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1975م، ج3، ص 497-498.
8 صالح بن طاهر مشوش، علم العمران الخلدونيّ، ط1، 1433ه-2012م، المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، مكتب التوزيع في العالم العربي، بيروت، لبنان، ص 86.
9 ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق الشدادي، ج1، ص 197.
10 المرجع السابق، ص 197.
11 عبد الرّحمن النحلاوي، التربية بضرب الأمثال، دار الفكر، دمشق 1998م، ص 238.
12 ابن خلدون، المقدّمة، تحقيق الشدادي، ج1، ص 285.
13 عبد الرحمن بن خلدون، المقدّمة، تحقيق الشدادي، ج1، ص 205.
14 صالح بن طاهر مشوش، علم العمران الخلدوني، وأثر الرّؤية الكونيّة التوحيديّة في صياغته، ط1، 2012م-1433هـ، المعهد العلمي للفكر الإسلامي، مكتب التوزيع في العالم العربي بيروت، لبنان، ص 320- 321.
15 عامر الكفيشي، حركة التاريخ في القرآن الكريم، ط1، دار الهادي، بيروت، (1424ه-2003م) ص 306.
16 مالك بن نبي، شروط النهضة، ط11، 1433هـ-2012م، دار الواعي للنشر و التوزيع، الجزائر، ص 50.
17 نفسه ص 50.
18 نفسه ص 56.
19 مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 56.
20 نفسه،ص 57.
21 نفسه، ص 57.
22 صالح بن طاهر مشّوش، علم العمران الخلدوني، ص 67.
23 ابن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، تحقيق محمّد بن تاويت الطنجي، القاهرة: لجنة التأليف والنّشر، 1951م، ص 377.
24 المرجع نفسه، ص 350.
25 صالح بن طاهر مشّوش، علم العمران الخلدوني، ص 106.
26 صالح بن طاهر مشّوش، علم العمران الخلدوني، ص 113.
27 ابن خلدون، شفاء السّائل، في تهذيب المسائل، تحقيق: محمّد بن تاويت الطنجي، مطبعة عثمان بالسين، إسطنبول 1958م، ص 111.
28 صالح بن طاهر مشّوش، علم العمران الخلدوني، ص (112-113).